الملف السياسي

سياسة خارجية ثابتة تتسم بالحكمة والرصانة

14 يناير 2019
14 يناير 2019

طارق الحريري -

إذن فالرشاد الذي اتسمت به السياسة الخارجية العمانية هو نتاج دولة تمتلك من المقومات الداخلية ما يؤهلها لأن تتبنى منهجها الخاص من منطلقات واقعية راسخة.

شكلت سلطنة عمان رؤية سياسية متفردة بين كامل دول إقليم الشرق الأوسط قائمة على ثوابت أعطت نموذجا غير مسبوق في بناء علاقات ناجحة مع جميع دول الجوار ودول العالم كافة قائمة على الاحترام المتبادل دون إخلال بالثوابت الوطنية العمانية. وكان من أهم مرتكزات السياسة الخارجية العمانية عدم الزج بنفسها في الشؤون الداخلية للدول وقد مكن هذا النهج السلطنة من لعب دور فاعل في حلحلة كثير من المشكلات العربية العربية أو تلك التي جرت مع دول غير عربية، والثابت أن هذه السياسة الرشيدة أكسبت سلطنة عمان مكانة متميزة في كل من الساحتين الإقليمية والدولية وأعطتها مكانة بارزة في مساعي إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.

وإذا كانت مسارات السياسة الخارجية العمانية قد تمثلت في الاهتمام بمصالحها الوطنية وعدم إغفال البعد العربي في أولوياتها وعدم الزج بنفسها في الشؤون الداخلية للدول العربية عامة والخليجية خاصة وتبنى مبدأ حل الصراعات السياسية في المنطقة بالطرق السلمية والنأي بالسلطنة عن سياسة الأحلاف والمحاور مع الأخذ في الاعتبار تمسك الدولة بهذا المنحى السياسي مهما كانت المتغيرات الإقليمية ومهما بلغت شدتها وعمق تحولاتها، هذا المسارات في السياسة الخارجية لسلطنة عمان لا يمكن فهمها دون إلقاء نظرة على الأوضاع الداخلية، فمن أبجديات السياسة الدولية أن الدول التي لا تملك استقرار وتماسك لبنيتها السياسية والاجتماعية الداخلية يصعب عليها أن تحافظ على ثبات واتباع رؤية مستقرة في مجال العلاقات الخارجية وهنا تتوجب الإشارة إلى:

– الإصلاح الجذري الذي قام به جلالة السلطان قابوس بن سعيد بعد توليه الحكم، حيث أولى اهتماما بالغا باحتياجات المواطن العماني من خلال الارتقاء بالتعليم والصحة والثقافة.

– بسط نفوذ الدولة على كامل ترابها الوطني ورأب أي صدوعات سياسية أو اجتماعية في إطار من المصالحة وتعزيز الحقوق والواجبات والمساواة بين مواطني السلطنة.

– نجح جلالة السلطان قابوس في بناء دولة عصرية والانتقال بعمان إلى آفاق العصر ومنجزاته وتحقيق تنمية مستدامة.

– تحقيق توازن خلاق بين الأصالة والمعاصرة فالاندفاع نحو المعاصرة تم دون أن يجور ذلك على الأصالة العمانية وجذور الهوية وتمثلاتها.

إذن فالرشاد الذي اتسمت به السياسة الخارجية العمانية هو نتاج دولة تمتلك من المقومات الداخلية ما يؤهلها؛ لأن تتبنى منهجها الخاص من منطلقات واقعية راسخة.

أما البعد الآخر الذي جعل السلطنة تتبوأ مكانتها في الساحة الدولية هو استنادها على رؤية واضحة في انتهاج سياستها الخارجية بفضل الموروث التاريخي والتفاعل الحضاري عبر أزمنة متتالية مع مختلف شعوب العالم وحضاراتها حيث نشأت وتعمقت جسور من العلاقات الوثيقة بين السلطنة والأمم المختلفة. وهذا ساعد على الخروج من حالة العزلة التي طرأت على السلطنة قبل عام 1970 إذ نجحت القفزة التي شهدتها البلاد منذ ذلك العام على تجاوز هذه العزلة والبدء في تأسيس علاقات كانت مفتقدة مع الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية وكثير من الدول على اختلاف توجهاتها.

كانت مثابرة عمان على رؤيتها السياسية ووضوح هذه الرؤية وثباتها عاملا جوهريا في تأكيد مكانتها على الساحتين الإقليمية والدولية، وقليلة هي الدول في المجتمع الدولي المعاصر التي تستطيع رغم إمكانياتها المحدودة أن تكون فاعلة في معترك السياسة الخارجية ومسرح الأحداث في منطقتها مثلما تحقق لسلطنة عمان وللتدليل على ذلك يمكن رصد تجليات نجاح الدور الإقليمي فيما يلي على سبيل المثال:

– اعتمدت الرؤية العمانية للسلام على الرفض آليات لاستخدام القوة الصلبة لحل الإشكالات طالما لم يحدث اعتداء عسكري مباشر على سيادة الدول، لذلك لم تقم عمان بقطع علاقتها مع مصر طبقا لمقررات جامعة الدول العربية بعد أن انخرطت مصر في اتفاقية سلام مع إسرائيل مما أثمر عن وجود قناة مفتوحة بين مصر وكثير من الدول العربية وسرعان ما تبين صحة الموقف العماني بعد سنوات قليلة عندما انتهت المقاطعة العربية.

– رعت سلطنة عمان سياسة حسن الجوار مع دول مجلس التعاون الخليجي لذلك لم تشارك مسقط في عاصفة الحزم منذ بدايتها واختارت الوقوف على الحياد بين الأشقاء من طرفي الصراع من أجل تعزيز دور واجب في التفاوض بين الأطراف ولعب دور الوسيط عندما تقتضي الضرورة وتقديم المساعدات الإنسانية ، ويساعد على هذا الحدود المباشرة مع اليمن والتداخل الجغرافي والتشابك الديموغرافي، كما يقوى النهج السلمي في هذه الأزمة العلاقات الوثيقة مع جميع الأطراف اليمنية دون تمييز بين الفئات والطوائف.

– حافظت عمان على توجهاتها الثابتة في الأزمات الحادة التي طرأت على الساحة العربية من تداعيات ما بعد الربيع العربي وتجلى ذلك في الأزمة السورية من خلال ركائز السياسة الخارجية العمانية في استمرار تبنى الدبلوماسية الهادئة مما هيأ لها القبول بين أطراف النزاع السوري من غير العناصر الإرهابية المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية، وأوضحت مسقط أن غايتها هي تحقيق السلام في سوريا والتأكيد على وحدة أراضيها وإنهاء الصراع الذي راح ضحيته عشرات الآلاف وهجرة الملايين وتسبب في أعباء لبعض الدول في الإقليم وخارجه وعجلت عمان بطرح العديد من المبادرات في المساعي التي تمت لإيجاد حل سياسي للأزمة.

  • على صعيد التداخل الدولي الإقليمي كان لسلطنة عمان دور مشهود في المباحثات السرية بين إيران والقوى الغربية لتسوية الملف النووي الإيراني لا سيما أن مسقط كانت قد توسطت من قبل للإفراج عن رهائن أمريكيين بطهران في عام 2011 وفي نوفمبر من عام 2014 استضافت عمان جولة مفاوضات مثل إيران فيها محمد جواد ظريف ووزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري وممثلة السياسة الخارجية الأوروبية كاترين أشتون، ولقد ساعدت عمان على تبوأ هذه المكانة تبنيها للحياد والبعد عن الاستقطاب والدبلوماسية القادرة على بناء الثقة مع جميع الأطراف من أجل تأمين السلام والاستقرار في المنطقة.

    عانت المنطقة العربية والشرق الأوسط بصفة عامة من أخطار الإرهاب وآثاره المدمرة وتكاد عمان أن تكون الدولة الوحيدة في المنطقة التي نجت من هذا الطاعون، وجاء هذا الوضع اللافت نتيجة الرؤية العمانية لمفهوم السلام، حيث حسمت السلطنة قرارها في الابتعاد التام عن أي أدوار داعمة لأي جماعات متطرفة والأطراف المسلحة التي تنتسب لأفكارها تلك المنخرطة في أعمال إرهابية، وهذا ما فطنت إليه مراكز التفكير الأمريكية وجعلها تستبعد عمان عند تصنيفها لما تعتبره مراكز تمويل أو بيئة تقوم بتسهيل التمويل للجماعات الإرهابية، وقد انعكست المحاربة العقلانية والأخلاقية للإرهاب سعيا لاستقرار الإقليم والعالم في عدم انضمام أفراد عمانيين في المجموعات التكفيرية، وهو ما لم تنجو منه بعض دول المنطقة الأخرى.

    منذ عام 1970 حرص جلالة السلطان قابوس على اتباع سياسة خارجية ثابتة اتسمت بالحكمة والرصانة اعتمدت على مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين وحل المنازعات بالطرق السلمية والأخذ بسبل الحوار الإيجابي والاتجاه نحو تعزيز المصالح المشتركة والمتبادلة مع الدول كافة ودعم الجهود التي تقوم بها المنظمات الإقليمية والدولية العاملة من أجل تعظيم قيم السلام والتعاون، ونبذت السلطنة دوما مختلف صور الاستقطاب في المنطقة ودوليا لإدراكها أن ذلك لا يسهم في حل المشكلات والنزاعات وقد ساهم هذا النهج السياسي والدبلوماسي في أن تضطلع عمان بدور لافت في مساعيها المخلصة التي كثيرا ما كللت بالنجاح في حل مشكلات كانت بمثابة تهديد للأمن والاستقرار.