أفكار وآراء

الحوار الاقتصادي وقيادة الإصلاح

09 يناير 2019
09 يناير 2019

مصباح قطب -
[email protected] -

تثير مشكلة تحقيق نتيجة جيدة في السنوات الأولى مع برنامج إصلاح اقتصادي، سواء كان وطنيا أو بشراكة مع مؤسسات دولية ، ثم ظهور مخاوف من العودة الى المربع رقم واحد مرة أخرى بعد فترة ، أو العودة فعلا الى هذا المربع الكئيب ، إشكاليات كثيرة. والفكرة السابقة ليست من بنات الخيال فقد حدثت في مصر بعد النجاح الكبير الذي حققه برنامج الإصلاح الاقتصادي في مطلع التسعينات بالتعاون مع كل من البنك وصندوق النقد الدوليين ، إذ عادت البلاد بعد خمس سنوات الى تباطؤ اقتصادي وتراجع في احتياطيات النقد الأجنبي وزيادة في عجز الموازنة واختلالات أخرى في المؤشرات الاقتصادية الكلية ، وقد حدث الأمر ذاته مع الأرجنتين فبعد حزم وبرامج إصلاح قاسية في التسعينيات أيضا بالتعاون مع المنظمات الدولية وبرعاية أمريكية خاصة ، خوفا على مستحقات البنوك والشركات الأمريكية هناك ، عادت بعد كر وفر الى نفس المربع وربما أسوأ ، كما شهدنا في الأشهر الأخيرة ، ونفس الشيء يقال عن الإصلاح الاقتصادي في البرازيل - وفق تصور وطني خالص - والذي قاده الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا ، إذ ها نحن نرى البرازيل تكر مرة أخرى الى الاختلال الاقتصادي والنقدي بل والسياسي أيضا ولا يوجد أفق بعد للحل رغم الوعود المفرطة في الشعبوية للرئيس اليميني الجديد. بعض التفسيرات تذهب عادة الى ان الحكومات تأتي عند لحظة معينة وتعجز عن تحمل ضغوط الرأي العام الذي يستجير من تبعات الإصلاح والتضخم الناتج عنه ، أو ضغوط البرلمانات ، وتضطر إلى التراجع عن المضي قدما في الإصلاحات أو عدم إكمالها ، بل وتقوم أحيانا بأعمال للترضية السياسية أو من اجل الموسم الانتخابي ، دون الارتكاز على أسس اقتصادية سليمة ، ما يقود سريعا الى تدهور المالية العامة وما بعدها ، وربما تكون حالات دول مثل إيطاليا واليونان خير عنوان على ذلك ، وهناك من يقولون ان الإصلاحات تنتكس لأن الإصلاحيين يقضون وقتا طويلا في الاحتفال بما تم إنجازه دون أن يلتفتوا الى الثغرات التي تظهر أو التقلبات الدولية أو الإقليمية التي تؤثر على أوضاع بلدهم ، وهذه حالة عربية بامتياز لكنها ليست قصرا على الدول العربية ، وفريق آخر يرى أن الإصلاحيين لا ينتبهون في غمار العمل والحماس أو قوة الدفع الى أنهم ومهما تطلبت البدايات من جهة يبدأون بالسهل وهو الإصلاح المالي والنقدي ، وهذا يكفيه في النهاية صدور قرارات أو تشريعات لتظهر نتائجه سريعا.
صحيح أن أمر هذا الإصلاح المالي يتطلب الكثير من العمل والاتصالات والمراجعات والتنقيبات ويصحبه عادة قدر عال من الصخب والجدل ، لكن الموضوع في النهاية هو الأسهل في المهام ، وعندما تأتي اللحظات الصعبة أي المرتبطة بإصلاح الاقتصاد الحقيقي وزيادة التنافسية ورفع مستوى الصادرات السلعية والخدمية بمعدلات كبيرة ، وزيادة الإنتاجية ، وتطوير مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية التي تكون في حالة إعياء شديد - وعلى رأسها التعليم والصحة وإصلاحهما يحتاج سنوات - يكون «نفسهم» قد انقطع ومن ثم تبدأ دورة التراجع . وبهذه المناسبة فهناك نظريات كاملة تدور حول فكرة الدورة الاقتصادية سواء بالنسية للشركة أو الاقتصاد كله أو حتى الاقتصاد العالمي ، ولهذا يعتبر بعض الاقتصاديين أن التراجعات مسار طبيعي في حياة الدول بعد فترات نمو وازدهار وانه يأتي عادة وقت يتم فيه حتما العودة الى حالة الاحتشاد الى الحكومة أو المجتمعية بغية الإصلاح بعد ان تكون التراجعات قد وصلت حدا لا يحتمل ، وبالتالي تبدأ دورة صعود أو تصحيح جديدة وهكذا ، غير ان مثل هذه الآراء هي محل جدل خاصة بالنسبة للحالات التي حصل فيها برامج إصلاح فتقدم فانتكاس.
وتتحدث دوائر اقتصادية عديدة بكثرة هذه الأيام عن حالة خاصة تتعلق بدول بعينها هي الدول التي تعتمد بالأكثر على موارد طبيعية كالبترول والغاز في منطقتنا أو النحاس في شيلي أو الفوسفات أو المنجنيز في هذا البلد أو ذاك ، وتربط صعود الإصلاحات وتراجعها بحالة أسعار السلعة وصعودها وهبوطها والاحتياطيات التي تم تكوينها أو لم يتم في وقت الفائض أو البراح ، وتزدهر هذه الدراسات حاليا نتيجة إلحاح عملية تنويع مصادر النمو على الدول المعنية اكثر من أي وقت مضى ، وقيام بعضها بالفعل بإعداد خطط قوية بعيدة المدى لإنجاز هذه الهدف خاصة ، وأن بعض التوقعات تشير الى أن النفط بصفة عامة لن يشهد دورات صعود كبيرة في المستقبل وسيكون اتجاه أسعاره نزوليا في العقود المقبلة على الإجمال.
بيد أن حالة التقدم في الإصلاح وانتكاسه بمجموعة الدول الأخيرة تختلف في ملامحها العامة عن الحالات الأخرى التي أشرت إليها، وأن كان هناك ما يربط الجميع في النهاية من حيث التحديات وأساسيات الإصلاح التي لا غنى عنها. ما أريد أن أطرحه هو طبيعة القيادة في كل مرحلة إصلاحية ، فمن المشاهدات العامة ان الإصلاحات تمضي طوال الوقت في ظل قيادة واحدة تقريبا وأعني بقيادة واحدة جهة ولا أقصد الأشخاص ، وفي العادة تتولى قيادة الإصلاح البنوك المركزية ووزارات المالية ، وهذا طبيعي فالمستهدفات واللبنات الأولى للإصلاح هي في هذا الحقل بالفعل إذا لا تقدم في ظل وجود تعدد في أسعار الصرف وارتباك في
أسعار الفائدة وفي أداء الجهاز المصرفي ودين عام كبير وعجز موازنة واضح ومزمن وإيرادات عامة جامدة ، ومن الطبيعي أن تكون القيادة للجهتين اللتين أشرت إليهما ، ومع تقدم الوقت تشعر الحكومات ان ما تحقق من تحسن في المؤشرات هو ابن شرعي لجهود البنوك المركزية والمالية وترتكن كل الأجهزة الحكومية الى هذا الوضع وتتطلع الى ان يستمر الإصلاح والنجاح بنفس القيادة ناسية ان لكل مرحلة متطلباتها ، ولهذا قد ينسى كثير من الدول في غمرة الحماس ان المرحلة التالية تحتاج الى قيادة مختلفة أو بالأدق من قلب الاقتصاد الحقيقي، قد يكون مناسبا في حالة دولة ما ان تكون في يد وزارة الصناعة والتجارة الخارجية ، أو حتى في يد وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي والغابات والأسماك ( مثلا ) ، أو في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ، أو الطاقة والكهرباء أو النقل والمواصلات ، أو السياحة، أو خليط قيادي من هؤلاء أو بعضهم ، بحسب الأوليات التي ترى الدولة أنها تراهن عليها أو لها فيها ميزات تنافسية واضحة ومؤكدة ، ويمكن ان تبقى قيادة الإصلاح كما كانت - أي مع البنوك المركزية والمالية - إذا كانت اللامركزية متحققة بأرفع مستوياتها وهدف الدولة هو تحريك الدولاب كله من خلال تغيير المؤشرات الأساسية الكلية وان النتيجة تتحقق بالفعل من جراء ذلك أي تحدث زيادة ضخمة في الصادرات وتحسن كبير في الاستثمار الخاص المحلى والأجنبي وفي مراكز الدولة في مناخ الأعمال والتنافسية والبيئة والمعلوماتية الخ من جراء إصلاح المؤشرات النقدية والمالية . لقد ذكرني بكل ذلك مقال مهم لأستاذ كبير في جامعة هارفارد يقول فيه ان محافظي البنوك المركزية سيصابون بما سماه «صدمة وقحة» إذا حدثت حالة ركود يراها متوقعة في الدول المتقدمة إذا استمر ركونهم الى ان وزارات المالية ستقوم باللازم وقت الركود على اعتبار ان البنوك المركزية ومع خفض الفائدة الى أدنى مستوى كما هو سائد - باستثناء أمريكا - ليس في ايديها الكثير للمناورة ، لكن ما يمكن ان تقوم به المالية محدود ، وبرأيه يجب الاستفادة من الحوافز التي تقدمها المالية لتنشيط الاقتصاد لكن لا يجب ان تتولى القيادة في لحظة الركود. ونفهم من ذلك انه حتى بين المالية والمركزي يتم التبديل أحيانا وفق مقتضيات اللحظة وان لكل وقت «أدانه» القيادي إذا شئنا القول. الحوار حول الاقتصاد الآن يجب ان يركز على من يقود وفي أي ظرف أو لحظة زمنية.