الملف السياسي

سلطنة عمان .. للسلام والاستقرار عنوان

14 يناير 2019
14 يناير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

خمسة عقود تقريبا تعمل فيها السلطنة جاهدة كحجر زاوية واستقرار خليجيا وشرق أوسطيا، والناظر اليوم للملفات العربية والخليجية التي باتت تمثل جروحا ثخينة في الجسد العربي تثبت أن هناك حاجة متزايدة ومتنامية لهذا الدور بقيادة جلالة السلطان قابوس ولتبقى السلطنة رسالة للسلم والأمن، للاستقرار والوئام، ونموذجا يحتذى في الحال والاستقبال من القاصي والداني .

خلال شهر يونيو الماضي أصدر معهد الاقتصاد والسلام باستراليا نتائجه المتصلة بالسلام في الدول وحول العالم وقد حصلت سلطنة عمان على المركز الخامس عربيا والـ 73 عالميا، وصنفت ضمن قائمة الدول التي تتمتع بدرجة عالية من السلم، كما صنفت السلطنة في المركز الأول عربيا في مؤشر انعدام الصراع الداخلي والخارجي الفرعي وفي المركز الرابع عربيا في مؤشر الأمن والسلم المجتمعي .

تستدعي النتائج المتقدمة طرح أسئلة عميقة حول الأسباب التي جعلت سلطنة عمان واحة وعنوانا للسلام والاستقرار في الخليج العربي والشرق الأوسط، وهما منطقتان مشتعلتان بالعديد من القضايا الساخنة والملتهبة، بعضها تفجر بالفعل على الأرض، ومن أسف يخشى المرء من تفجر بعضها الآخر في أوقات قريبة ؟

الجواب ولاشك يتصل بالقيادة الحكيمة لجلالة السلطان قابوس - حفظه الله ورعاه - الذي استطاع وبمهارة الربان الحصيف أن يمخر بسفينة السلطنة في مياه مليئة بالألغام ، وليضحي مشعل السلطنة نورا للقادمين من غياهب ظلام الكراهية ودروب الحروب والخلافات .

قاد صاحب الجلالة السلطنة برؤى عميقة لها دلالة على السلام منذ زمن بعيد، ولعل كاتبا مصري تحديدا يسطر هذه الكلمات، لابد له من أن يذكر الأجيال المعاصرة بأن رؤية جلالته الاستشرافية العميقة تبدت منذ أربعة عقود بشكل خاص، وذلك حين مضت مصر في طريق السلام وإنهاء الحروب مع إسرائيل، عبر اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة العام 1978.

في ذلك الوقت ظهرت على سطح الأحداث الإقليمية ما عرف لاحقا بجبهة دول الرفض، أي رفض المبادرة، وقطعت جميعها اتصالاتها مع مصر، لكن السلطان قابوس والسلطنة كانت الدولة الوحيدة التي لم تفعل ذلك، ورأت أن السلام في نهاية المطاف هو الذي لابد له من أن يسود وأن الحروب والصراعات مآلها أن تنتهي، وعليه إذا كانت نهايات الصراعات ستكون سلما فلما إذن إطالة أمدها ؟

في نوفمبر 1995 تحدث صاحب الجلالة إلى مجلة « ميدل ايست» الشهيرة قائلا :« إن العالم يتضاءل وينكمش، وأنا واثق تماما من أن جميع البلدان يجب أن تسير وفق هذه القاعدة، وتحاول أن تفهم بعضها البعض وتتعاون فيما بينها وتعمل جنبا إلى جنب لخير البشرية جمعاء، وقد لوحظ في السنوات الأخيرة بوادر واعدة تدل على أن النزاعات بين الدول صارت تعتبر من الحماقات المطبقة، وأن الخلافات بين البلدان يجب أن تحل بالمفاوضات وليس عن طريق العنف».

كان حديث جلالته قبل نحو عقدين وأزيد قليلا، وقد عانت المنطقة والعالم فيهما من الخلافات، والصراعات، عطفا على ظهور إشكالية الإرهاب الدولي التي أعاقت عمل السلام لصالح مواجهات الحروب، وفي نهاية المطاف ها إن الجميع يكتشف أن رؤية جلالة السلطان كانت الصائبة، وأن الجلوس إلى موائد المفاوضات سيبقى الحل المؤكد الأخير، فالجميع يعلم تمام العلم أن الحروب أداة من أدوات الدبلوماسية، لكن خسائرها هائلة في الحل والترحال .

سعت السلطنة في عهد صاحب الجلالة في طريق عنوانين رئيسيين هما الاستقرار والسلام في المنطقة، وفي ضوء هذه الرؤية أعطت بنفسها المثل والقدوة من خلال ما يمكن أن نطلق عليه « تصفير» جميع مشكلاتها الحدودية مع جاراتها وخاصة اليمن والإمارات والسعودية لتنهي آية إرهاصات لخلافات يمكن أن تنغص عيش الأجيال العمانية القادمة، وحتى لا تكون مثل هذه القضايا مثارا لخلافات مستقبلية تعوق نهضتها الصاعدة وتنميتها الواعدة المستمرة والمستقرة .

مؤخرا أصدرت مجموعة « بوسطن كونسيلتنج » الاستشارية الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، تقريرا عن اهم الدول والمراكز الحضرية التي تدعم وتزخم حركات السلام حول العالم، ولم تكن هناك في واقع الأمر مفاجأة حين أشارت المجموعة الأمريكية إلى أن السلطنة تفوقت في سياقها الجغرافي والإقليمي، وعلى العالم في عدة مجالات منها الاستقرار الاقتصادي، والصحة، والدخل المتساوي، والمجتمع المدني، والحكومة، والبيئة.

والشاهد أن النتائج المتقدمة كانت حصادا مؤكدا لسياسات السلطنة والتي آلت على نفسها الابتعاد عن التدخل في شؤون الآخرين، لا سيما من الجيران الإقليميين والدول المشاطئة، ولم تسع السلطنة طوال تاريخها لأن تفرض رؤى معينة إيديولوجية أو دوجمائية، كما أنها قفزت على فكرة الانحياز لمسارات إقليمية أو تجمعات إقليمية لا تراعي الصالح العام وتسعى في اطر مصالح محدودة وضيقة ، كما أن أحدا لا يمكنه القول إن السلطنة عرفت سياسة الصفقات التي عادة ما تعقدها الدول، وجلها يكون براجماتيا ، أي يبحث عن المصلحة الخاصة ، حتى ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالفائدة الكلية ، وهي من أسف ثمة رئيسية لعالم النيوليبرالية ، عطفا على الماركنتيلية التاريخية التي جعلت العالم سوقا مفتوحا كل شيء معروض فيه للبيع والشراء ، حتى القيم والأخلاق والسلام الدولي والأممي.

عاشت سلطنة عمان قرابة العقود الخمسة منذ النهضة المباركة في ظل قيادة حكيمة رصينة تقدر لرجلها قبل الخطو موضعها ، ترفض التحزب والتمذهب على حد سواء ، إيمانها دوما أن الحق احق أن يتبع ، ولهذا فهي ناصرة للحق دوما سيما إذا كان متفقا مع الشرائع الدولية والقوانين الأخلاقية والإنسانية ، ومؤيد من المجتمع الدولي بشكل عام ، ويساير التوافقات الإقليمية بنوع خاص ، وقناعتها امس واليوم هي أن السلام هو الأصل، والحروب هي الاستثناء الذي لا يجب أن يسود، فلا نماء أو رخاء في ظل الحروب والصراعات ، ولا تقدم إنساني ما بقيت السنة اللهب تحرق الأخضر واليابس على وجه المعمورة .

كانت السلطنة دوما موضع وموقع التقاء كل الأطراف، ومحط ثقة الجميع في كل الأوقات وفي مختلف الظروف، ولذا فانه ليس مصادفة على أي نحو أن تنمو وتتسع علاقات السلطنة بامتداد العالم ، وان تحظى بالتقدير من جانب العديد من المنظمات الإقليمية والدولية .

لم تكن السلطنة في يوم من الأيام طائرا مغردا بعيدا عن سرب العالم العربي ، وقضاياه وهمومه، فقد أيدت باستمرار جهود تطوير ودعم المؤسسات العربية وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ، سواء تلك المتعلقة بتطوير آليات عملها وأجهزتها ، أو من خلال تأييد جهودها الرامية إلى التوصل إلى تسوية دائمة وشاملة وعادلة لقضية الشعب الفلسطيني، بما في مقدمة ذلك قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف .

آمنت السلطنة ولها في الحق ألف حق أن عدم التحرك السريع والإبقاء على الأوضاع كما هي بالنسبة للقضية الفلسطينية أمر من شأنه ضياع ما تبقى من حقوق الشعب الفلسطيني، سيما وان التسويف لا يخدم قضية طال بها الزمن اكثر من سبعة عقود ، وهناك أجيال نشأت دون أن تدرك حقيقة القضية، ويخشى أن تصبح لاحقا من المرويات التاريخية ، ولهذا كان فتحت أبوابها واسعة من اجل الوصول إلى سلام عادل وعاجل في ذات الوقت ، حقنا للدماء وبحثا عن السلام والنماء.

منذ نهاية السبعينات وحتى كتابة هذه السطور عرفت المنطقة العربية والخليج العربي على نحو خاص أدوارا ووساطات عمانية قادها صاحب الجلالة لإرساء عالم السلام في المنطقة ، بعض هذه الأدوار معروف ومعلن وتجلى كثيرا في الإفراج عن معتقلين أوروبيين أو أمريكيين، وكذلك التدخل لإطلاق سراح مخطوفين، وتحمل الكثير من المغارم في سبيل الحفاظ على الأزواج الإنسانية ، وهناك ولاشك ملفات تصالحية غاية في الأهمية، وربما السرية في ذات الوقت ، والتي لم يحن الوقت للكشف عنها ، ولا نذيع سرا إن قلنا أن العالم برمته يدرك الدور الإيجابي الفاعل للغاية الذي تقوم به السلطنة على صعيد ملفات شديدة التعقيد تتصل بمواجهات قوى دولية حول العالم ، مع جيران إقليميين منذ فترة بعيدة .

السلام والاستقرار في السلطنة عنوانان يتجليان في كلمات صاحب الجلالة أبدا ودوما، فعلى سبيل المثال يقول جلالته في احد خطابات الانعقاد السنوي لمجلس عمان :« لقد اثبت النهج الذي اتبعناه في سياساتنا الخارجية خلال العقود الماضية جدواه وسلامته بتوفيق من الله ونحن ملتزمون بهذا النهج الذي يقوم على مناصرة الحق والعدل والسلام والأمن والتسامح والمحبة والدعوة إلى تعاون الدول من اجل توطيد الاستقرار وزيادة النماء والازدهار ومعالجة أسباب التوتر في العلاقات الدولية بحل المشكلات المتفاقمة حلا دائما يعزز التعايش السلمي بين الأمم ويعود على البشرية جمعاء بالخير العميم» .

والثابت أن السلطنة وهي ساعية في طريق السلام والاستقرار لا تتوانى أبدا عن الإقدام والالتحاق بالمعسكرات الإقليمية والدولية الماضية في إطار مواجهة ومجابهة ما يهدد السلم والأمن الدوليين، وليس أسوأ من الإرهاب والإرهابيين من مهددات حولت نهار العالم إلى قلق وجعلت من ليله ارقا .

في هذا السياق كانت السلطنة تنضم إلى التحالف الإسلامي العسكري المضاد للإرهاب، على الرغم من أن تلك الظاهرة المزعجة تغيب عن دروبها الداخلية ، من جراء نسيجها المجتمعي المتماسك ، وبنائها الإنساني القوي والعصي على الاختراق الإيديولوجي ناهيك عن اللوجستي، ومع ذلك فقد غلبت النظرة الكلية للتحالف ورأت في استشراف خلاق أن الوقاية خير من العلاج عطفا على أن وحدة الكلمة والقرار والتوجه الخليجي في هذا التوقيت يعد بمثابة « الدرع الواقي» الحقيقي من عاديات الأيام وغوائل أزمنة الإرهاب .

خمسة عقود تقريبا تعمل فيها السلطنة جاهدة كحجر زاوية واستقرار خليجيا وشرق أوسطيا ، والناظر اليوم للملفات العربية والخليجية التي باتت تمثل جروحا ثخينة في الجسد العربي تثبت أن هناك حاجة متزايدة ومتنامية لهذا الدور بقيادة جلالة السلطان قابوس ولتبقى السلطنة رسالة للسلم والأمن ، للاستقرار والوئام ، ونموذجا يحتذى في الحال والاستقبال من القاصي والداني .