adil
adil
أعمدة

الدفاتر

15 يناير 2019
15 يناير 2019

عادل محمود -

«سليمان…» هكذا دون فائض الكنية، هو من طبع الأعمال الكاملة لدستويفسكي، في دار النشر خاصته «ابن رشد» في بيروت.
بدأ المشروع في بيروت وانتهى في تونس. لقد مرت الدبابات الإسرائيلية عام 1982 فوق الكتب، وسليمان… عليه أن يبدأ في تونس من الصفر.
انتهى المجلد الأخير من الطباعة، وحضّر سليمان ومساعدوه الكميات اللازمة لكل بلد، ولكن الحرب في العراق امتدت إلى الكويت. توقفت الكمية الأكبر عن الشحن إلى العراق 3000 نسخة. فجأة انتقل من سليمان الناشر إلى شخصية المقامر صار بطلا للكتاب بدلا من ناشره.
أما الخسارة الكبرى فكانت، عندما تبين أنه مصاب بسرطان الرئة، ثم الدماغ، ثم الوجود. وفي آخر أيام سليمان كنت أزوره في البيت، فيقول لي: أليس لديك، أنت الأسبارطي، أي حلّ لطروادة السرطان؟ وكان يسخر من كل شيء إلا من مشروع دستويفسكي، الذي لم يوضح لنا ولا مرة أسباب تعلقه بهذا الكاتب.
في إحدى الزيارات كان واضحا أنه في أيامه الأخيرة، قال لي هكذا فجأة: «متى ستكتب روايتنا؟»
أعادتني هذه الجملة إلى عام 1970 حين هرب سليمان من سوريا (لأسباب سياسية) حيث كان يقول هذه الجملة التنبؤية: «حياتنا قد تكون رواية، ولكن بلا كاتب». قلت مازحا ودامعا: «ينقصني الدفاتر لمسودات الكتابة». وكنت أشير إلى أكداس الدفاتر التي صممت لطباعة دستويفسكي عليها وبقيت بيضاء. فأخذت مجلدين (دفترين) فقط، وقلت له: «ستكون أحد شخصيات الرواية». وفجأة طلب مني أن أقرأ له شعرا مما أحب. فاخترت من بين ما أحفظ هذه الأبيات:
غسل اليدين من الدنيا وبهجتها
وقـام صـلّـى صلاة الخاـلد الفـاني
حط العيون على الأشجار وانسربت
من صــدره روحـه واحمرّ خــــدان
يا وقت.. يا وقت لا تعصف بأغنيتي
يا وقت لا وقت كي أصطاد ألحاني
الصمت أحيانا يرن مثل قطعة معدن وقعت على رخام المصادفة. أغمض عينيه المبللتين بالدمع، وأغمد سيفه في صدر محاولته الكتابة عنا.. وكان قد بدأ كسولا ملولا مفعما بنوع من اللاجدوى المحترمة الخاصة به.
مات سليمان بعد أيام، حزنّا عليه في صمت، وهو يوارى في مقبرة شهداء فلسطين كما طلب من أصدقائه الفلسطينيين قائلا: «لكي استحق ما كنته بينكم».
ومضت الأيام والسنون والحروب. وفي لحظة ذاكرة، لا تخون من نحبهم، استحضرت كل ما مرّ بنا.. رأيت سليمان، وجها بهيا أمام وجه شقي، يقول لي: لديك الدفاتر أين الرواية؟
لم أخذله… كتبتها، وطبعتها، ونالت جائزة أولى…
ولكنه خذلني… لم يقرأها.