المنوعات

النص بين المركز والهامش في النظريات النقدية

17 يناير 2019
17 يناير 2019

لطالما كان النص الأدبي بين شد وجذب في النظريات النقدية من قديمها لحديثها، بين من يجعله مركزا وبين من يعلي عليه أحد طرفي العملية الاتصالية الآخريْنِ، والناظر إلى تاريخ هذه النظريات ليدرك أن فلسفة التوجهات النقدية تذهب في ثلاث مسارات: المسار الأول ذهب إلى ما قبل النص، وأعطانا ما عرف بالنظريات اللانصية حيث يرى أن المعنى يقع خارج النص، في الزمان والمكان والمجتمع وغيرها من السياقات السابقة والمحايثة للنص، وبهذا فإن هذا التيار يكون قد أعطى دورا هامشيا للنص يكون فيه النص أشبه بالوسيلة المعبرة عن مؤلفه وعصره ومجتمعه ومكانه وغيره من الفضاءات المحيطة به.

وانبثقت من هذا التوجه عدد من المناهج النقدية، والتي أصبحت تعرف بالمناهج القديمة، من مثل المنهج التاريخي والمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي، وغيرها من المناهج التي تبحث عن المعنى في خارج النص، فلا يمكن وفق هذه المناهج أن يكتمل المعنى إلا من خلال البحث في السياق المتعدد الذي ولد فيه واستمد وجوده منه، فلكي تفهم على سبيل المثال نصا للمتنبي وتعطيه المعنى المناسب فعليك العودة إلى شخصية المتنبي ونفسيته وما يتعلق بها وتدرسها جيدا وتدرس العصر العباسي الذي قيلت فيه والمكان الذي قالها فيه والمناسبة التي قيلت فيها وغيرها من الأمور المحيطة بالنص.

ونعتقد إن إشكالية هذا التيار اللانصي في أنه يقتل النص بربطه بسياق معين حيث يغدو غير قادر على توليد معانٍ جديدة وغير صالح للقراءة المفتوحة، وإنما ذو قراءة محددة سلفا لا تسمح بالتعدد، ولعل هذا التيار كان وليد عصور ذات فكر واحد لا يقبل الآخر ورأيه.

وهنا أيضا يبرز سؤال ملح عن شعرية النص وقيمته مع تحوله إلى ما يشبه الوثيقة سواء التاريخية أو الاجتماعية أو النفسية، فالأصل إن قيمة النص الشعرية تكمن في ذاته فبالتالي قراءته لذاته، بغض النظر عن العصر أو الجغرافيا الذي ينتمي إليه، أما وفق هذا التوجه فستدخل معايير أخرى في التقييم من مثل معيار الصدق، ومعيار الرسالة، والقيم الأخلاقية.

أما المسار الثاني فهو مسار النص أو ما عرف بنظريات «موت المؤلف»، حيث القراءة تكون من النص وبالنص ولا علاقة للقارئ وللمعنى بخارجه، فتأتي المعاني من داخله فقط، وبالتالي هي لا ترتبط أبدا بأي سياق، وإنما تكون مفتوحة للقراءات المتعددة ومن هنا جاء مصطلح «القراءة اللانهائية» للنص، وهذا أيضا يعطي للنص سرمدية بحيث تصبح قراءته مفتوحة الزمان والجغرافيا، فنقرأ اليوم نصا جاهليا قراءة مختلفة عما قرأه به الجاهلي في ذلك الوقت، ومختلفة عما قرأه به العباسي، وسيقرأه من يأتي بعدنا بألف عام قراءة مختلفة تماما ذلك لأن المدخلات الثقافية والفكرية تتغير باستمرار وبالتالي المخرجات أيضا تختلف.

ومن أهم النظريات إلى نادت بالقراءة النصية وبموت المؤلف النظرية البنوية التي جاءت على يد رولان بارت، والتي نظرت للنص على إنه بنية واحدة وأن قراءته تتم من الداخل ولا علاقة لنا بمؤلفه ولا بمناسبته ولا بعصره أو مكانه، ولا بكل خارج النص.

وهنا إذن ستتغير مواطن الشعرية في النص حيث تصبح فقط من داخله، وعلى الشاعر والقارئ معا أن يكون نظرهما موجها إلى داخله، والألزم للقارئ والناقد فإن تأثر الشاعر بخارج النص وهو سيتأثر لا محالة فإن الناقد والقارئ يبقيان في داخل النص لزاما.

وهذه التوجه نحو النص أعطى للنص أهميته ومركزيته بعدما كان يخسرها لصالح المؤلف والخارج، فأصبح هو محل الاهتمام ومركزه ويستمد قوته من ذاته ومن داخله، فأصبح لا يهم من قال القصيدة لنحكم بجمالها وقوتها، فلو قالها المتنبي وفي ذاتها ضعيفة فلن يشفع لها كون صاحبها المتنبي؛ وكذلك لن يعد للقدم قداسة بعدما كان يعطي للنص مكانة وقيمة ككونه جاهليا مثلا.

أما المسار الثالث، فهو مسار ما بعد النص، وتمثله النظريات التداولية وتحليل الخطاب، حيث يذهب هذا التيار إلى إن النص عبارة خطاب، ولا بد أن يكون كذلك، وأن لا يوجد نص بدون أن يكون خطابا إلا عند المجنون فقط، فبالتالي هنا لابد أن يكون النص خاضعا لشروط المتلقي، فلا يمكن قراءته وفهمه بعيدا عنه.

وهنا يعود النص ليأخذ موضعا هامشيا في مقابل إعلاء شأن المتلقي الذي سيكون النص يدور حوله ومن أجله، وهم ينطلقون في ذلك من نفعية اللغة، حيث الكلام أن لم يراد من خلاله تحقيق هدفا عند المتلقي فهو من قبيل كلام المجانين.

وهذه النظرة للنص الأدبي تدخلنا في إشكالية المسافة بين النص العادي والنص الأدبي، فإذا كان النص الأدبي نص حاجةٍ ومنفعةٍ فقد يتفوق نص الكلام عليه، لأن الكلام متحرر من شروط الأدبية وبالتالي المساحة التعبيرية أعلى لديه من النص الأدبي.