أفكار وآراء

جيش «الأحلام» الأوروبي.. هل يصبح حقيقة؟

12 ديسمبر 2018
12 ديسمبر 2018

مروى محمد إبراهيم - 

«نحن الآن في أمس الحاجة إلى جيش أوروبي يحمينا من الصين وروسيا، بل والولايات المتحدة أيضا» بهذه التصريحات أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حفيظة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في حين حظت هذه الدعوة بدعم وتأييد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وحلفائهما من الاتحاد الأوروبي. 

وعلى الرغم من أن الدعوة لتشكيل مثل هذه القوة المسلحة الأوروبية ليست جديدة في حد ذاتها، إلا أن تجديدها في هذه الفترة تحديدًا تحمل دلالات أخرى. فهي تتزامن مع مرحلة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. وتأتي في وقت يشهد شقاقًا غير مسبوق بين الولايات المتحدة وأوروبا، ربما يكون الأسوأ من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ولكن هل ستنجح أوروبا في تحقيق هذا الحلم الذي طال انتظاره، أم أنه سيبقى مجرد حلم لن يرى طريقه للنور؟

سياسة الأمن والدفاع المشترك الأوروبي هي الميثاق الذي تتحرك القوات الأوروبية وفقا له، وتعتمد بشكل أساسي على قوات من كل دولة من الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي على حدة، وعادة ما تتركز مهمتها على نشر قوات عسكرية أو مدنية لحفظ السلام، أو منع الصراعات، لدعم الأمن الدولي بما يتوافق مع مبادئ الأمم المتحدة. ومهمة هذه القوات دفاعية بالأساس، ولكن تشكيل جيش أوروبي، يعني أن هذا الجيش سيتمتع بقدرات عسكرية أوسع من القوة الدفاعية الحالية وسيكون بوسعه التدخل في الأزمات أو لمواجهة أي قوة أو جهة يعتبرها تشكل خطرا على الكيان الأوروبي. وبذلك سيصبح قوة منافسة لقوات حلف شمال الأطلنطي «الناتو» والذي يعتبر التحالف العسكري الأكبر من نوعه في الغرب، ومظلة عسكرية تضم جيش من القوات الأوروبية والأمريكية تحت قيادة أمريكية.

وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي يعاني في الوقت الحالي من مرحلة حرجة للغاية مع سعي بريطانيا الحثيث لإبرام اتفاق شامل، لتحقيق خروج أو «بريكسيت» نظيف من الكتلة الأوروبية الموحدة، مما يهدد بانفراط العقد الأوروبي. وربما يشجع دولا أوروبية أخرى على أن تحذو حذوها. ولكن ألمانيا وفرنسا تراهنان على العكس تماما، فيبدو أن الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية يعتبران أن خروج بريطانيا فرصة للتأكيد على قوة الوحدة والتضامن الأوروبي. فالأمر لم يعد مجرد اتحاد مالي أو سوق مشتركة أو تأشيرة دخول وسياسات موحدة، ولكن لابد من التأكيد على كل ذلك من خلال التوصل إلى جيش أوروبي قوي.

وهذا تحديدا ما أكدته وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين والتي أكدت أن تشكيل جيش أوروبي أمر منطقي وضروري في وقت تسعى فيه دول الاتحاد إلى تعزيز الروابط العسكرية فيما بينها، وفي الوقت الذي تسعى فيه أوروبا إلى تطوير عقيدتها الأمنية والعسكرية فلابد لها من العمل بجدية أكبر نحو تشكيل جيش أوروبي. وهو ما بدأت فرنسا وألمانيا فعلا في تحقيقه من خلال إبرام سلسلة من اتفاقيات التعاون العسكري بين البلدين.

ويعتبر المراقبون أن هذه الخطوة المهمة في تاريخ الاتحاد الأوروبي، تأتي في إطار تحدي الخروج البريطاني. فبريطانيا تعتبر أكبر وأهم قوة عسكرية في قارة أوروبا، نظرا لأنها تمتلك أكبر ميزانية عسكرية في أوروبا، وربما تكون الوحيدة التي تلتزم بمعايير الناتو من حيث تخصيص 2% من دخلها القومي للعمل العسكري. كما أنها واحدة من دولتين فقط في الاتحاد تمتلك ما يمكن وصفه بقدرات عسكرية متكاملة، بما في ذلك قوة الردع النووي.

وعلى الرغم من التعاون الوثيق بين فرنسا وبريطانيا كدول جوار وأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلا أن بريطانيا كانت دائما أقرب إلى حلف الناتو منها إلى فكرة وجود جيش أوروبي. وبنظرة سريعة إلى الوراء، نجد أن الحكومات البريطانية المتعاقبة حرصت على ضمان عدم قيام الاتحاد الأوروبي بتطوير أي قدرات أمنية أو دفاعية خطيرة، وذلك من وجهة نظر ريتشارد ديرلوف رئيس المخابرات البريطانية السابق.

ويبدو أن أوروبا قررت فعلا تغيير رؤيتها العسكرية المستقبلية مع خروج بريطانيا من الكتلة الأوروبية. فحتى وقت قريب، كانت ألمانيا مترددة في المشاركة الحقيقية في بناء «جيش أوروبي». ولكن في الآونة الأخيرة، فإن هناك مخاوف أوروبية متزايدة من أنه أصبح من الصعب الاعتماد على الأمريكيين بعد الآن، خاصة في ظل حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالإضافة إلى إشارات إيجابية من القادة الفرنسيين والألمان بصدد تحقيق نقلة نوعية في الاستراتيجية الأمنية للاتحاد الأوروبي. كل هذا، فيبدو أن الخسارة العسكرية لأهم قوة عسكرية في أوروبا، يمكن أن تدفع الألمان في النهاية إلى تسليح أنفسهم بشكل أفضل، بعد سنوات من التسويف.

ويبدو أن الإعلان القصير الذي ظهر على الموقع الإلكتروني لوزارة الدفاع الألمانية خلال الفترة الماضية يؤكد ذلك. فقد أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية ونظيرتها الفرنسية فلورنس بارلي أنهما في انتظار خطة مشتركة من شركة رينميتال الألمانية وعدد من شركات تصنيع السلاح الأوروبية حول تطوير نظام قتالي حديث، بما في ذلك الدبابات. ومن المتوقع أن تقدم هذه الشركات خطة شاملة للتطوير العسكري للقوة الأوروبية المرتقبة أو الوليدة خلال منتصف الصيف المقبل.

وتشير التوقعات المبدئية إلى أن فرنسا ستتولى مهمة تطوير القوات الجوية، في حين ستتولى ألمانيا القوات البرية. وعلى المدى القريب، يدرس وزيرا الدفاع في البلدين الاقتراحات الخاصة بنظام قتال بري رئيسي يشمل مركبات عسكرية المأهولة وغير المأهولة، والخفيفة والثقيلة، وسلسلة من الدبابات بحلول منتصف عام 2019. وتشير التقارير إلى أن العقد الأولي ستصل قيمته إلى 30 مليار يورو، ولكن إذا شاركت دول أوروبية أخرى، كما هو الحال منتظر في إطار الاستراتيجية العسكرية، يمكن أن ترتفع إلى 100 مليار يورو في العقدين المقبلين.

أما الموقف الأمريكي من الجيش الأوروبي فمتباين للغاية، ففي الوقت الذي أبدى فيه ترامب غضبه الشديد من دعوة ماكرون لإنشاء جيش أوروبي، وسخر منه بشكل مبالغ فيه وطالبه بشكل مهين بتسديد ديونه لحلف شمال الأطلنطي، ولكن الواقع يؤكد أن ترامب ربما يكون أحد الدوافع وراء الرغبة الأوروبية في الإسراع بتشكيل مثل هذه القوة وفي الوقت الحالي على وجه التحديد. فمنذ صعود الملياردير الأمريكي المثير للجدل إلى البيت الأبيض وهو حريص على الاستهانة بحلفائه الأوروبية، وانتهاز الفرص لإحراجهم وتأجيج الخلافات معهم، وفي الوقت الذي حرص فيه الرؤساء الأمريكيين السابقين على تأكيد التقارب بين أمريكا وأوروبا، خاصة في ظل المصالح المشتركة بينهما، إلا أن ترامب ضرب بعرض الحائط هذا التقارب، بل وأشعل الحروب التجارية مع الاتحاد الأوروبي وبدا الأمر كما لو كان يعاقبهم. فهو يطبق ضدهم نفس السياسات التي يطبقها ضد منافسته الأولى الصين. وهو ما أجج المخاوف من أن تظل أوروبا رهينة بحلف الأطلنطي الذي يخضع لسيطرة الولايات المتحدة، فما كان لها إلا أن تبحث عن مخرج سريع من هذا المأزق.

إن الجيش الأوروبي ما هو إلا محاولة جديدة لبث الحياة في الاتحاد الأوروبي، والتأكيد على قوته رغم الخروج البريطاني الوشيك من التكتل الأوروبي. كما أنه يحمل رسالة قوية للجانب الأمريكي مفادها أن الولايات المتحدة ليست حامي حمى أوروبا كما يعتقد ترامب، بل إنها قوة مستقلة بذاتها وليست في حاجة إلى أي قوة خارجية لحمايتها. والسؤال الآن هل ينجح المخطط الفرنسي- الألماني لتشكيل جيش أوروبي موحد؟ بالطبع من الصعب الإجابة عن هذا السؤال خاصة وأن هناك عددا من الدول الأوروبية التي تعاني من متاعب مالية مثل إيطاليا وأسبانيا والتي سيصعب عليها بالتأكيد الالتزام بحصتها لتمويل مثل هذا الجيش الوليد، ولكن الأكيد أن الحلم يمكن أن يصبح حقيقة لأن الدول الأوروبية ستتعلم الدرس من الخروج البريطاني المؤلم من أوروبا، وستدرك أن هذا التكتل هو الملاذ الآمن لها ولا يمكنها أن تتكبد تكلفة الخروج منه. وبالتالي سيكون عليها أن تضمن تعزيز الروابط والاتحاد مع جارتها الأوروبيات.