أفكار وآراء

لماذا سيكون عام 2019 قاسيا على الشعبويين؟

02 يناير 2019
02 يناير 2019

داليبور روهاتش– واشنطن بوست ترجمة : قاسم مكي -

يخيم شبح الشعبوية على العالم الغربي. فجاذبية البرامج السياسية الانقسامية التي تؤلب «الناس العاديين» ضد النخب المشغولة بنفسها والنائية عن همومهم في تصاعد منذ عقود عديدة. عززت من هذا الاتجاه الأزمة المالية في عام 2008 وأيضا الموجة الفوضوية لباحثي اللجوء الذين وصلوا إلى سواحل أوروبا مؤخرًا. رغما عن ذلك قد يشهد عام 2019 بداية توقف التمرد الشعبوي. لماذا؟

أولا، كلما طالت ممارسة الشعبويين للسلطة، كلما اتضحت أكثر تكلفة الشعبوية. فقد أثار احتمال اتصاف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالفوضوية والخشونة إحساسا بالذعر ومعارضة قوية وسط المحافظين في بريطانيا. وهذا ما قد يمنح اتفاق تيريسا ماي حول الانسحاب من الاتحاد الأوروبي فرصة جديدة للنجاح بعدما قوبل بالتنديد الشديد. وحتى إذا خسرت ماي التصويت البرلماني الوشيك على اتفاقها سيحظى استفتاء آخر (حال إجرائه) بتأييد المشرعين البريطانيين بدلا عن الخروج الصاخب من الاتحاد. وفي أمريكا لم تكن حروب ترامب التجارية «جيدة» ولا كان الفوز فيها «سهلا» رغم أن الاقتصاد هو المجال الذي يبرع فيه ترامب حتى الآن، كما يبدو. فالرسوم الجمركية على الفولاذ والألمنيوم كلفت شركة فورد للسيارات وحدها أرباحا تصل إلى حوالي بليون دولار. وحسب مؤسسة الاتحاد الوطني لدافعي الضرائب يفوق العبء العام للرسوم الجديدة على المستهلكين الأمريكيين الزيادات الضريبية التي ترتبت عن قانون الرئيس باراك أوباما للرعاية الصحية (أوباما كير). ومن جهة أخرى، ربما تمثل تقلبات السوق الأخيرة تصحيحا غير مؤذٍ لأوضاع الوفرة. لكنها أيضا قد تعكس توقعات بتراجع اقتصادي قادم. لكن الحكومة الأمريكية الحالية غير مهيأة على نحو لافت للإبحار في بيئة اقتصادية أكثر اضطرابا، كما اتضح في الهجمات التي شنها الرئيس ترامب على رئيس مجلس محافظي بنك الاتحاد الفيدرالي والمكالمات الهاتفية من وزير الخزانة ستيفن منوتشين لكبار مسؤولي البنك. ثانيا، على الرغم من الجدل الذي دار مؤخرًا حول «العهد الدولي للهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة» في عدة بلدان أوروبية من أبرزها بلجيكا إلا أن أهمية الهجرة تتضاءل كقضية انتخابية.

لقد تباطأ تزايد عدد سكان الولايات المتحدة المولودين في بلدان أجنبية في السنوات الأخيرة ويبدو تأييد الهجرة في الولايات المتحدة أقوى الآن مما كان عليه الحال خلال عقود مضت. إذ يقول 75% من الأمريكيين أن الهجرة شيء جيد. ويعود هذا التحول جزئيا إلى «ردّ فعلهم» على سياسات ترامب، كما اعتدلت المواقف البريطانية تجاه الهجرة منذ استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحتى في ألمانيا التي حصل فيها حزب «البديل لألمانيا» الشعبوي على تأييد كبير خلال أزمة اللاجئين يجري الآن إدماج السوريين الباحثين عن اللجوء بطريقة أفضل مما توقع معظم المراقبين. والفضل في ذلك يرجع جزئيا إلى نظام التلمذة الصناعية والتدريب المهني المرن في ألمانيا. ومع اتضاح رغبة كبار الساسة وقدرتهم على السيطرة على تدفقات الهجرة يتقلص المجال أمام مساعي تدبير تمرد شعبوي ضد سياسة «الحدود المفتوحة». ثالثا، على خلاف الاعتقاد السائد لا يجيد الشعبويون قيادة الأغلبيات الشعبوية. فحزب فيكتور أوربان «فيديسيز» حصل على أكثر من 50% من الأصوات الشعبية في المجر مرة واحدة في عام 2010. وكانت أغلبياته البرلمانية الأخيرة نتيجة لنظام انتخابي مفصَّل على قياس احتياجات الحزب. وعلى نحو مماثل كانت جاذبية دونالد ترامب الذي خسر الأصوات الشعبية لصالح هيلاري كلينتون محدودة جدا خارج دائرة مؤيديه وهم في أغلبيتهم الساحقة من الذكور البيض سكان الريف الأمريكي. ذلك بالطبع نذير شؤم بالنسبة لمستقبل الحزب الجمهوري «المتحور ترامبيا». بدوره، ألحق إيمانويل ماكرون هزيمة تامة بخصومه الشعبويين في الانتخابات الفرنسية التي جرت العام الماضي. ورغم اضمحلال تأييده أساسا بسبب الإصلاحات غير الشعبية التي تبناها إلا أن استطلاعا (انتخابيا) للرأي العام لن يؤدي في الواقع إلى نتيجة مختلفة ومثيرة (عن نتيجة انتخابات 2017) بخلاف إعادة توزيع استهلالي للأصوات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في الجولة الأولى. وربما سيبدأ بندول «الشعبوية» أيضا في التأرجح «متراجعا» في شرق أوروبا. فبالرغم من الطقس البارد وموسم الإجازات، عاشت المجر مؤخرًا احتجاجات كبيرة ضد سلسلة من السياسات الحكومية. وفي انتخابات العام القادم في بولندا من المستبعد أن يحافظ حزب القانون والعدالة على أغلبيته البرلمانية الحالية. أما في اليونان التي من المقرر أيضا أن تنتخب برلمانا جديدا العام القادم فيتقدم حزب الديموقراطية الجديدة (يمين الوسط) بقوة أمام الأحزاب الأخرى في استطلاعات الرأي العام. ولا يوحي أي شيء مما ذكرناه بأن السياسة على جانبي المحيط الأطلسي (أوروبا والولايات المتحدة) على وشك العودة إلى نقطة البداية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فالانقسامات الجديدة التي استغلها الشعبويون (بين ناخبي الريف وناخبي المدن وبين رؤيتين لمجتمع مفتوح ومغلق) ستكون هي المحددة للسياسة الديمقراطية في السنوات القادمة. إذ من المقرر أن يحقق اليمين الشعبوي واليسار الشعبوي مكاسب في انتخابات الاتحاد الأوروبي في مايو.

أما في الولايات المتحدة فقد ساهم تعصب ترامب الأعمى في تقوية جناح الحزب الديمقراطي الذي تقوده «سياسة الاشتراكية والهوية». لكن مع انخفاض إعداد المنتمين للحزبين الأمريكيين قياسا بأعوام العشرية الأولى من هذا القرن لن نبالغ إذا تصورنا أن السياسة الراديكالية والاستقطابية الحادة لن تخاطب حقا «الأغلبية الصامتة» في الولايات المتحدة أو أوروبا. وسيتمثل التحدي عام 2019 في منح هؤلاء الناخبين صوتا وأجندة سياسات مقنعة من شأنها إنعاش وتعزيز ديمقراطيتنا.

■ الكاتب زميل أبحاث بمعهد أميركان انتربرايز في واشنطن