الملف السياسي

التنمية العمانية .. رؤية للبشر قبل الحجر

07 يناير 2019
07 يناير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

لقد أبدعت سياسات السلطنة في فهم وتطبيق معنى التنمية المستدامة في البلاد سيما وأن أي نمط للتنمية يهتم بتحسين مستوى رفاهية الأفراد في الوقت الحالي على حساب مستوى رفاهيتهم في المستقبل يعد نمطا غير مستدام أي أن التنمية المستدامة تهدف إلى تعظيم النفع الصافي من التنمية الاقتصادية مع مراعاة الحفاظ عبر الأمن على نوعية الموارد والخدمات البيئية ومستواها.

على عتبات عام جديد تبقى إشكالية التنمية الاقتصادية مثار الحديث ويتناول الباحثون في كل دولة الأرقام الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الكبرى حول العالم بعين فاحصة في طريقهم لاستشراف حظوظ بلادهم من النمو والتنمية في قادم الأيام.

على أن علامة الاستفهام هذا العام … لماذا الاهتمام بأحوال التنمية المستدامة مشحون بالكثير من القلق في قارات الأرض الست؟

الجواب المؤكد هو أن هناك بالفعل مخاوف حقيقية من أن يتعرض الاقتصاد العالمي لكبوة كبيرة وخطيرة وهذا ما حذر منه عدد من كبار الاقتصاديين حول العالم، وفي المقدمة منهم الأمريكي «نورييل رويني» الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والذي استشعر الجميع عنده مخاوف هائلة من أزمة اقتصادية تتجاوز بمراحل أحوال الأزمة المالية في 2008 وربما تقترب ويا للهول من الكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينات القرن العشرين.

في هذا السياق يبقى فرض وليس نافلة على كل دولة أن تتأمل حقيقة أوضاعها الاقتصادية وفرصها في النمو من عدمه وهل هي تمضي في سياق آمن يقيها شر المخاطر وتقلبات الأوضاع أم لا ؟.

يعن لنا أن نتساءل ماذا عن أوضاع التنمية في سلطنة عمان في بدايات العام 2019؟

باختصار غير مخل يمكننا تقديم جواب شاف واف من خلال الاطلاع على تقرير التنمية البشرية 2018 والصادر في شهر سبتمبر من عام 2018 والذي أشار إلى أن السلطنة حققت المرتبة الخامسة عربيا، والـ48 عالميا متقدمة بذلك أربعة مراكز عالميا ومركزا واحدا عربيا عن تصنيف العام الماضي.

تستدعي النتائج المتقدمة طرح علامة استفهام كيف للسلطنة أن تحقق هذه النجاحات رغم الأوضاع الاقتصادية العالمية المتقلبة والاضطرابات التي تشهدها الأسواق العالمية بداية والخليجية تاليا؟

الشاهد أن التقرير الأممي المهم يؤكد على أن الفضل في هذا التقدم يعود إلى السياسات الاقتصادية والتنموية التي تعمل على تنمية الثروة البشرية في الدولة وتحقيق أعلى معدلات التطور والنمو في مجالات التعليم والصحة وجودة الحياة في إشارة تفسر تصنيف السلطنة ضمن فئات الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة.

هل من أهمية دولية لهذا التقرير؟

بالقطع نعم، ذلك انه فضلا عن الموضوعية التي يتسم بها في تقييم أوضاع الدول المختلفة فإنه يظل واحدا من أهم المؤشرات على ما تحققه الدول الداخلة ضمن التقييم من تقدم أو تراجع على صعيد التنمية البشرية، وهو ما يمثل أيضا رؤية للبرنامج حول فاعلية السياسات المتبعة ولأسباب التراجع في حالة حدوثها.

ولعله من المفيد ونحن نتحدث عن رؤية السلطنة للتنمية المستدامة المتصلة بعام 2030 والخطة الموضوعة في هذا الإطار أن نتساءل… هل من أسباب خاصة جعلت السلطنة تقفز مثل تلك القفزات الخلاقة في تحقيق مستوى متميز لشعبها على صعيد الاقتصاد العالمي؟

دعونا نستحضر ما أشار إليه جلالة السلطان - حفظه الله ورعاه - في هذا السياق من قبل إذ قال «إن التنمية ليست غاية في حد ذاتها وإنما هي من أجل بناء الإنسان الذي هو أداتها وصانعها ومن ثم ينبغي ألا تتوقف عند مفهوم تحقيق تقدم الإنسان وإيجاد المواطن القادر على الإسهام بجدارة ووعي في تشييد صرح الوطن» ..

ما الذي يمكن للمرء أن يستنبطه من هذا الحديث الرصين؟

بلا شك يؤكد صاحب الجلالة من خلال خطابه للشعب على أن الفرد هو السلاح الفاعل في ديمومة التنمية في البلاد ودعامة التطور فيها ويمكن تعريف التنمية المستدامة على أنها التوافق بين استهلاك الفرد للموارد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن الطاقة الاستيعابية للبيئة مع ضمان ديمومتها للأجيال القادمة.

عبر سنوات النهضة المباركة التي تقترب حثيثا من العقود الخمسة كان صاحب الجلالة ولا يزال ساعيا نحو إقامة منظومة تحديثية حضارية لبلاده لم يكن الحجر على أهميته فيها هو الركن الأصيل بل البشر ولذلك فقد حافظ جلالته طوال هذه العقود على زخم الإنسان العماني بكل ما من شأنه أن يحفظ كرامته ويمضي به في معارج المجد مرتقيا بفكره في الحاضر ومتطلعا للعلا مستقبله من خلال عقد اجتماعي فيه الإنسان فيه هو القضية وهو الحل.

كان الإنسان ولا يزال هدفا رئيسيا في خطط التنمية العمانية المستدامة والبداية من القضاء على الفقر وتوفير الحياة الكريمة للبشر وقد أدرك القائمون على تنفيذ تلك الخطط بتوجيهات صاحب الجلالة أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال تؤدي دورا مهما في جميع جوانب الحياة الوطنية ولا سيما في القضاء على الفقر وعلاوة على ذلك ستساعد على ضمان المساواة في الحقوق في الموارد الاقتصادية عن طريق نشر خدمات معلومات دقيقة.

فعلى سبيل المثال من خلال إطلاق الخدمة المصرفية عبر الهاتف المحمول التي تغطي المصالح لملايين الناس يمكن لحركة الاقتصاد المحلي أن تمضي في سهولة ويسر غير مسبوقين وعلاوة على ذلك فقد مكنت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أيضا خدمة الائتمانات الصغيرة التي تشكل جزءًا من التمويل البالغ الصغر الذي يوفر مجموعة واسعة من الخدمات المالية ولا سيما حسابات الادخار للفقراء.

لم يكن تحقيق السلطنة لمركز تنموي مستدام متقدم إلا ثمرة جهود ذكية مجتمعية وحكومية تستخدم في القضاء على الجوع بنفس آلية القضاء على الفقر دفعة واحدة، ومن هنا يفهم المرء أن استيعاب السلطنة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وبنوع خاص في مجال الزراعة وبالنسبة للمزارعين بنوع خاص، قد وفر طرق جديدة للحصول على المعلومات والخدمات عن طريق تحسين الأمن الغذائي وتعزيز الاستدامة الزراعية على سبيل المثال من خلال استراتيجيات الزراعة الإلكترونية مثل رصد الإمدادات الغذائية ورسم خرائط الإنتاج الزراعي ونقص الأغدية لإنشاء قاعدة بيانات شاملة وربط المناطق الريفية والنائية ومساعدتها على تحسين أساليبها الإنتاجية وإنتاجيتها وتحسين ظروف التخزين وكفاءة التسليم.

ولعل العنصرين المتقدمين واللذين أبدعت فيهما السلطنة بنوع خاص أي مجابهة الفقر ومواجهة الجوع يحتلان مكانا متقدما في مؤشر أهداف التنمية المستدامة ومقاييسه الـ17 التي قامت الأمم المتحدة بوضعها ضمن رؤية يؤمل أن تجيء ثمارها بحلول عام 2030 وتشمل القضاء على الفقر والجوع وتحقيق الصحة الجيدة والرفاه والتعليم الجيد وتحقيق المساواة بين الجنسين وتوفير المياه النظيفة والنظافة الصحية، وتمكن الدول من الحصول على الطاقة النظيفة وبأسعار معقولة كما تشمل أيضا أهداف التنمية المستدامة تحقيق النمو الاقتصادي والصناعة والابتكار والهياكل الأساسية والحد من أوجه عدم المساواة وإيجاد مدن ومجتمعات محلية مستدامة والاستهلاك والإنتاج المسؤولين والمساهمة الفعالة في العمل المناخي والاهتمام بالحياة تحت الماء وفي البر، علاوة على تحقيق السلام والعدل وإيجاد المؤسسات القوية وعقد الشراكات لتحقيق الأهداف.

هل استطاعت السلطنة تجاوز فكرة الاقتصاد الريعي النفطي تلك الإشكالية التي تعد عائقًا كبيرًا لدى العديد من الدول التي اعتمدت موازناتها على تدفقات النفط من دون مقدرة حقيقية على تنويع الاقتصادات الداخلية؟

في واقع الحال أن المراقب لحركة الاقتصاد العماني يدرك وجود تنويعات اقتصادية مختلفة لإحداث حالة من تعددية المداخيل وكي لا تتعرض السلطنة لأزمات مالية عند اضطراب أسواق النفط على سبيل المثال.

في هذا السياق يمكن للمرء أن يرصد الجهود الكبيرة التي أدت إلى تطوير ميناء الدقم والمنطقة الاقتصادية الخاصة به وقد أضحت محل اهتمام من الدول الآسيوية القريبة كفعل إيجابي وخلاق من الناحية الاقتصادية لتجاوز اقتصاد النفط والدخول إلى ما بعده من عوالم الابتكار والتواصل والتحول الاقتصادي، وهنا فإن النموذج الاقتصادي العماني يسعى لإصابة أهداف اقتصادية مختلفة بحجر واحد أي محاولة الربط بين حركة التجارة والبضائع حول العالم من جانب واستقطاب الاستثمارات الخارجية من جانب آخر.

على أن علامة استفهام رئيسة وجذرية لا بد من طرحها ونحن في صدد الحديث عن نجاحات السلطنة في مسارات التنمية المستدامة… هل كان لمثل هذه لنجاحات أن تجد لها طريقا على الأرض بدون حالة الاستقرار السياسي التي توافرت طوال سنوات النهضة المباركة في العقود الماضية؟

المؤكد أن حالة السلام المجتمعي التي عرفتها عمان بفضل سياسات جلالة السلطان قد بسطت أجنحتها على صعيدين:

أولا: الصعيد الأهلي الديموغرافي الداخلي فقد كانت رؤية جلالته للحكم قائمة على الكفاية والعدل الأمر الذي جنب الشعب العماني حالة الاضطراب والقلاقل الأهلية وأبعد شبح الصراعات العرقية والسياسية فساد الهدوء وعم الأمان ولهذا باتت السلطنة مناخا جاذبا للاستثمار من كافة أرجاء العالم وحتى من سياقات بعيدة جغرافيا في زمن زالت فيه الحدود وسقطت السدود الجغرافية.

ثانيا: أضحت السلطنة شمعة تنويرية في محيطها الإقليمي الهائج والمائج المضطرب إلى أبعد حد ومد، ولهذا فقد باتت دولة رسالة تشع بالسلام وتقود عملية الوئام بين الدول المجاورة في محاولة لا تخطئها العين لتجاوز مرارات الواقع لسبب أو لآخر وهذا بدوره كان ولا بد له من أن ينعكس بردا وسلاما على أي رؤية تنموية مستدامة وحقيقية …

هل من بعد آخر وليس أخير لا بد لنا من الإشارة إليه بحروف من ذهب ونحن نتناول قضية الصعود الخلاق للسلطنة في العام الجديد على سلم التنمية الدولية؟

بلا شك لا يمكننا أن نهمل المسالة التعليمية والتي تمثل ركنا ركينا وأصلا أصيلا في أي عمل بناء من اجل المستقبل يمكن التعليم من اجل التنمية المستدامة كل إنسان من اكتساب المعارف والمهارات والسلوكيات والقيم اللازمة لبناء مستقبل مستدام ويقصد بالتعليم من اجل التنمية المستدامة إدراج قضايا التنمية المستدامة الرئيسية في التعليم مثل تغير المناخ والحد من الفقر والاستهلاك المستدام.

لقد أبدعت سياسات السلطنة في فهم وتطبيق معنى التنمية المستدامة في البلاد سيما وأن أي نمط للتنمية يهتم بتحسين مستوى رفاهية الأفراد في الوقت الحالي على حساب مستوى رفاهيتهم في المستقبل يعد نمطا غير مستدام أي أن التنمية المستدامة تهدف إلى تعظيم النفع الصافي من التنمية الاقتصادية مع مراعاة الحفاظ عبر الأمن على نوعية الموارد والخدمات البيئية ومستواها.

في هذا السياق يفهم القارئ لماذا كان جلالته دائما وأبدا في خطاباته السامية يحرص كل الحرص على حق الأجيال الحاضرة في حياة آمنة كريمة وفي تنمية مستقرة ومستمرة بل ويتطلع كذلك إلى أن تصون الأجيال الحالية للأجيال القادمة فرصة هذه التنمية التي تدوم والتي لا تنقطع بانقطاع جيل بعينه أو مورد بذاته الأمر الذي أشرنا إليه سلفا عن الإنسان في فكر جلالة السلطان.

ينتظر السلطنة في العام الجديد أفق رحيب ونجاحات اقتصادية متجددة تدفعها لارتقاء درجات أعلى على الصعيدين العربي والعالمي في مضمار التنمية المستدامة وهذا هو التوافق البناء لحساب الحقل مع حساب الحصاد الذي سهر عليه جلالته عبر نصف قرن أمده الله بالصحة والعافية وطول العمر.