أفكار وآراء

الشرق الاوسط.. معالم وملامح الصبغة الروسية

18 يناير 2019
18 يناير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

ضمن علامات التغير الجيوبوليتيكية الواضحة للغاية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدا خلال نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وبدايات العقد الثالث يأتي الحديث عن الفراغات التي تخلفها من ورائها الولايات المتحدة الأمريكية وبقوة وتستطيع روسيا بالفعل أن تملأها بحضور كبير.

تاريخيا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية أضحت الولايات المتحدة الأمريكية هي الوريث الشرعي للنفوذ القديم لقوى الاستعمار التقليدية لاسيما بريطانيا وفرنسا غير انه ومنذ الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 بدا وكان هناك توجه داخلي للانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط وساعد في ذلك أن واشنطن وللمرة الأولى أضحت قوة احتلال غير مرغوبة كما الحال في العراق.

والشاهد انه مع الرغبة الأمريكية الأخيرة في الانسحاب من الشرق الأوسط والتي تبدت بنوع خاص في تغريدة الرئيس ترامب عن الانسحاب من سوريا كان السؤال هل بات اصطباغ الشرق الأوسط بصبغة روسية قدر مقدور في زمن منظور؟

المؤكد أن العالم العربي والإسلامي اليومي في مواجهة خطوط طول وعرض روسية غير تلك التي عرفوها طوال سبعة عقود للشيوعية فروسيا اليوم غير معادية للأيمان والأديان وكما رأينا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تلعب دور حاضنة للتاريخ والتراث القيصري نشهد الآن صحوة للمسلمين هناك ونرى الرئيس بوتين يفتتح منذ سنوات اكبر مسجد في الداخل الروسي ما يدلل على أن فكرة الأيديولوجيا لم تعد مصاحبة للسياسات الروسية كما كان الحال من قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك جمهورياته.

والمؤكد انه على الرغم من كافة الصعوبات التقليدية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية في طريق روسيا شرق أوسطيا إلا أن الأخيرة استطاعت أن تحقق نجاحات واضحة بعينها في اكثر من دائرة نفوذ مهمة للغاية وفي دول مركزية في المنطقة.

يمكن تعميق التحليل بالرجوع بنوع خاص إلى ثماني سنوات إدارة الرئيس باراك اوباما وفكرته عن القيادة من خلف الكواليس وعدم اقترابه من المناطق الساخنة لاسيما سوريا مع الأخذ في عين الاعتبار الشبهات العديدة التي تدور حول علاقة الرجل بجماعات الإسلام السياسي وتشجيعها في المنطقة، الأمر الذي اعترف به وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في جولته الشرق أوسطية الأخيرة وبنوع خاص خلال لقائه وخطابه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

استطاعت روسيا أن تجد لها اكثر من موضع قدم في المنطقة وما تدخلها في سوريا إلا إدراكا واستباقا منها لما كان مخطط للجماعات الراديكالية من أدوار متقدمة لاحقا في الصين وروسيا وقد جاء التدخل الروسي في سوريا بناء على طلب رسمي من الحكومة السورية الأمر الذي اسبغ على الدور الروسي هناك شرعية ما، هذا في ظل المقاربة مع الدور الأمريكي في العراق على الأرض غير المحبوب أو المرغوب والذي لايزال حجر عثرة لا زاوية ملتقى.

ولان بوتين كما يقال يعرف إن عصر الأيديولوجيا قد ولى إلى غير رجعية لذا فانه يتبنى إسراتيجية الجمع بين اهتمامين: تلبية حاجات الاقتصاد وبناء أحلاف سياسية داعمة لها على أساس المصالح المتبادلة للمتحالفين وهذه تبني توازنا مقبولا بين البائع والشاري في وسط أجواء سياسية محترمة.

احد اهم المربعات التاريخية للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط كانت مصر ذلك الحليف الموثوق للولايات المتحدة طوال أربعة عقود أي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 إلا أن هذا التحالف قد تعرض ولاشك لاهتزازات قوية للغاية منذ العام 2011 أي السنة التي جرت فيها الاضطرابات السياسية وتنحي الرئيس مبارك عن الحكم واستمر الوضع على هذه الصعوبات حتى رحيل اوباما ولم تبدأ الأمور تتغير وملامح السياسة الأمريكية الجديدة تتضح بإيجابية ما قبل وصول الرئيس ترامب إلى سدة الحكم.

في تلك الفترة تعاملت واشنطن مع القاهرة بطريقة فوقية استعلائية لاشك في ذلك بل وصل الأمر حد التهديد بقطع المساعدات العسكرية والتأثيرات الاقتصادية الأمر الذي أدى إلى إعادة القاهرة قراءة المشهد السياسي الدولي بعين براجماتية مرة جديدة وأعادت ضبط المسافات ما بين واشنطن وبقية عواصم العالم المتقدمة وفي المقدمة منها موسكو.

والمؤكد أن كيمياء ما انسجمت بين الرئيس السيسي والرئيس بوتين أدت إلى انجاز مراحل مهمة ومتقدمة على صعد مختلفة فعلى الصعيد العسكري على سبيل المثال نجحت العلاقات المصرية ـ الروسية في إعادة مسارات التسلح من جديد بعد أن كانت قصرا على الأمريكيين، ومن ناحية البناء والتنمية جاء الإعلان عن المفاعل النووي المصري في منطقة الضبعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط الأمر الذي يعني طاقة كهربائية متجددة وبسعر رخيص، ما يزخم وبقوة الحياة الاقتصادية وعجلة التنمية المصرية التي تأخرت كثيرا لاسيما بفعل ما اطلق عليه زورا الثورات أو الانتفاضات الوهمية إلى جانب ذلك عقدت بين القاهرة وموسكو عشرات الاتفاقات الخاصة بالتبادل الاقتصادي وبناء مصانع روسية جديدة على الأرض توفر عشرات الآلاف من فرص العمل للمصريين، ناهيك عن إعادة الصيانة لمجموعة المصانع التي بناها الروس في مصر في زمن عبد الناصر، والتي اعتبرت ولاتزال ثوابت في هياكل البنية التحتية المصرية، دون أدنى شك، وقليلا قليلا تعود السياحة الروسية مرة جديدة إلى مصر بعد الانتكاسة التي حدثت من جراء إسقاط الطائرة الروسية في سيناء عام 2015 بفعل الأيادي الأصولية والتي لاهم بها سوى تخريب الاقتصاد المصري، وليس سرا القول إنها أياد متشابكة مع خطوط الإمبريالية الدولية في الحال والاستقبال.

من بين مراكز القوة المتقدمة شرق أوسطيا والتي تعرضت فيها روسيا لحالة من حالات التهجير القسري أن جاز التعبير تأتي ليبيا في المقدمة تلك التي تحاول واشنطن وبكل ما أوتيت من قوة أن تنزعها من الأرض الليبية.

غير أن روسيا باتت محل ومحط أنظار وزيارات القيادات الليبية في أزمنة الخواء السياسي الذي تعيشه الجماهيرية، وبات من الواضح جدا أن الروس سيكون لهم دور في عملية إعادة ترتيب الوضع السياسي الليبي من الداخل مرة جديدة، وبنوع خاص نرى دعما واضحا من موسكو لسيف القذافي ومالات وتطورات الأوضاع في الداخل هناك، عطفا على أن روسيا تكاد تكون القوة الكبرى الوحيدة التي توافق على تزويد الجيش الليبي بالسلاح، لحماية الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تعمل ليل نهار على بث الفتنة في البلاد، وتهديد امن دول الجوار، لاسيما مصر، والتطلع لاختراق لقارة الإفريقية بنوع خاص.

يتساءل الكثيرون عن سر نجاح روسيا في الشرق الأوسط والجواب واضح أنها أدركت حتمية التعاون الثنائي الخلاق والبناء وبعدت كثيرا جدا عن فكرة اليد العليا التي تامر فتطاع، ولهذا وجدت الكثير من الحلفاء يمدون لها الأيادي.

والثابت انه حين أوقعت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على روسيا فان حلفاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط امتنعوا جميعا عن ممارسة تلك العقوبات تجاه موسكو الأمر الذي يعد بالفعل نجاحات للسياسات الروسية الحريصة على السعي في مسارين الأخذ والعطاء، ما وفر للروس غطاء إضافيا اقتصاديا يغنيها عن الاعتماد بالكلية على الصين، وهي التي تعلم علم اليقين أن الصينيين هم وبالدرجة الأولى منافسون قائمون وقادمون في شرق آسيا.

لم تتوقف مربعات القوة الروسية عند الدول العربية فقط فالناظر للخريطة السياسية الروسية يدرك تمام الإدرك أن هناك نجاحات بعينها حققتها الدبلوماسية الروسية فيما خص العلاقات مع إيران، ففي حين انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران لاتزال العلاقات بين طهران وموسكو قوية ومتينة وأوجه التعاون على اكثر من صعيد سواء كان ذلك بالنسبة لصعيد المشروع النووي الإيراني أو الدعم السياسي لإيران في المحافل الدولية لاسيما مجلس الأمن حيث تشكل روسيا حائط صد ورد وعامل أمان للإيرانيين في مواجهة التوجهات الأمريكية جهة إيران والمعروفة للقاصي والداني.

منذ بضعة أيام كانت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية القريبة من دوائر النفوذ في البيت الأبيض تكتب عن روسيا التي تتمكن يوما تلو الآخر من تعميق حضورها الشرق أوسطي ولا توفر الصحيفة الإشارة إلى أن هذا الحضور لابد له من أن يقتطع الكثير من النفوذ الأمريكي على الأرض.

تلاحظ الواشنطن بوست انه خلال العام الماضي توجه العديد من الرؤساء والزعماء والملوك العرب إلى موسكو وجل هؤلاء حلفاء لواشنطن، وكان من المفترض أن يخصصوا تلك الرحلات لواشنطن لا لموسكو إلا أن الأخيرة تبدو وكأنها القوة الكبرى الدولية العائدة من جديد إلى سماوات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد ثلاثة عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي…

هل لعب الرئيس الروسي فلاديمير وبوتين دورا خاصا ومهما في هذا الإطار؟

اغلب الظن أن ذلك كذلك بالفعل فالرجل وبما له من كاريزما خاصة ومصداقية واضحة وأثبتت للجميع شرق أوسطيا انه صديق وحليف يمكن الاعتماد عليه بدرجة كبرى وقد كان الميدان الروسي البرهان المؤكد على ذلك، حتى وان كانت له مصالح ذاتية مفهومة في سياق التنافس على رقعة الشطرنج الإدراكية الدولية حتى الساعة.

المقاربة بين بوتين الذي ساند مصر وحذرها من الجماعات الرديكالية التي أرادت أن تخطفها إلى مناطق مظلمة وبين اوباما على سبيل المثال الذي صرح المتحدث الرسمي باسمه بان على رئيس مصر أن يغادر منصبه الآن لايمكن أبدا أن تصب في خانة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط بل وستضحى ولاشك الرصيد مضاف الروس في الحال والاستقبال.

هل تعميق الحضور الروسي في شمال شرق إفريقيا العربي يعد مفتاحا لطموحات اكثر في القارة الإفريقية خلال العقد القادم؟

تقول دراسات متعددة أن بوتين يسعى لاستعادة الأمجاد الروسية عبر البوابة الإفريقية بنوع خاص، سيما وان الجميع يجمع على أن القرن الحادي والعشرين سيشهد صراعا حادا بين روسيا وأمريكا والصين على موارد افريقيا الطبيعية، وعلى جغرافيتها المثيرة للتأمل وموقعها الدولي، وها نحن نراها توسع دائرة علاقاتها افريقيا ومن جديد وفي محاولة لا تخطئها العين لتعويض خسائر لحقت بنفوذها في قلب القارة السمراء خلال العقود الماضية والحديث عن روسيا في افريقيا قصة أخرى.هل نحن أمام شرق أوسط مختلف عما عهدناه العقود الأربعة الماضية ؟ بلاشك هذا صحيح سيما في ضوء التطورات والتغيرات الجيوسياسية والجيوبولتيكية حول العالم برمته، وفي كل الأحوال تحرز روسيا أهدافا استراتيجية في مرمى خصمها العنيد والعتيد الولايات المتحدة الأمريكية.