أفكار وآراء

معاهدة الصواريخ البالستية إلى أين؟

19 ديسمبر 2018
19 ديسمبر 2018

عبد العزيز محمود -

قولا واحدا، لا الولايات المتحدة يهمها، ولا روسيا كذلك، استمرار معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، المعروفة إعلاميا بمعاهدة الحد من الصواريخ البالستية، بعد أن استنفدت المعاهدة التي وُقعت قبل ٣١ عاما أغراضها، ولم يعد بوسعها وقف سباق التسلح الصاروخي البالستي بين البلدين.

وهذا ما دفع واشنطن للتهديد بتعليق التزاماتها بالمعاهدة في منتصف فبراير المقبل، ما لم تعلن موسكو عودتها للالتزام بها قبل هذا الموعد، بينما هددت الأخيرة حال حدوث ذلك باتخاذ تدابير مضادة، من بينها نشر مزيد من الصواريخ المضادة للصواريخ على حدود أوروبا الشرقية، وتبني استراتيجية شن ضربة نووية وقائية.

ومن الواضح أن البلدين ينظران إلى المعاهدة التي وقعها الرئيسان ريجان وجورباتشوف في واشنطن عام ١٩٨٧، باعتبارها عقبة فنية تحول دون تطوير أجيال أكثر تطورا من الصواريخ البالستية، وإن كان الخلاف بينهما يدور حول كيفية وتوقيت الخروج من المعاهدة.

فواشنطن تريد الانسحاب من المعاهدة بشكل أحادي في أقرب وقت ممكن دون مراعاة لحلفائها الأوروبيين الذين يشعرون بالقلق من تراجع الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا، بينما تحاول موسكو أن يكون خروجها من المعاهدة أقرب إلى رد الفعل.

المشكلة أن انسحاب أي من الطرفين من المعاهدة التي تمثل ضمانة حقيقية للأمن الأوروبي سوف يترتب عليه اشتعال سباق صاروخي بالستي داخلي وعلى حدود أوروبا، فيما يشكل عودة إلى مرحلة ما قبل عام ١٩٨٧، بكل ما يترتب على ذلك من تهديد للأمن والاستقرار الأوروبي.

فبموجب المعاهدة تم إخلاء أوروبا من كافة الصواريخ البالستية (أي التي تطلق من الأرض) التي نشرتها واشنطن وموسكو بين جبال الأطلسي والأورال ويتراوح مداها ما بين ٥٠٠ إلي ٥٥٠٠ كم، وكذلك منظومات إطلاقها.

وبموجب المعاهدة أيضا التزمت الولايات المتحدة وروسيا بعدم إنتاج أو تجريب أو نشر أي من هذه الصواريخ، وفي مقدمتها صواريخ إس إس- ٢٠ الروسية، وبيرشينج الأمريكية، ووضع نظام للتفتيش والمراقبة ظل صامدا وفعالا لأكثر من ٢٥ عاما. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، فمع حلول عام ٢٠١٢، تبادل البلدان الاتهامات بانتهاك المعاهدة، مع إنتاج روسيا لأجيال جديدة من صواريخ كروز، وإنتاج الولايات المتحدة أجيالا جديدة من صواريخ توما هوك ونشر منصات إطلاق من طراز إم كيه-٤١ في رومانيا وبولندا، وفي أكتوبر الماضي لوح الرئيس ترامب بانسحاب أمريكي أحادي من المعاهدة، ردا على قيام موسكو بتطوير صاروخ كروز ٩ ام ٧٢٩ واس اس -٢٥، وحتى يظهر بصورة المتشدد تجاه روسيا، في مواجهة تحقيقات متواصلة حول تدخل روسي محتمل لصالحه في انتخابات ٢٠١٦.

وأعلن البيت الأبيض أن ترامب يسعى إلى استبدال المعاهدة بنظام جديد للرقابة علي الصواريخ البالستية، يشمل أنظمة أسلحة جديدة، بما في ذلك صواريخ كروز الروسية ذات الدفع النووي، ويضم أطرافا أخرى، بجانب الولايات المتحدة وروسيا، من بينها الصين وحلف شمال الأطلسي.

لكن موسكو أعلنت رفضها لأي تعديل للمعاهدة، يشمل أسلحة جديدة، بينما رفضت الصين الانضمام إلى أي نظام للرقابة علي الأسلحة البالستية، بعد أن استثمرت عدم توقيعها أصلا على معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، في إنتاج وتطوير أجيال جديدة من الصواريخ البالستية، يمكن تحميلها برؤوس نووية.

وفي محاولة للحفاظ علي المعاهدة، حاولت القيادتان الألمانية والفرنسية إقناع موسكو بالتخلي عن تطوير صاروخ كروز ٩ أم ٧٢٩ مقابل إقناع واشنطن بعدم نشر قاذفات الدفاع الصاروخي في رومانيا وبولندا، لكن جهود الدولتين وصلت إلى طريق مسدود.

فموسكو رفضت بإصرار التخلي عن تطوير صاروخ كروز ٩ ام ٧٢٩، حتى ولو تسبب ذلك في انهيار المعاهدة، وهو ما استغلته واشنطن لإقناع حلفائها الأوروبيين بنشر المزيد من الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى في بلدانهم.

ومن جانبه دعا حلف شمال الأطلسي إلى تطوير نظام التفتيش المتبادل بموجب المعاهدة، بهدف السماح لخبراء أمريكيين بتفتيش أنظمة الدفاع الصاروخ الروسية على حدود أوروبا، والسماح لخبراء روس بالتفتيش على أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا ورومانيا، وهو ما قبلته موسكو ورفضته واشنطن.

وهكذا وجد القادة الأوروبيون أنفسهم أمام تحد صعب، فالمعاهدة التي استنفدت أغراضها في طريقها للانهيار، وهو ما يعني انهيار النظام الوحيد للرقابة علي إنتاج ونشر الأسلحة البالستية، بكل ما يترتب على ذلك من نشر المزيد من الصواريخ الأمريكية والروسية في وعلى حدود أوروبا. وهو وضع سوف يجعل أوروبا الخاسر الوحيد من جراء انهيار معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى، ما لم يتمكن القادة الأوروبيون من إيجاد نظام أمني أوروبي أوسع، يضم حلف شمال الأطلسي وروسيا، أو الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا.

ومع اقتراب المهلة التي حددتها واشنطن لتعليق التزاماتها بالمعاهدة في فبراير المقبل، يبدو العالم مقبلا على سباق تسلح جديد، لن يقتصر فقط على الولايات المتحدة وروسيا، بل سيشمل آسيا ومنطقة المحيط الهادئ، بكل ما يترتب علي ذلك من تهديد للأمن والاستقرار العالمي، ما لم يتم التوصل إلى نظام دولي جديد للرقابة على الصواريخ البالستية.