أفكار وآراء

قافلة الأحداث .. لا تزال تعبر المحيطات

30 ديسمبر 2018
30 ديسمبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -
[email protected] -

إذن سيأتي العام، والأعوام والدهور، وستظل القضايا الرئيسية في أجندة أي تجمع بشري جاثمة بثقلها المادي والمعنوي، وباقية بعلاتها، لترحل إلى العام التالي، ويأتي العام، وتعيش نفس ديمومة أسبابها.

يذهب العام، ويأتي الآخر، وتتوالى الأعوام ما بين ذاهب وآت، والإنسان هو الإنسان، لا يزال مأسورا بما يدور في مخيلته، وبما ينوي فعله، وبما يحقق ذاته، متجاوزًا كل الضروريات المتعلقة بالآخر الذي يتقاسم معه حلو الحياة ومرها، ولذلك تبقى المعضلات صغيرها وكبيرها جاثمة، ويبقى الإنسان، نفسه، باحثا عن حل لقضاياه ذاتها، لأنه لا يريد أن يبقى على المستوى الذي هو فيه، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يتنازل عمّا وصل إليه، حتى وإن كان ما وصل إليه هو على حساب آخرين من حوله، ولذلك تظل الاستحكامات قائمة، تؤصل هذه الاستحكامات هذه النزعة الذاتية لدى كل إنسان منا، وتأتي الفترات الزمنية المحددة، أو تلك المشرعة بلا قيود لتعطي الإنسان نفس الحركة والتغيير، والتعديل، فإن انتبه لذلك فقد كسب رهان المكسب، وإن غض الطرف خسر العمر والزمن، فالزمن لن يعود إلى الوراء أبدا، وكذلك العمر الجامع للزمن حاله كذلك.

ينظر كثير منا إلى توالي الأزمان على أنها الفرصة لتعويض ما فات، ولملمة الشتات مما تناثرته الظروف المختلفة، وهذه نظرة تكاد تكون متموضعة حول شخصية الفرد، ولكن في حكم الجمع يختلف الأمر تماما، وذلك لوجود آراء مختلفة، وقوى فاعلة متباينة، والأمر ليس يسيرا بالصورة المتخيلة، ومن هنا، عادة، ما تتكرر الأخطاء لأن تقييم الناس للموضوعات وللظروف المحيطة يختلف، والإجماع ليس يسيرا، إلا إذا تقاربت المصالح الذاتية، وتناصرت القوى الفاعلة للأمر ذاته، حتى إذا كان الاختلاف يفضي إلى التأثير على القضايا العامة التي تهم قطاعا كبيرا من الناس، ولذلك نرى هذه التباينات في الآراء، وفي المواقف بين التكتلات المختلفة، سواء على مستوى الدول في منظماتها الدولية، أو على مستوى الدولة الواحدة في كينوناتها الصغيرة.

ومن هنا لا أفق لوجود حل عادل، أو إحلال حالة من التوازن، لكافة قضايا الإنسان العالقة، لأن الإنسان ذاته غير مستقر على الحال وكلما قطع شوطا مقدرا في ميادين هذه الحياة، ظل باحثا عن شوط آخر، وخيار آخر، وتأتي الأعوام تلو الأخرى لتكرس هذه «ثيمة» البقاء والنضال عند هذا الإنسان، نعم، قد يتخذ عناوين كبيرة ليشتغل على تنميتها مثل: الاقتصاد، والسكان، والاجتماع، والأمن، وهي محاور التنمية الدائمة، كما نعرفها، ولكن حتى هذه العناوين على كبرها وأهميتها لا تزال خاضعة للثيمة ذاتها، وبالتالي تنطبق عليها الصورة ذاتها أيضا، وهي صورة العوز، والنقص، والاقتتال على تحقيقها ونموها، وإمعانا في ذات السلوك الإنساني المتجذر يسعى الإنسان نفسه إلى إيجاد أعداء افتراضيين في العناوين ذاتها: في الاقتصاد، حيث يفتعل الشح وقلة الموارد، ومحدودية الدخول، وفي الأمن، حيث توجد القلاقل، وفئات تستهدف أخرى، ودول تحمل ألقابا لا تمت لها بصلة سوى العمل على تكريس الأحقاد، وإيجاد منصات لعدم الاستقرار، ويدخل في ذلك تسويق منتجات الأسلحة، وإعداد الجيوش لإرسالها خارج نطاق جغرافيتها، بحجة استتباب الأمن في دول أخرى يخشى أن يكون لها موطئ قدم في بقعة جغرافية مناوئة، كل ذلك لإيجاد توازنات بين القوى الكبرى، وإقناع الآخر من أن هناك من يتربص بالآخر، وتتوالى الأزمان، ليكتشف كل ذلك أنه هراء، وأن كل الأرواح التي راحت ضحية لعناوين وهمية.

راهن الإنسان كثيرا، ولا يزال، على المعرفة، وعلى أنها المعوّل عليها في إنقاذ الحياة الإنسانية من التردي، وعلى الرغم من الإنجاز النسبي الذي تضفيه المعرفة على واقع الناس، إلا أن العناوين العريضة ذاتها: الاقتصاد، الأمن، الاجتماع، السكان، الفقر، المرض، التي يضمها عنوان «التنمية» لا تزال عالقة بمشاكلها، دون أن تقضي على أسباب المشاكل، هذه المعرفة التي يروج لها ليل نهار، نعم، استطاعت المعرفة أن توجد مسارات أكثر وأدق في سبيل إساءة الإنسان إلى الآخر، فبدلا من أن تكون المواجهة بينهما بالحراب والسهام والسيوف، أصبحت المواجهة بالدبابات والقنابل، والطائرات المقاتلة، واليوم حتى هذه أصبحت من الماضي، حيث بدأت الحروب الإلكترونية، وبأشعات الليزر، وبعد أن كان العدو المتربص على الجانب الآخر يبعد عن موقع المترصد عشرات الكيلو مترات، أصبح على بعد آلاف الكيلومترات، وربما لا يستدعي الأمر، حتى الخروج من بيته، فيكفي «فيروس» الإلكتروني يتوغل عبر خطوط توصيلات الإلكترونية ليدمر عليه كل مدخراته الإلكترونية، واليوم حتى هذا النموذج من الأسلحة تطور ليكون الاستهداف عبر الأقمار الاصطناعية، فعلى ما يبدو أن هناك علاقة عكسية بين تقدم المعرفة، وبين استحقاقات الإنسان للتنمية، وإلا لماذا لا يزال الإنسان عاجزا عن إيجاد الحلول الجذرية لقضاياه ومشاكله، في جوانب كثيرة من جوانب التنمية، فهناك نقص في الغذاء، على سبيل المثال، وهناك نقص في توفير العلاجات لقطاعات كثيرة من البشر تكتوي بالأمراض، وهناك نمو سريع في عدد السكان، وهناك منغصات كثيرة في الجوانب الاقتصادية على مستوى القاعدة العريضة من سكان الكرة الأرضية، وفي المقابل هناك «ارتفاع معدل الأثرياء بنسبة أكثر من (31%) بينما لم يصل معدل ارتفاع دخل (99%) من المجتمع «الإنساني ككل» (0.5%)» حسب إحصائيات عام 2017م» وفق مصدر: https:/‏‏/‏‏www.alhurra.com. تمت الزيارة يوم الاثنين 25/‏‏12/‏‏2018م، الساعة (12) ظهرا.

فشركات متعددة الجنسيات المنتشرة في كل بقاع الأرض - على الرغم من مظاهرها البراقة - لم تأت لتطعم الجياع، وفقراء العالم، وإنما جاءت لتكرس هذا التفرد، وتفوق للأثرياء على حساب الطبقات الكادحة في هذا العالم المتناقض، وتفضي إلى تقويض ما تحقق في مجال الأمن الاجتماعي، فالإقطاعيون يزدادون يوما بعد يوم على امتداد كل شبر في هذه الأرض، في المجتمعات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، عارضين بالكثير من الأنظمة والقوانين المنظمة عرض الحائط، حتى في أكثر الدول فقرا وعوزا، وهي الدول التي يتضور أبناؤها جوعا ومرضا، ومآسي إنسانية لا أول لها ولا آخر، ولا يزال الإنسان: «يبغى المجد في لهفٍ .. فإن يظفر به فترا» كما هو قول العقاد.

تتكئ الحكومات كثيرا على مسببات، ترى أنها العائق الأكبر، في طريق التنمية المستدامة، ويأتي في مقدمتها تذبذب الموارد الاقتصادية، وتزايد عدد السكان، وتنامي متطلبات البنى الأساسية، واستعار المصادمات، وافتعال الأزمات والحروب، حيث يتقوض الأمن والسلام، كما هي النتيجة المتوقعة من ذلك، وعلى الرغم من البحث المضني في استحداث الحلول -كما هو الظاهر- إلا أن كل الجهود تذهب أدراج الرياح، ويعود الإنسان في كل مرة خاسرا معركته الأزلية للبقاء إلا في صور متشظية، لأن ما تذهب إليه كل دولة من دول العالم في شأن كل الاتفاقات التي تتم بين الدول عبر المنظمات الدولية، لا تذهب إليه أخرى، ولذلك هناك هوة بين مختلف القوى الفاعلة في المجتمع الدولي، وهي أيضا انعكاس للتباين في المواقف والمصالح، وما التحدي البيئي، الذي يركن إليه طعام الجياع -كما هو الشائع- فلا تزال حالته مشاعة، ولذلك لا يوجد احترام للاتفاقات الدولية فيما يخص المناخ والبيئة، ويأتي في مقدمتها: مخلفات السفن العملاقة، ومخلفات المصانع، ومخلفات الإنسان العادي، وتجريف التربة، وتصحر الغابات، وتلوث مياه الأنهار، وعدم قدرة الدولة على التخلص من النفايات بالطرق السليمة، كل هذه مقوضات للأمن الاجتماعي، على الرغم من الاجتماعات الدولية التي تتم في هذا المجال، وما تتوصل إليه من توصيات، حيث تذهب كلها أدراج الرياح، ولذلك تتكاثر هذه الهوات، فهي ليست محصورة بين التكتلات الدولية فقط، فحتى على مستوى الدولة الواحدة تتكرر ذات الصور النمطية المعززة لمثل هذه الهوات، سواء على مستوى أفراد المجتمع، حيث تستعر الهويات المنحازة نحو قيم ما، مقابل أخرى مكرسة بذلك التفرد والتوحد، ومقوضة بل ومتصادمة مع أي بارقة للتنوع، حالة من أسوأ الصور النمطية، ولا تزال جاثمة تطلب البقاء وتموت على أقدامه، ولا يختلف في ذلك شعب عن آخر، ولا تجمع جغرافي عن آخر، فكل القوى الإنسانية تعيش متموضعة على حالتها الإنسانية هذه.

إذن سيأتي العام، والأعوام والدهور، وستظل القضايا الرئيسية في أجندة أي تجمع بشري جاثمة بثقلها المادي والمعنوي، وباقية بعلاتها، لترحل إلى العام التالي، ويأتي العام، وتعيش نفس ديمومة أسبابها، وقد تستجد عليها أسباب أخرى، انعكاسا لزمنها، فتزيد من استمرار بقائها، وعلى الإنسان أن يبقى رهينا لمختلف التداعيات، وستبقى «قافلة الأحداث .. لا تزال تعبر المحيطات» دون أن تصل إلى الطرف الآخر من المحيط.