الملف السياسي

عام من التحديات والتغيرات الدولية

31 ديسمبر 2018
31 ديسمبر 2018

إميل أمين -

على مشارف العام الجديد يبدأ موسم المنجمين وقراء الكرات البلورية، ويتذكر الجميع تنبؤات بعينها من قبل فلكيين كبار، لكن التعبير التاريخي كذب المنجمون ولو صدقوا يبقى هو الفاعل الأكبر في حركة التاريخ، وفي المقابل هناك قراءات استشرافية قائمة على معلومات ومعطيات آنية، يمكن تطويرها عبر وسائل علمية وخوارزميات إحصائية ليخرج منه المحلل السياسي بما هو قادم ولا شك في العام الجديد.

والشاهد أننا أمام عام من التحديات والفرص معا، وكذلك من الأزمات ومن إمكانات تجاوزها، حال توافرت الإرادات الطيبة وعم السلام حول العالم.

الحديث عن السلام ربما يكون المدخل الأكثر ملاءمة لهذا المقال إذ يرحل 2018 تاركا من ورائه ملفات عديدة محتقنة لا سيما بالنسبة لشرقنا الأوسط وهو ما قد يهمنا بالدرجة الأولى، فلا يزال العراق غير قادر على العودة مرة أخرى إلى حالة التجانس العرقي والطائفي، واليمن يحاول جاهدا الخروج من دائرة الحرب الأهلية، أما سوريا فأمامها شوط طويل من الترتيبات السياسية والتي بدونها لن تعرف حالة الاستقرار السياسي، فيما الملف الليبي فهو مرضي بدرجة بالغة جدا، ولم تفلح كافة المؤتمرات التي عقدت مؤخرا في توحيد راية الليبيين تحت قيادة موحدة، وبيت العرب المتمثل في جامعة الدول العربية يعاني من اهتراء تاريخي وإرادات متنازعة ومتسارعة وبعض الدول مثل سوريا مقعدها لا يزال شاغرا، وعليه يتساءل المرء أي عام جديد يهل على المنطقة؟ جزئية أخرى مثيرة حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط مرتبطة ولاشك بحالة الوجود الأمريكي خليجيا وعربيا، والإثارة هنا مردها القرار الأمريكي الأخير الخاص بالانسحاب من سوريا، فعلى الرغم من أن عدد الجنود الأمريكيين في شمال شرق سوريا لم يكن ليتجاوز 2000 جندي وهو رقم غير كبير مقارنة بالأرقام التي تدفقت عند غزو العراق في 2003، إلا أن الإشارة والرمزية أهم من الأعداد، ذلك أن السؤال الذي شغل ولا يزال الجميع ما هو مستقبل النفوذ الأمريكي في المنطقة، وهل واشنطن مهتمة بالفعل بالتواجد في منطقة كانت فيها ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية السيد الأول بعد أن قدر لها أن تقوم بعملية انزياح تاريخية لكافة القوى الدولية الأخرى، أم أن القيمة الواقعية والحقيقية لتلك المنطقة لم تعد كما كانت من قبل، وها هي أمريكا ترحل وتترك الجميع يضرب أخماسا في أسداس، وحتى بدون فهم أسباب ما يجري؟

الشاهد أن الجميع وحتى الساعة في حالة بحث عن جواب منطقي للسؤال المتقدم، ولم يخلص أحد إلى رد شاف واف سوى ان الارتباك الأمريكي الداخلي ينعكس بدون شك على بقية العالم، إذ لا تزال واشنطن سيدة قيصر حتى وان كثرت أخطاؤها، لكن الارتباك الأمريكي الداخلي يضرب بقوة العالم، ويصدق هنا التعبير القائل انه إذا تعرضت واشنطن للبرد، أصيب بقية العالم بالزكام.

يهل 2019 وهو عام الاستعداد للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2019، فيما الرئيس ترامب عرضة للعزل حال استطاع المحقق موللر ان يجد أدلة قاطعة تربط بينه وبين إشكالية روسيا – غيت، وحتى لو لم يجد فإن غالبية الديمقراطيين الذين سيطروا على مجلس النواب لن يجعلوا من العامين المتبقيين لترامب أياما سهلة هينة وقد رأينا قبل أعياد الميلاد كيف تصارع المجلس مع الرئيس وحدث إغلاق جزئي للحكومة بسبب عدم الاتفاق على أرقام الموازنة.

عدة تحديات مثيرة تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية إلى بقية أرجاء العالم في العام الجديد منها أزمات الهويات والقوميات في عالم اعتقد جلنا انه صار نسيجا اجتماعيا واحدا من جراء ظاهرة العولمة العابرة للحدود والسدود، فإذ بنا نرى صحوة غير بريئة للقوميات والشوفينيات الأمر الذي لفت له الانتباه عالم الاجتماع السياسي الشهير الأمريكي الجنسية الياباني الأصل «فرانسيس فوكاياما»، عبر كتابه الشهير الذي صدر هذا العام تحت عنوان «الهوية: الحاجة للكرامة وسياسات الاستياء»، وفيه إشارات وافية لازمة الهويات السياسية التي باتت وعن حق تهدد تماسك الدول الغربية الديمقراطية بسبب استدعاءها عدة قضايا مثيرة مثل الحاجة إلى الاعتراف والكرامة والهجرة والعلاقة بين دوائر انتماء القومية والدينية والإثنية، وهو ما سبب ويتسبب في تزايد الاحتقان داخل المجتمعات بسبب مخاوف من التماهي في الآخر، وفقدان الخصوصية والخوف من هيمنة الجماعات الأخرى على مقاليد السلطة.

والثابت أننا إذا تساءلنا هل الولايات المتحدة أم أوروبا المعرضة أكثر لتكون ميدانا لتطبيق نظرية فوكاياما الجديدة، فإن الجواب يمضي بنا جهة أوروبا بنوع خاص، وها نحن نرى أزمة السترات الملونة التي تجاوزت الأزمات والتحديات الاقتصادية إلى البحث عن الهوية.

ولعل صعود تيار اليمين السياسي حول العالم يتجلى بشكل خاص في أوروبا تحديدا، وقد يكون العام 2019 عاما مقلقا للأوروبيين بنوع خاص، أما السبب فلأنه سيشهد في يونيو القادم انتخابات البرلمان الأوروبي وسط احتمالات متزايدة من سيطرة وهيمنة نواب اليمين المتطرف، وربما يمين الوسط على مقاعد البرلمان، وإزاحة النواب الاشتراكيين التقليديين، وهو أمر تشي به انتخابات برلمانية في عدد من دول أوروبا كما الحال في ألمانيا حيث سيطر حزب البديل من أجل ألمانيا على نحو مائة مقعد في البرلمان في الانتخابات الأخيرة، ويمكن للناظر أيضا أن يرى صعودا مماثلا في فرنسا وهولندا، وحتى الدول الاسكندنافية التي كانت بعيدة تاريخيا عن الإشكالية تتصاعد فيها دعوات الأحادية، وقد كان إقليم الأندلس في جنوب إسبانيا مؤخرا آخر موقع وموضع استبان فيه للناظر خطورة المشهد بعد أن سيطر اليمين المتطرف هناك على برلمان البلاد للمرة الأولى منذ العام 1979، والأمر الذي اعتبره المراقبون إنذارا بتحول جذري في شكل برلمان اسبانيا في الانتخابات العامة 2019.

احد الأسئلة المثيرة لنا في العالمين العربي والإسلامي يصل سؤال الهويات بسؤال العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، وهل سنرى مزيدا من التأزم والانغلاقية، يتم ترجمتها في شكل مزيد من صحوة الاسلاموفوبيا، لا سيما أوروبيا واعتبار كل مسلم في أوروبا إرهابيا أو في أحسن حال مشروع إرهابي؟ وهل ستتأثر التعاملات اليومية بين البشر في الداخل الأوروبي وانعكاس ذلك على العلاقة الأوروبية الشرق أوسطية التاريخية؟ أسئلة محيرة ومقلقة في عام جديد قادم.أوضاع الشعبويات في الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون افضل حالا، وقد هيأ الرئيس ترامب أرضية أكثر إثارة للجدل الشعبوي الداخلي خلال عامين له في مقعد الرئاسة الأمر الذي تناوله الكاتب الأمريكي «إريك كوفمان» بالشرح والتحليل الموسع في كتابه المعنون:» التحول الأبيض: الشعبوية والهجرة ومستقبل الاغلبية البيضاء»، ومفاده ان الرجل الأبيض ومن فرط مخاوفه من فقدانه للأغلبية العددية وتآكل هيمنته الديموغرافية بات يتبنى سياسات شعبوية نراها على سبيل المثال متجلية في أزمة السور الكبير الذي يسعى الرئيس ترامب إلى بنائه على الحدود مع المكسيك، وهدفه من وراء ذلك وقف ما يراه هجرة غير قانونية سوف تؤثر على التوازنات الديموغرافية بين الأعراق والأجناس المختلفة، وليس سرا ان هذه الاشكالية تزعج الحكومة الأمريكية العميقة والتي تقوم على البلاد بل وتوجه الرئيس والكونجرس، ولن تسمح بحال من الأحوال ان تضحى أقلية يوما ما.

وفي الوسط من تلك المخاوف يرى المرء أن عداء أو في احسن الأحوال جفاء يمكن ان يواجه العرب والمسلمين في الداخل الأمريكي سواء كانوا من مواليد البلاد مثل المسلمين من الأمريكيين الافارقة، أو من المهاجرين في العقود الثلاثة الأخيرة بنوع خاص.

تحد آخر من اهم التحديات التي يمكن ان تعصف بالعالم في العام الجديد هو ذاك المتصل بأوضاع الديمقراطيات التقليدية حول العالم، بعد أن بان جليا أن صراعا طبقيا نشأ بالفعل في داخل عدد من الدول العريقة بسبب تعمق الفروق الطبقية، والعودة إلى حالة التمايز الطبقي مرة جديدة، بل التوصيف والتصنيف المجتمعي، بين أغنياء وطبقة فوق ما برجوازية، وبين فقراء طحنتهم العولمة وباتوا مندفعين للاعتراض العنيف في شوارع البلاد وأزقتها، وهنا فإن علامة الاستفهام المتعلقة بالعام الجديد هل سنرى موجة ارتدادية عن الديمقراطية حول العالم؟

يقول المراقبون أن مواطني الدول الديمقراطية يتطلعون إلى بعض أنظمة الدول ذات الحكم المركزي لا سيما الصين وروسيا وحتى بعض الدول النامية ويتساءلون كيف لمواطنيها أن يدركوا أنواعا من الاستقرار الحياتي اقتصاديا واجتماعيا على الأقل، ولم تؤثر اشكالية الحريات السياسية على مستوى حياتهم. السؤال المتقدم مخيف جدا لحكومات ديمقراطية بعينها ومرد مخاوفها إلى اسقاط الشعوب لها، واستقطاب أشخاص يميلون إلى الأنظمة الفاشية والنازية، وغيرها من أحاديات التوجه الفكري والسياسي، وبما يهدم مسيرة سبعة عقود وأزيد من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.

على مشارف عام جديد يبقى التساؤل عن حال النظام العالمي وهل هناك بالفعل نظام عالمي أم فوضى عالمية في السنوات الأخيرة سيما وان القديم يجاهد للبقاء والجديد يصارع لكي يولد كما قال المثقف العضوي الايطالي انطونيو جرامشي من قبل

لا جدال في كل الأحوال على أن قلب العالم يتحرك شرقا وان مراكز صنع الحضارة تتجه من أوروبا وأمريكا إلى آسيا، وهذا ما رصده «باراج خان» في كتابه المثير الذي سيصدر في الأيام الأولى من الشهر الأول من العام الجديد ويحمل عنوان: «المستقبل آسيويا: النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين». غير أن السؤال هل سيتم التحول سلميا ام أننا سنرى شكلا من أشكال الحروب التي اعتبرها ماركس قابلة الشعوب، بمعنى إنها هي التي تولد الأحداث وتعيد تشكيل خارطة العالم؟

مع بدايات العام الجديد تبقى نقاط مشتعلة عديدة حول العالم لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية القطب القائم والصين القطب القادم، وبحر الصين الجنوبي بنوع خاص فتيل يمكنه ان يشعل حرب عالمية جديدة بين معسكرين.

لن تكون نهاية الغرب التاريخي سهلة ويسيرة، سيما في عالم لديه أدوات تجاوزت البر والبحر والى الفضاء، ثم العوالم الافتراضية السيبرانية، ما يعقد المشهد في العام الجديد.

العالم مدعو إلى البحث عن نوع من التوافق الخلاق ليتيح للإنسانية فرصا للتعايش وسط عوالم التنازع، فهل سينتصر العقلاء ام يوفى الحظ للحمقى ؟