أفكار وآراء

الاقتصاد العالمي وأزمة المناخ.. صراع إلى أين؟

04 يناير 2019
04 يناير 2019

إميل أمين - كاتب مصري -

مع بدايات عام جديد تكثر التوقعات والتكهنات بشأن مستقبل العالم على كافة الأصعدة، وفي مقدمة الأحاديث المثيرة للجدل هذا العام يأتي حديث الاقتصاد، سيما بعد أن أشارت مصادر وعقول اقتصادية عالمية إلى مخاوف جدية بشأن أوضاع الاقتصاد العالمي في العام الجديد وبلغ الأمر حد تحذير الاقتصادي الأمريكي الكبير”نورييل روبيني” من أن كسادا عالميا يمكن أن يضرب العالم ويكاد يكون احتمال وقوعه مؤكدا، وهناك اكثر من سبب لتلك المخاوف، بعضها يتصل بازدياد الديون العالمية، وبعضها الآخر موصول بتطورات وإن شئت الدقة قل تدهورات المناخ العالمي.

والجدلية القائمة بين الأوضاع الاقتصادية كما تقتضيها أصول وأسس الرأسمالية، في ظل نظام عالمي لا يؤمن إلا بالنيوليبرالية وبحركة السوق، ولا دلالة له على الاقتصاديات التعاونية ذات الملمح والملمس الاشتراكي، تلك التي تفتح الباب لمشاركة الدولة في الأخذ بأيدي رعاياها، وبخاصة الفقراء وأصحاب الدخول المتواضعة منهم، ولا تترك الأمر لحرية السوق وتوازنات الشركات الكرى لتتقاذف المصائر بين أيديها، وكأن البشر ليسوا إلا أرقاما في موازنات وتوازنات، لا انفس وعقول وقلوب، وأجيال مستقبلية لها كرامة يجب أن تصان.

كثيرة هي الأسئلة المطروحة على بدايات العام الجديد وفي المقدمة منها العلاقة بين الرأسمالية والتغير المناخي، وهل يمكن أن تستجيب الأولى للكارثة المحدقة بالثانية، وهل نحن في حاجة إلى طراز آخر من الرأسمالية قادر على تحقيق النمو، ولكن على أساس انبعاثات منخفضة من الكربون؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن نصل إلى هذا؟ ربما يتعين علينا أن نفكك الأمر لاسيما بالنسبة للقارئ غير المتخصص في مسائل الاقتصاد المعمقة من جهة، أو منبت الصلة مع إشكالية علمية معقدة مثل التغيرات المناخية، والعلاقة الجدلية بين الأمرين.

باختصار غير مخل نشير إلى أن التغيرات المناخية أضحت رجع صدى لا يتأخر ولا يتلكأ لعلاقة الإنسان بالطبيعة، تلك التي بدأت من اقتئات البشر على الموارد الكونية، وصولا إلى تغير أحوال طبقات الجو العليا.

أما مصادر الطبيعة التي تجرأ الإنسان عليها، فكانت البداية من عند الغابات التي تعرضت أشجارها لحالات من الإبادة غير المسبوقة في العالم طمعا في ثروتها الخشبية، الأمر الذي حرم الكرة الأرضية من مصادر الهواء النظيف لا سيما الأكسحين النقي اللازم لتنفس الإنسان، وللحفاظ على درجة حرارة معتدلة للأرض.

من بين المنطلقات التي ساءت فيها العلاقة بين المناخ وبين الاقتصاد، ذاك المتصل باستخدام أنواع الطاقة، لا سيما الطاقة الأحفورية أي الكربون، فقد تكلمت أفواه كثيرة عن حتمية توقف البشرية عن استخدام الكربون في توليد الطاقة، ذلك لأنه المسبب الأول والرئيسي في تلويث طبقات الجو العليا، ومرد رئيسي أيضا في ازدياد ثقب الأوزون، وعلاقة الأمر وثيقة بظاهرة الاحتباس الحراري، تلك التي تسببت في كوارث لا حصر لها من عينة ارتفاع منسوب المياه في بحار ومحيطات العالم، عطفا على الأسوأ الذي لم يأت بعد والمتمثل في ذوبان الأقطاب الجليدية القطبية وما يعنيه هذا من زوال ودمار مدن بأكملها سوف تغمرها المياه غمرا.

إضافة إلى ما تقدم فإن الاحترار العالمي يستجلب معه ظواهر مناخية تدمر البر والبحر، فهو السبب المؤكد في ظاهرة التصحر، وهذا معناه أن تفقد الأرض قدرتها على الإنبات وعن حصد المحاصيل، ومن هنا تنشأ المجاعات ويعم الكرب الأرض بمن فيها، ولا يتوقف المشهد عند فقدان الأرض الخضراء لصالح الرمال الصفراء المقفرة، بل يمتد إلى ما هو أسوأ أي ظواهر التسونامي، حيث أمواج البحر القاسية والقاتلة تأخذ في طريقها كل شيء، وللأمر أيضا علاقة بإثارة البراكين الخامدة منذ زمن.

لماذا الإصرار على استخدام الكربون، وعدم الاهتمام الكافي بمخلفات المصانع العظمى من الأبخرة القاتلة، إضافة إلى عوادم المركبات السائرة والطائرة على حد سواء؟ الشاهد أن أسعار طاقة الكربون تعد أرخص أنواع الطاقة حول العالم، ولا تقارن بأسعار النفط، أو تلك الناتجة عن المفاعلات النووية، ومن هنا نرى الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية، والصين على وقف استخدام ذلك النوع من الفحم، فكلا البلدين يرفض رفضا جامعا مانعا التراجع عن استخدام الكربون في المصانع والمؤسسات الإنتاجية الكبرى، بسبب التنافس الاقتصادي بين الطرفين والسعي لتحقيق السيادة والريادة الاقتصادية على حساب الآخر.

هل نفهم من هنا لماذا انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من اتفاقيات المناخ حول العالم؟

القرار الأمريكي في واقع الأمر لم يكن ضربا من ضروب المفاجأة، ومرد ذلك أن الرئيس ترامب ومنذ حملته الانتخابية لا يشغله سوى أمر عودة أمريكا لتتبوأ المركز الأول حول العالم اقتصاديا، وتاليا عسكريا وسياسيا، وهو ما تعيه الصين والاتحاد الأوروبي وبقية القوى الدولية، وان كان لا يملك أي منهم أن يفعل شيئا تجاه الإرادة الأمريكية المنفلتة.

من هنا نشأ مفهوم رأسمالية المناخ الذي يوضح حدوث أشياء خطيرة، لكن في نفس الوقت يمكن أن يكون المفهوم مدعاة لأشياء جيدة وممتعة، إذ يمكن تحقيق التقدم وإحراز نجاح في هذا السياق وبخاصة عندما ينضم نشطاء البيئة مع الممولين في المدن، أو عندما يوحد المتاجرون في الكربون والمنظمات غير الحكومية المعنية بالتنمية جهودهم معا للحصول على الدعم المالي الذي يحقق تنمية على أساس كربون منخفض.

والمؤكد أن الاستجابة لتغير المناخ تشتمل على تغيرات جذرية في كيفية بناء اقتصاد عالمي وحياة يومية. لقد اصبح استعمال مصطلح “نزع الكربون من الاقتصاد”، في تزايد مستمر. وهو يشير إلى عملية نزع الكربون عن الطاقة التي نستخدمها في تدوير عجلة الاقتصاد، ولكن تضمين المصطلح لكيفية تسيير الاقتصاد غالبا ما لا يحدث أو يفهم، فغالبا ما ينظر إليه كمسألة تقنية. وعليه أن ما سيؤول إليه نزع الكربون من الاقتصاد هو ما بات يسمى اليوم بـ “رأسمالية المناخ “وهو نموذج يختبر حاجة الرأسمالية لنمو اقتصادي مستمر، وانتقال واضح بعيدا عن النمو المعتمد على الكربون.

لقد تزايد إدراك كثير من الناس بان تغير المناخ هو قضية العصر، فهي تتشابك مع كل العناصر التي تبقينا أحياء مثل الغذاء والطاقة وكذلك الوسائل التي نجمع بها المال مثل التجارة والصناعة والنقل، وطالما اصبح تغير المناخ قضية مراوغة تتم مناقشتها بغموض في مجلات علمية، أو بين أناس ينزعجون من التكنولوجيا، فقد أصبحت هذه القضية حديث كل يوم، وطالما تم تفهم هذه العلاقات فإننا نتفهم الحاجة إلى حشد الجهود ذات العلاقة بقضية تغير المناخ ليس بوصفه مشكلة بيئية متفردة مثل الغابات أو المطر الحمضي، ولكن بوصفه شيئا يؤثر في كل ما نفعله، وهذه ليست مجرد مسالة ستغير طبيعية حياتنا في المستقبل، ولكن الكيفية التي نعيش بها اليوم.

يعن لنا أن نتساءل هل المسألة أي قضية رأسمالية المناخ ترف اجتماعي أم اقتصادي، أم مسألة كارثية جذرية تهم عموم الجنس البشري ولهذا يتوجب السعي لإيجاد حلول لها في التو واللحظة ومن دون إضاعة الوقت؟ يشبه حال البشرية المتصارعة رأسماليا اليوم، وضع عدد من البحارة على متن سفينة تمخر عباب البحار، وفي وسط الأنواء الهائجة والمائجة اختلف البحارة على توجه البوصلة، فأخذ فريق منهم يجدف إلى الشرق وآخر إلى الغرب، ولهذا كان ولابد من أن تتحطم السفينة على صخرة الخلافات، وتضربها الأمواج العاتية، ويذهب مجهود بحارتها وراء الرياح.

قد يكون هذا هو حال الاقتصاد العالمي، فالجميع يتسابق من أجل تحقيق أكبر ناتج محلي إجمالي، وهو أمر شرعي ولا تشوبه شائبة أن كان يمضي في الأطر الطبيعية ومن دون الإساءة إلى أحوال الطقس والمناخ العالميين، لكن إذا جاء الأمر على حساب تلويث “امن الأرض” فإن النتيجة سوف نراها كارثية على الجميع اقتصاديا وإنسانيا ومجتمعيا دفعة واحدة.

دعونا في هذه السطور وعلى بدايات عام جديد أن نذكر العم سام بأن شيئا ما كارثيا قد تغير في المناخ العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية قبل أي بقعة أو رقعة أخرى حول الكرة الأرضية، سيما وانه في كل عام يبدو قدر جديد من الأدلة، حتى انه بالنسبة للأعاصير بات لدى أمريكا شيء جديد كل عام، فقد وقع في عام 2004 أول إعصار في نصف الكرة الجنوبي، وفي عام 2005 حدث إعصار كاترينا الذي يعتبر الأكثر دمارا في التاريخ الحديث، وفي عام 2007 هبت خمس عواصف من طرازين.

لم تكن أوروبا بدورها بعيدة عن الآثار المهلكة للتغيرات المناخية فقد شهدت المملكة المتحدة على سبيل المثال فيضانات غير مسبوقة في العام 2007.

والأمر لا يختلف كثيرا في الصين التي باتت تتعرض لفيضانات مهلكة وعواصف ثلجية قاتلة توقف حركة الحياة وتعطل الإنتاج، والناظر إلى دول النمور الآسيوية يدرك كيف أن التسونامي أغرقها وهددها بشكل قاتل مرات عدة في الأعوام الماضية.

وإذا ارتحلنا إلى القارة الإفريقية سنجد أن ارتفاع درجة حرارة الأرض زاد مساحاتها الشاسعة اشتعالا لدرجة أنها باتت غير صالحة للسكنى الأدمية.

والثابت أن مصطلح رأسمالية المناخ ينبغي أن يفتح أعين الدول والأقطاب الكبرى على مسألة كارثية بالنسبة إليهم وهي أن شعوب الجنوب الفقير والمطحونة، لن تقف صامتة أمام التجريف الذي تتعرض له من قبل تلاعب الأغنياء بالمناخ العالمي، ولهذا فإن الهجرات بالملايين من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني سوف تؤدي ولا شك إلى ثورات جغرافية وديموغرافية والى حروب ونزاعات من اجل الحياة بدءا من لقمة العيش وصولا إلى نقطة المياه الصالحة للشرب.

هل فات أوان إصلاح الأوضاع الرأسمالية المختلة والمتصلة مع أزمات المناخ الدولية ؟ في كل الأحوال طالما هناك حياة يبقى هناك أمل، وعندما تشعر الخليقة بأكملها أن هناك تهديدات جدية تتمثلها، فساعتها يمكنها أن تلقي وراءها خلافاتها، ويمكن للأمم المتحدة أن تقود عملية مصالحة تاريخية هي الأولى من نوعها عبر التاريخ البشري بين الإنسان وأمه الأرض، هذا إن أراد أن تمضي به إلى المستقبل، لا أن تقلب له ترس المجن كما يقال.