أفكار وآراء

نخبة النفوذ والهيمنة على السياسة الأمريكية

16 يناير 2019
16 يناير 2019

تيموثي جل – واشنطن بوست -

ترجمة قاسم مكي -

إن العلاقة بين نخب الشركات والحياة السياسية عميقة الجذور، ففي الفترة من أوائل القرن العشرين إلى منتصفه سيطر قادة الشركات على التشكيلات الوزارية. مثلا، وجد بيتر فرايتاغ في دراسة له عام 1975 أن 76% من كل الوزراء الأمريكيين في الفترة بين 1897 و1973 كانت لديهم (قبل استوزارهم) روابط بالشركات.

يتم دائما تصوير الحزب الجمهوري بوصفه الحزب الأكثر استعدادا لتبني مصالح قطاع الأعمال. وبدا أن خفض ضريبة الشركات من 35% إلى 21% يثبت ذلك. لكن دراسة التركيبة الوزارية لحكومات الرؤساء الأمريكيين خلال نصف القرن الماضي تكشف أن كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي لديهما مستويات متماثلة من الارتباط بأعضاء نخبة الشركات (المقصود بنخبة الشركات أو قطاع الأعمال في الولايات المتحدة أصحاب أكبر وأهم الشركات ومدراؤها ورؤساؤها التنفيذيون– المترجم).

فقط ذهبت حكومة ترامب بهذه العلاقة بعيدا. فرغم ادعاءات ترامب «الشعبوية» إلا أن حكومته في الحقيقة تضم وزراء من هذه النخبة أكثر من أية حكومة أخرى على مدى نصف القرن الماضي. تعكس هذه التركيبة الوزارية بوضوح خلفية ترامب التي تعود إلى الطبقة العليا. كما تترك المجال مفتوحا لإمكانية تغليب حكومته لمصالح الشركات على كل المصالح الأخرى بطرائق غير مسبوقة.

إن العلاقة بين نخب الشركات والحياة السياسية عميقة الجذور. ففي الفترة من أوائل القرن العشرين إلى منتصفه سيطر قادة الشركات على التشكيلات الوزارية. مثلا، وجد بيتر فرايتاغ في دراسة له عام 1975 أن 76% من كل الوزراء الأمريكيين في الفترة بين 1897 و1973 كانت لديهم (قبل استوزارهم) روابط بالشركات.

وماهو أكثر من ذلك، لاحظ فرايتاغ اختلافا بسيطا في هذا الانتماء بين أعضاء وزارات الجمهوريين (78%) ووزارات الديموقراطيين (73%). وعلى الرغم من هيمنة الشركات على هذا المركز القوي (الجهاز الوزاري في حكومات الولايات المتحدة) إلا أن منظورا تعدديا يسود في المجال السياسي.

ولا يرى علماء السياسة والاجتماع أن فئة اجتماعية واحدة تسيطر منفردة على السياسة الأمريكية. بل يعتقدون أن جماعات المصالح وخصوصا في قطاعات العمل والتعليم العالي والأعمال توازن بعضها بعضا في تشكيل الحكومات. لكن آخرين يرون مشاكل في الطبيعة النخبوية للسياسة في الولايات المتحدة. فعالم الاجتماع السياسي رايت ميلز يشعر بالقلق من «الباب الدوار» بين الحكومة والشركات الكبيرة الذي تتنقل عبره نخب الأعمال (جيئة وذهابا) بين دوائر الحكم والشركات بسهولة وانتظام كبيرين.

لقد اتخذت «سلطة النخبة»هذه كل «القرارات الكبيرة» التي لزم أن يعيش الأمريكيون تحت ظلها بما في ذلك خوض الحرب وبناء التحالف العسكري الاقتصادي(تحالف غير رسمي بين المؤسسة العسكرية والصناعة الدفاعية نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وحذر الرئيس آيزنهاور في خطابه الوداعي من هيمنته على السياسة العامة في الولايات المتحدة – المترجم.) وفي تلك القرارات توجد «حوافز فاسدة» تجعل قرار خوض الحرب «مربحا جدا» لمسؤولي الوزارة. مثال لهؤلاء في السنوات الأخيرة بول أونيل وزير خزانة جورج دبليو بوش. فالرجل لديه صلات مع شركة «ألكوا» لصناعة الألمونيوم التي تعتمد بشدة على العقود الدفاعية. وعلى الرغم من أن العديدين من أقران عالم الاجتماع ميلز تجنبوا توجيه مثل هذا النقد «المشحون سياسيا» للسياسة الأمريكية في الأجواء الاحتفالية والمعادية للشيوعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إلا أن برنامجه البحثي استثار زمرة من شباب علماء الاجتماع الذين نضجوا في أعوام الستينات الصاخبة.

لقد درس هؤلاء بدورهم قضية الروابط بين السياسة والشركات. وتساءلوا عما إذا كان لنخبة الأعمال تأثير أكبر من حجمها على السياسات الأمريكية وأنها عمليا تحد من تحقق الممكنات الديموقراطية. أعادت هذه الجماعة الجديدة من علماء الاجتماع صياغة الجدل حول التقاطع بين نفوذ الشركات والسلطة السياسية وجاءت بمنظور نقدي أكثر عمقا للسياسة الأمريكية. لكن في حين أعاد هؤلاء العلماء الطموحون صياغة الجدل إلا أنهم لم يغيروا من واقع اتخاذ القرار السياسي. فنخبة السلطة استمرت في تشكيل السياسة الأمريكية.

حقا إن وفرة المكاسب التي حققتها نخبة الشركات والطبقة العليا خلال الفترة التي أعقبت نشر كتاب «نخبة السلطة» تجعله أكثر أهمية اليوم. لقد تقلصت كثيرا مستويات الضرائب المفروضة على الشركات والأفراد الذين ينتمون للفئات (الشرائح) الضريبية الأعلى. وتدهورت معدلات تكوين نقابات العاملين في الشركات وسط قرارات المحاكم التي تضرب استراتيجياتها التنظيمية.

كما ظل الحد الأدنى للأجور راكدا. وفي الأثناء حصلت نخب الشركات على مستويات قياسية من الدخول مع اتجاهها إلى تعهيد (نقل) عملياتها الإنتاجية إلى البلدان المنخفضة الدخل في أمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا على سبيل المثال.

وهذا يطرح السؤال التالي: هل هذه السياسة المنحازة الصادرة عن أناس لهم روابط بالشركات لا تزال مهيمنة على مجالات اتخاذ القرار مثل الجهاز الوزاري؟

كشفت أبحاثي أن التشكيلات الوزارية ظلت مكدسة بأعضاء القطاع النخبوي للشركات. فمنذ عهد إدارة نيكسون شغل أكثر من 70% من الوزارات الجمهورية والديموقراطية إما مخضرمون من الشركات أو أناس التحقوا بالشركات الأمريكية بعد انتهاء مدة عملهم في الوزارة. أما الحكومات التي حققت أعلى نسبة مئوية من هذه التعيينات النخبوية للوزارات فهي إدارات جورج دبليو بوش (100%) ونيكسون (90%) وفورد (82%). هذا في حين حصلت على أدنى النسب إدارات كارتر (71%) وجورج إتش دبليو بوش (71%). بل حتى إدارة باراك أوباما اتبعت هذا النمط من التعيينات الوزارية. فحوالى 81% من وزرائه إما جاؤوا من قطاع الشركات الأمريكي أو عادوا إليه (بعد انتهاء خدمتهم). وقد يزيد العدد مع سعي المزيد من وزرائه لتأمين مناصب رفيعة في الشركات.

لكن ترامب انتقل بهذا التقليد إلى مستوى جديد. فإدارته بها عدد من الوزراء القادمين من الشركات أكثر من أية إدارة تشكلت مؤخرا (72%). من بين هؤلاء أفراد مثل وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون الذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل. وهو بهذا يتفوق على جورج دبليو بوش الذي حققت وزارته ثاني أعلى نسبة (للقادمين من الشركات) وهي 64%. ما أثر ذلك؟

بالطبع لا يعني مجرد وجود نخب الشركات في حكومة ما أن جهازها الوزاري يمثل بالضرورة مصالح نخبوية للشركات. لكنه يؤثر بعمق على نوع القضايا التي تجري مناقشتها والمنظورات التي يتبناها المسؤولون في أثناء تعاملهم مع المسائل المتعلقة بالسياسات. فشغل المناصب الوزارية بمخضرمي الشركات يتيح للقائمين على مصالحها النخبوية توصيل تفضيلاتهم للحكومتين الجمهورية والديموقراطية كلتيهما. لكن لا يحظى الأمريكيون العاديون بنفس هذه الميزة. وبالنظر إلى النفوذ الذي يمارسه أعضاء الجهاز التنفيذي(الوزراء) على الجهاز البيروقراطي للدولة ينبغي أن يثير ذلك قلق الأمريكيين. فأولئك الذين يجعلون أصواتهم مسموعة ربما يشوهون سياساتنا على حساب الجميع باستثناء أغنى الأمريكيين.

• الكاتب أستاذ علم الاجتماع المساعد بجامعة نورث كارولاينا في ويلمينجتون