AZZA
AZZA
أعمدة

النادي الثقافي .. يستدعي فن «النهمة»

23 يناير 2019
23 يناير 2019

د.عزة القصابي -

تزخر سلطنة عمان برصيد ثقافي ثري يكتنز بمجموعة من المفردات والمعاني التراثية المادية، وغير المادية. تندرج الفنون الشعبية ضمن قائمة التراث غير المادي الذي يشمل الموروث الشعبي المروي والأهازيج الراقصة والأغاني الشعبية التي تعكس فكر وعادات المجتمع العماني وتقاليده المترسخة في ذاكرة وثقافة الأجداد.

ومن لجة البحر، وأمواجه العاتية، ولدت الفنون التي امتزجت بأفراح وأحزان البحارة، عندما كانوا يركبون السفن الشراعية في رحلات طويلة لا يعلمون مصيرها، ولكن حب البقاء والإرادة دفعهم للسير قدما، كما أنهم بحثوا عن فنون بحرية تساعدهم في التنفيس عن الذات والشروع في المغامرة والسفر والترحال.

تعدد أنماط الفنون الموسيقية التقليدية التي تعكس ثقافة الشعوب وأسلوب حياتهم منذ القدم وحتى الآن، عبر منظومة فنية متصلة في منطقة دول الخليج العربية، التي تقع على سواحل بحرية وتضاريس جغرافية فريدة، جعلت الفنون البحرية الخليجية تتشابه في الحركة، والطرب، والإيقاع اللحني، والأدوات الموسيقية التي صنعها الإنسان الأول من منتجات البيئة المحيطة لتكون وسيلة طربية له.

دونما شك، للإنسان الخليجي تاريخ بحري عريق منذ القدم، واعتبره البعض مصدرا للرزق والحياة، وهو وسيلة للسفر والعبور إلى الضفة الأخرى. وتتقارب دول الخليج العربي في الإرث الشعبي والتاريخي، ومنها الفنون التقليدية التي تقدم في المناسبات الاجتماعية والدينية والموسمية، ويمكن تصنيفها حسب المناسبة أو المكان الذي تؤدي فيه، فهناك الفنون التقليدية التي ترتبط بالحصاد والرعي والصيد البري وتربية الجياد والإبل، والأغاني ذات الصلة الوشيجة بحياة البحارة في متن السفن.

تعدد الفنون البحرية في مضامينها وأشكالها وزمانها ومكانها ذات الدلالات والمظاهر الاجتماعية، ويعول على الغناء البحري اللحني عبر الرحلة الطويلة، التخفيف عن البحارة والمسافرين من عناء السفر الذي يستغرق لعدة أشهر.

وتؤدي هذه الفنون أثناء رفع أشرعة السفينة وممارسة الصيد وغيرها من النشاطات التي تؤدى في عرض البحر. تأخذ الفنون البحرية أشكالا متعددة، منها : «اليامال والخطفة والحدادي الأهازيج والنهمات البحرية» .

تتميز سلطنة عمان بوجود فنون بحرية مغناة مثل «الشوباني والنهام والمديمة»، وسنتوقف عند (فن النهمة)، وهو عبارة نوع من أنواع الفنون يؤديه (النّهام)، وبدونه لا تكتمل دائرة الطرب البحري على متن السفينة.

مؤخرا، قدم النادي الثقافي جلسة حوارية بعنوان «النهمة» في إطار الاهتمام بالتراث الموسيقي البحري العماني. وأفاض الباحثون في الحديث عن فن التصويت(النهمة) وتوضيح هذا الفن التراثي بوصفه أحد الفنون البحرية العمانية.

تعني النّهْمة - بتشديد النون وتسكين الهاء- بلوغ الهمة أو الصوت الزجر بقصد تشجيع الناس ودفعهم للحركة وممارسة فنون الإبحار الأخرى. مع مرور الزمن عرفت «النهمة» كفن طربي بحري يستنهض همم البحارة لمواصلة الرحلة ومقارعة الأمواج والعواصف والعمل الشاق على متن السفن الشراعية. ويؤدي ذلك الفن وفق قواعد خاصة في الأداء الحركي والغناء الجماعي الفلكلوري أثناء السفر والترحال في البحر، بمرافقة الأدوات الموسيقية التقليدية.

يقوم بقية البحارة المشاركين بدور الجوقة أو الكورس أو الكورال الذين يرددون الموال البحري في انسجام غنائي، وتناغم لحني يمنحهم القوة والإرادة لتخفيف ما يشعرون به من ألم الفراق والبُعد عن الوطن الذي يستمر لسنوات، وهذا التفاعل الاجتماعي الفني جعل البحارة على ظهر السفينة، يشدون أزر بعضهم البعض لتحمل المشاق والصبر، ويكثرون من الابتهالات والدعاء للوصول إلى وجهتم بأمن وسلام.

يصدح النهام بفنّ «النّهمة» الذي يلقى صدى في أرواح المسافرين في ظل الظروف المناخية والمسافات الطويلة، مرددين الأهازيج البحرية. إذ يمنحهم صوت «النهام» الهمة والشجاعة للمواصلة وهم ينصتون لصوته الشجي، ويرددون معه المواويل الشعبية التي تحرك شجونهم وتمدهم بالطاقة والحيوية.

ويتصف النهام بحدة الصوت وتعدد طبقاته بأسلوب يجعل الناس يتفاعلون معه، فصوته يمنحهم الطاقة الإيجابية؛ حيث كانت الأهازيج تبدأ بذكر الله، وفي الغالب فإن الرحلة البحرية لا تخلو من ثلاثة نهامين، يتقاضون مبلغا من المال نظير قيامهم بهذا الفن، ونلمس التقارب الكبير بين الفنون الشعبية وبالتحديد البحرية في منطقة الخليج العربية، نظرا للسفر والترحال. فعلى سبيل المثال يقترن فن النهمة بفن «اليامال» الذي يعد فنا مشاعا بحريا بمعناه الواسع، فهو خليط من الفنون العدنية والخليجية والهندية والأفريقية، جاء نتيجة للانفتاح هذه الشعوب على الخليج والمحيط الهندي الذين استلهموا من هدير البحر وصرير الصواري فنونا بحرية متقاربة.

وفي إطار الاهتمام بالتراث الموسيقي البحري في سلطنة عمان، أقام النادي الثقافي جلسة حوارية بعنوان فن الصوت (النهمة) شاركت فيها مجموعة من المهتمين بالفنون الشعبية، بمعية الحضور الذين سعوا إلى التعريف بهذا الفن الذي ينطق بهوية عمان وتاريخها. ركزت الجلسة على توضيح هذا الفن التراثي بوصفه أحد الفنون البحرية العمانية.

قام الباحث جمعة بن خميس العلوي بتقديم ورقة عن «أنواع فن الصوت وكيفية أدائه» تتحدث عن حياة البحارة العمانيين على ظهر السفينة. بمصاحبة الشلات البحرية للتخفيف والترفيه المتضمنة كلمات وألحان معبرة عن المعناة، والدعاء بسلامة الوصول إلى أرض الوطن والأهل.

قدمت ورقة الشيخ حمود بن حمد الغيلاني «فن الصوت تاريخه وأهمية أثره بالنسبة للبحار»، تعريفا بمميزات هذا الفن وأوجه التشابه والاختلاف بينه وبين الفنون البحرية الأخرى. ومظاهر الاحتفال بالفنون الشعبية البحرية ضمن النسق الاجتماعي للإنسان العماني. كما أفاض الباحث في الحديث عن الفن الصوتي البحري (النهمة)، وتوضيح طبقات الصوت المستخدمة فيه، وأهمية الشلات البحرية في هذا الطقس الفني الذين يكتمل بمشاركة الجميع.

وعقب انتهاء الجلسة الحوارية كان الجانب التطبيقي لكيفية أداء هذا الفن بحضور (النهامين) المصوتين الذين رددوا أغاني النهام، بمصاحبة الألحان والإيقاع والطرب.

وفي نهاية رحلتنا البحرية هذه التي كانت برفقة فنون البحر وأشجانه وأحلامه، وأهازيجه التي جعلتنا نستمع إلى «النهمة»، هذا الفن القديم الذي اقترن بحجرة النهام الذي أصر على أن يبهج الآخر بشالته؛ لتأكيد خلوده وتوارثه عبر الأجيال؛ فهو صامد في وجه الزمن، مثلما فعل البحارة في رحلاتهم الشاقة التي كان لا يعلم مصيرها إلا الله.