أفكار وآراء

الاحتمالات والتشابكات

02 يناير 2019
02 يناير 2019

مصباح قطب -
[email protected] -

تكثفت في الأيام القليلة الماضية موجة الكتابات التي تفيض بالنظرات المغرقة في الرمادية بشأن مستقبل المنطقة العربية والعالم ، وبدا وكأن الكتاب والمحللين يُصفّون حساباتهم مع عام مضى ٢٠١٨ وبالمرة مع عام سيأتي أو دخل فضاءنا الزمني فعلا ، حيث لا يرون فيهما إلا كل ما هو مثير للتشاؤم بل والغياب التام للمنطق السياسي والاقتصادي بل وأيضا منطق الفكر ذاته. ويسود بالفعل الاعتقاد بين فئات واسعة من البشر بأننا إزاء تشرنوبل عالمي أي انفجار انشطاري في القواعد الدولية والقانون والنظام بحيث أصبحت الفوضى سيدة المنطق وليست سيدة الواقع فقط . ومنذ أيام قال أحد المفكرين على تويتر أنه لا يستطيع بجد إحصاء عدد الأعلام التي ترفرف في دول ومناطق شرق أوسطية او حتى دول أوروبية كانت مستقرة إلى حد ما أو حد بعيد . انفجار مروع للحركات السياسية والفكرية والعنفية والإرهابية والقومية والفاشية والطائفية والقبلية وألف يد ويد تمتد إلى كل مكان من مواقع التوتر لتضغط أو تؤثر بحسن أو سوء نية وما من رادع. الغريب أن الاقتصاد الذي هو الوجه الآخر للسياسة لا يشهد هذا الشكل الشرنوبلي في أزماته وفوضاه وإن عصفت بقواعده الكثير من الأمواج العاتية ورياح التشاؤم المسمومة أو المصنوعة قصدا لأهداف أو مصالح وطنية ضيقة الأفق أو لإشعال نيران التشدد القومي لغرض في نفس يعقوب أو اليعاقبة . أمر غريب بلا شك خاصة وأن العلاقة بين السياسة والاقتصاد أصبحت ميكانيكية أو لنقل مباشرة واللعب فيها على المكشوف تماما ، والفضل في ذلك في الحقيقة للرئيس ترامب.

كيف تفسر العملية إذا ؟ في اعتقادي أن هناك عاملين أساسيين لهذا التباين أولهما الطبيعة العملية للتبادل الاقتصادي وسرعة ظهور النتائج فى كثير من الصفقات إن لم تكن النتائج تظهر لحظيا ولهذه الطبيعة ديناميات تجعل التطلع إلى مكسب ولا أقول إن الطمع فيه مقترن بنزعة تسووية نفعية في حالات لا حصر لها من شؤون الاستثمار والأعمال والتجارة والتبادل وحتى التمويل. لسان حال من يجلسون على موائد التفاوض هنا يقول : حسنا . هناك خلافات سياسية حادة وخطيرة بين بلدينا أو مجموعة البلدان التي ينتمي إليها رجال الأعمال الجالسون على مقاعد التفاوض الصفقاتي لكن دعونا أولا نكمل هذه الصفقة /‏‏ وكل صفقة /‏‏ وعندما تشتعل الخلافات أو حتى الحروب سنلتزم بما تلزمنا به بلادنا، وبالطبع هناك من لا يلتزم حتى في حالات الحروب جريا وراء أي مكسب لكننا نتحدث عن القاعدة العامة ، وكما نرى فإنه لهذا السبب تظل مفاوضات البزنس تدور حتى اللحظة الأخيرة السابقة على القطيعة ، وللتذكير فإن الحديث السياسي في مثل تلك الحالات يشتعل قبل القطيعة بزمن طويل، وفي الآونة الأخيرة برزت أدلة تدعم أكثر ما قلته توا ، بل وهي مستغربة وربما خطيرة أيضا ، ألا وهي اختراق العقوبات على أي بلد ، وكنا نحسب أن مثل تلك الخروقات لا يقوم بها إلا مغامرون وشذاذ الآفاق في عالم الأعمال فإذا بِنَا نكتشف أن شركات عالمية كبيرة دخلت وتدخل هذا المجال وبأشكال من الحيل لا آخر لها ، كما أن بعض الدول تتخصص في قنص فرص في مثل تلك الحالات وتغمض العين عن خروقات يقوم بها مواطنوها أو شركاتها أو شركات حليفة ، ونجيء إلى العامل الثاني الذي يجعل عالم التبادل الاقتصادي أقل مدعاة للتشاؤم من عالم أهل السياسة ومراكز التفكير السياسي الداعمة ألا وهو طبيعة التشابكات التي أوجدتها الشركات العالمية بقصد أو بدون ، واستقرت عبر عقود وتراكمت بصفة خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة . إنه أمر غريب حقا ، فكاتب هذه السطور مثله مثل كثيرين في الدنيا لديهم انتقادات دائمة للشركات العابرة للجنسيات وممارساتها المالية والتجارية والبيئية الضارة أو الإجرامية أحيانا وتلاعبها الاحتكاري بالدول الضعيفة والأسواق والمنافسين والمستهلكين ، إلا أن ما أطرحه هنا هو اجتهاد من واقع ما أعايشه وألمسه وأتوقع وأنتظر أي نقد أو تقييم أو مناقضة ، من حيث لا تدري جعلت الشركات العالمية من نشاطاتها ومن طبيعتها الأخطبوطية ، العالم ذا قابلية ما لأن يعيش مجبرا في سلام في أوقات احتدام الخلافات السياسية ،أحقا يمكن لكل هذا الطمع أن يدفع إلى السلام أو التفاهم أو التهدئة ومصالح تلك الشركات ذاتها هي التي أشعلت الحروب ومولت الانقلابات والاضطرابات ؟ إجابتى هي أنه ممكن فى الوقت الراهن تحديدا وقد رأينا كما أوضحت في كتابات سابقة كيف أن شركات وادي السيليكون الأمريكي كانت أقل حماسا من ترامب لفرض العقوبات على الصين رغم أن احد دوافعه الأساسية لهذا الفرض كان حماية الأسرار التكنولوجية للشركات الأمريكية وفي مقدمتها شركات وادي السيلكون ، وبلغة أولاد البلد في مصر فإن دخول الحمام مش زي الخروج منه ، إذ تبين للشركات الأمريكية أنها بقدر ما خسرت في الصين بقدر ما ربحت ليس فقط من هذا السوق المهول ولكن أيضا من العقول والخيال لدى أبناء الصين المتعلمين أو العاملين في المشاريع التى تقوم بها الشركات الأمريكية في الصين ، ومن إسهاماتهم فى تطوير التطبيقات المختلفة ، ولم يعد بمقدور تلك الشركات ببساطة أن تنسحب من هذا السوق مهما كان الموقف السياسي لرئيس بلدها من هذا البلد . ليس عصيانا بالتأكيد ولكنه إدراك واقعي للصعوبات الهائلة في فض التشابكات ، لقد تعولمت عمليات الأعمال والتوظيف والترويج والإنتاج والتصميم والابتكار والتمويل بأبعد كثيرا من قدرة أي طرف مهما كبر على فضها ، وقس على هذا الكثير فى كل دول العالم ، وقد أذهب إلى ما هو أبعد وأقول إن بعض رجال الأعمال المصريين والعرب والفلسطينيين كشفوا مرات عن اعتقادهم ومن واقع خبرات عملية لهم إلى أنه يوجد في إسرائيل بكل عنصريتها ومعجونها الايديولوجى الذي يحيط كعنكبوت بالفرد والمجتمع والمؤسسات، رجال أعمال يقدمون المكسب والمنفعة والصفقة على الدولة وما فيها ، أي أن دولة الربح لديهم فوق دولة الموطن، ولا أستطيع أن أضيف أكثر ، وعليه فبقدر ما اقترفت الشركات العابرة للحدود من مخالفات وجرائم بقدر ما يمكن توظيف التشبيكات المنفعية التى نسجتها فى منح العالم الشديد الاضطراب مساحة للحوار تخفف من أجواء الفوضى والتوتر وتمنع من الانزلاق إلى صدامات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة ستكون نتايجها كارثية على الجميع وحتى على الجغرافيا والطبيعة ذاتهما.