الملف السياسي

الرؤية العمانية وفلسفة السلام

14 يناير 2019
14 يناير 2019

عوض بن سعيد باقوير - صحفي ومحلل سياسي -

منذ قيام النهضة العمانية الحديثة والتي قادها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - خلال ما يقارب النصف قرن ومبادئ السياسة الخارجية للسلطنة واضحة ومتواصلة ولم تغيرها الأحداث والمتغيرات السياسية في المنطقة والعالم، ومن هنا كانت الركيزة الأساسية لتلك السياسة تنبع من فلسفة السلام وضرورة إيجاد الآليات التي تسمح بإشاعة الاستقرار لشعوب العالم شرقه وغربه.

وقد عانت منطقة الخليج خلال العقود الثلاثة الأخيرة صراعات وحروب لاتزال آثارها متواصلة كما ان الحرب في اليمن أضاف متغيرا جديدا لتعقيد الأوضاع في شبه الجزيرة العربية، ومن هنا كانت الرؤية العمانية خلال تلك الصراعات والحروب ثابتة وهو إيجاد الحلول السلمية لإنهاء تلك الأزمات واعتبار الحوار هو الآلية الصحيحة والتي تنسجم مع القانون الدولي والمعايير الأخلاقية.

بعيدا عن التوتر

تلك الرؤية العمانية كان لها أصداء إيجابية على مستوى الإقليم والعالم من خلال الجهود الدبلوماسية المضنية التي قامت بها السلطنة لاحتواء عدد من الأزمات الإقليمية وفي مقدمتها إبعاد شبح الحرب عن المنطقة من خلال المساعدة والجهد المباشر للتوصل الي الاتفاق النووي الإيراني مع القوى الدولية، كما ان الجهود العمانية لإنهاء الحرب المدمرة في اليمن تتواصل والتي توجت بمشاورات السويد بين الفرقاء اليمنيين وإيجاد آليات لوصول المساعدات الإنسانية للشعب اليمني الشقيق والذي يعاني الأمرين من جراء تلك الحرب العبثية.

ولعل الجولة الأخيرة لمعالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يرافقه الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الى دول المجلس يدخل في إطار ومساعي السلطنة لإنهاء الخلافات بين الأشقاء وفتح صفحة جديدة وإيجاد لحمة واحدة وان يكون الحوار هو الأساس في حل أي إشكالات سياسية بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، حيث ان المجلس يواجه تحديات كبيرة قد تعصف به في نهاية المطاف إذا استمرت الأزمة الخليجية خلال هذا العام حيث إن ذلك سوف يخلق تراكم من عدم الثقة وتواصل الحملات الإعلامية والتي ينبغي ان تتوقف كما أشار إلى ذلك سمو أمير دولة الكويت خلال كلمته في القمة الخليجية الأخيرة في مدينة الرياض.

الرؤية العمانية نحو ترسيخ السلام والتنمية تأتي من خلال قراءة مبكرة للأحداث من قبل جلالته - حفظه الله - كما ان الموقع السيو-استراتيجي الهام للسلطنة على البحار المفتوحة وإطلالها علي مضيق هرمز الاستراتيجي جعل من المهم ان تقوم تلك الرؤية الاستراتيجية على ضرورة خفض التوتر وإيجاد منظومة سلام بين الدول المطلة على الخليج وهي دول مجلس التعاون وإيران والعراق علاوة على أهمية وجود اليمن الشقيق كدولة محورية لها امتدادها الجغرافي والاجتماعي والتاريخي مع دول الإقليم، ومن هنا ركزت تلك الرؤية ومنذ فجر النهضة المباركة على تلك المبادئ الراسخة والتي وجدت إشادة من قادة دول العالم وشعوبها.

التنمية والاستقرار

النموذج العماني في مجال الاستقرار والتنمية هو المؤشر الذي تسعى السلطنة الى إيجاده في الإقليم وحتى العالم من خلال التفرغ للتنمية وبناء الأجيال الجديدة والتفرغ للبناء والتحديث بعيدا عن الصراعات والحروب ونشر ثقافة التسامح والصداقة بين شعوب العالم، وهو نموذج اصبح واقعا معاشا حيث إن السلطنة تخلو من التعصب والكراهية وشعبها الحضاري بعيد عن قضايا الإرهاب.

إن تلك الرؤية أثبتت جدواها ومن هنا فان الإشارة إليها من كبار المفكرين والساسة تعطي مؤشرا على أن مبادئ السياسة الخارجية المتواصلة منذ مايقرب من نصف قرن هي المبادئ الصحيحة من خلال النموذج العماني والتي تثبت الأحداث مصداقيته والتي تهدف إلى الابتعاد عن التوتر وخلق الفوضي بين الشعوب.

إن التفرغ للتنمية وبناء الإنسان هي احد المنطلقات الأساسية في الفكر السياسي العماني، وهذا جاء بسبب تراكمات حضارية وتاريخية منذ آلاف السنين، ومن هنا فان حصيلة تلك التجارب الإنسانية تعطي الأمم والشعوب الأسس الحقيقية نحو الانطلاق إلى مبادئ السلام وإيجاد منظومة تتحدث عن أهمية التبادل الثقافي والمعرفي وان تكون الركيزة الأساسية هي في فلسفة السلام وترسيخه كمفهوم لاحياد عنه.

السلطنة تقترب من نصف قرن من نهضتها الحديثة وهي تنعم بالاستقرار والسلام والأمن في إطار محيط صعب شهد حروبا مدمرة وإشكالات وخلافات لاتزال متواصلة بين دول الإقليم، وهذا يعود إلى غياب الرؤية الاستراتيجية والاعتماد على المواقف اللحظية والتي تؤدي إلى نتائج وخيمة وهذا يحتم علي ضرورة وجود رؤية تبعد تلك الأخطار وان تكون هناك قراءة صحيحة للأحداث خاصة وان شن الحروب بشكل عام له تبعات سلبية كبيرة ويخلق الكراهية بين الشعوب وينهي أمل الملايين من الأجيال نحو مستقبل واعد وقتل طموحات الشباب نحو بناء الأوطان.

تواصل الجهود

في خضم عالم يسوده التوتر والمنافسة غير العادلة والطموحات غير المنضبطة في الإقليم فان ثمة حاجة ماسة للنموذج العماني والذي يعد حقيقة ماثلة للعيان ومتواصلة منذ سنوات طويلة، وهذه الفترة الزمنية تعد كافية للحكم على التوجهات وما تحقق علي الأرض، فالسلطنة وتحقيقها صفر من الصراعات وقضايا الإرهاب يعطي دلالة واضحة على نجاح تلك الرؤية الحكيمة لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه - والذي تحدث عن الدولة العصرية بكل مكوناتها وهاهي الآن حقيقة واقعة نراها رأي العين.

إن جهود السلطنة في إرساء دعائم السلام والاستقرار وإيجاد القواسم المشتركة بين الأشقاء وإصلاح ذات البين هي جهود سوف تتواصل لان تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة هو مصلحة للجميع وان عكس ذلك سوف يخلق مزيدا من عدم اليقين والشك والتوتر ومناخا للتدخلات الخارجية والتي لاتريد الخير للمنطقة وشعوبها.

النشاط الديبلوماسي المتواصل لإيجاد حلول لتلك الأزمات السياسية هو جهد مقدر من العالم ومن خلال تلك التحركات فان الموضوعية والمصداقية اللتين تتمتع بهما سياسة السلطنة الخارجية سوف تكونان عاملا ايجابيا لإنهاء تلك الأزمات من خلال إيجاد تلك القواسم المشتركة، وللحفاظ علي كيان مجلس التعاون لدول الخليج العربية حيث يعد المجلس المرجعية التي يتطلع لها أبناء المنطقة لتحقيق المزيد من الطموحات التنموية ولخلق كيان اقتصادي موحد يستطيع ان يتحاور وبجدارة مع الكيانات الاقتصادية في العالم وتحقيق مصالح دول المجلس وشعوبها.

المنطقة تحتاج إلى استقرار وهدوء بعيدا عن الصخب السياسي والذي لن يأتي بفائدة تذكر بل يعمق الشعور بالاحتقان ويبدو لي ان تطبيق مقولة سمو أمير دولة الكويت في إنهاء الحملات الإعلامية بين الدول الشقيقة سوف يكون المخرج الصحيح لتهدئة النفوس وخلق مناخ إيجابي يساعد علي حل الأزمة كما ان جولة معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية لدول المنطقة في إطار رئاسة السلطنة للقمة الخليجية وأيضا تأتي من خلال إيمان السلطنة العميق بان أي أزمة سوف تحل لأن مصير دول المنطقة واحد والتحديات التي تواجهها هي تحديات تحتاج إلى الوفاق والتوافق.

مرتكزات السلام

على ضوء التطورات السياسية ومايحدث في العالم من تقلبات وإشكالات حتي بين القوى الدولية تظل رؤية السلطنة للسلام الحقيقي ثابتة ولن تتغير حيث إن تلك الرؤية أصبحت القاسم المشترك للنقاش العام للسياسيين ورجال الصحافة والإعلام خاصة عند تصدر السلطنة للمشهد من خلال الجهود التي تقوم بها.

ولازلنا نتذكر كيف يمكن أن يجتمع المسؤولون في ايران والولايات المتحدة على طاولة واحده في مسقط بعد قطيعة امتدت منذ عام 1979 وكما أشار احد المفاوضين الأمريكيين في شهادته على تلك اللحظات الحاسمة بان السلطنة ومصداقية سياستها شجعت كل الأطراف على الحوار والذي كان يبدو مستحيلا في ظل ذلك التراكم من العداء السياسي بين طهران وواشنطن.

إن مرتكزات السلام هي مبدأ أصيل وأحد الثوابت في السياسة الخارجية وأثبت مصداقيته وواقعيته السياسية، ومن هنا فان تلك الرؤية ستبقى شاهدا على فكر مستنير وبعد نظر استراتيجي لجلالة السلطان المعظم والذي يقول في إحدى خطبه بان «السلام هو مذهب آمنا به ومبدأ لانحيد عنه».

وتبقى السلطنة هي الخيار الأمثل لرؤية حكيمة جعلت منها واحة للاستقرار والسلام والمحبة لكل شعوب العالم وتلك الرؤية هي شاهد عيان لمن يريد أن يستفيد ويرسخ مبادئ هي في الأساس إنسانية.