أفكار وآراء

العد التنازلي

12 ديسمبر 2018
12 ديسمبر 2018

مصباح قطب -

بدأت الميديا العد التنازلي لإعداد وإطلاق ملفاتها عن العام الذي يولي الأدبار وذلك الذي ينتظر البزوغ. لا يخلو الأمر عادة مما هو إعادة اجترار، كما لابد وأن نشهد ونسمع ونقرأ لمن هم رجال/إناث مثل هذا الموسم؛ أعني موسم (كيف رأيت العام ٢٠١٨ وما الذي تتوقعه لـ ٢٠١٩؟). دواخل المهنة فيها طرائف مضحكة في هذا الموضوع. ويعرف مسؤولو الإعداد في القنوات الفضائية من سيكون محل طلب أكثر ولذا يحرصون على حجزه مبكرا، لكنهم يستعدون أيضا بقوائم احتياطية خشية حدوث مفاجآت. في الصحف نفس الشيء ، يعرف المحررون الكبار من يمكن أن يقول كذا أو يملأ فراغا في كذا إذا غاب طرف أو أكثر كان ممن كان من المخطط مشاركته في ملف العام. غير أن الصورة النمطية تتغير عاما بعد آخر وتدفع حدة المنافسة الجميع إلى الابتكار أو محاولة التجديد، لأن أحدا لم يعد يريد أو يستطيع أن يدعم الضجر حتى ولو كان الحكومات ذاتها التي تملك قنوات وصحفا. على الصعيد الاقتصادي أتمنى أن تتوقف العقول والوجدانات طويلا عند إحداث فرنسا. كل ما شهده العام من حروب تجارية وأزمة تفاقم مديونيات واختلال موازنات دول كبيرة وهبوط عملات وتراجعات بيئية مخيفة ومخاطر عسكرية وسياسية وإرهابية، وارتباكات في منظمات دولية، وكلها تركت وتترك أثرها على النشاط الاقتصادي ، مهم ، ويستحق أن يتجدد النظر إليه في مناسبة مثل نهاية عام وجردة حصاد، لكن دروس الاحتجاجات في فرنسا، تبقى في قلب الحيرة ، وتصر ، ومن حقها ، على أن تفرض تأملها على البشرية كلها ودون مبالغة . هناك تعارضات وجودية في القمة وفي القاعدة بفرنسا يجب التوقف عندها. النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة ترى أن وقت ترحيل وتأجيل الإصلاحات قد انتهى ومصير فرنسا ذاتها كدولة كبيرة، على المحك ما لم يتم تغيير مناخ الاستثمار والأعمال وريادة الأعمال والابتكار والإنتاجية ، حتى لا تهب رياح الوهن الإيطالي البادية لكل عين أو الحيرة البريطانية التراجيدية حيال الاتحاد الأوروبي، على فرنسا. لو كانت الدنيا أفضل قليلا ما كلفت هذه النخبة نفسها عناء الإصلاح ولتركت الأمور تمضي في أعنتها مع تقاسم منافع الوضع القائم دون ضجيج. لكن اللحظة لحظة مصير. كان من المعروف مسبقا أن الإصلاحات ستفجر الغضب ، لكن من وجهة نظر النخبة فإن غضبا ولو كان قاسيا أرحم كثيرا من انحدار قاس لفرنسا. الإصلاحات ليست كيمياء مخترعة فهي وصفة معروفة من ماعون الليبرالية الجديدة ، وكل ما في الأمر أن تطبيقها بقرار وطني وعلى طريقة دول كبيرة، يختلف عن فرضها على الآخرين بغرض إضعاف مناعتهم الاقتصادية لخدمة من فرض. أي نظر إلى مؤشرات التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي أو التكنولوجي أو التعليمي أو حتى الترفيهي والثقافي يقول إن فرنسا تجري في المحل أو تتراجع. لهذا يبدو قرار الإصلاح قرار مؤسسات دولة وليس منتجا للمطبخ السياسي التقليدي بما فيه من أحزاب ونقابات وبرلمان ومحليات ومراكز تفكير. منطق الدولة هنا براجماتي بحت إلا وهو أنه بما أن دول العالم الكبيرة تطبق الليبرالية الجديدة ونحن أيضا نطبقها وبما أنهم قد سبقونا فلابد أن هناك شيئا ناقصا في التطبيق فرنسا، وعلاجه مضاعفة الجرعة وتقريب الفواصل الزمنية لتعاطيها. لا تتوقعوا من الدولة أن تقود انقلابا على قواعد تلك اللعبة لمجرد إننا نعارضها أو أن جماهير هائلة لا تريدها. إنها اللعبة السائدة في دول العالم. أقول ذلك لمحللين كثر غلبهم التمني. في المقابل فإن الجماهير الغفيرة من المواطنين تعيش هي الأخرى مزقها الوجودي. من ناحية تعانى عمليا من صعوبات حياتية في السكن والتنقل والطعام والشراب وكلفة التعليم وطول ساعات العمل والإرهاق الدائم والديون الشخصية ….، ولم يعد من الممكن احتمال المزيد منها . ومن ناحية أخرى لا ترى على الساحة أي تيار سياسي قوى لا أقول يشعر بها فحسب. لكن الأهم يكون لديه خريطة طريق أخرى غير الوصفة النيوليبرالية. أنهكت تطبيقات

الوصفة الكل مؤسسات وأفراد ومجتمع مدني. وأنهك كتمان الغضب صدور الأغلبية التي تئن. لكن لا شيء أبعد من انفجار البركان. وقد انفجر لكن أين الفكرة النقيضة؟ الفكرة التي ترسي قواعد جديدة للإنتاج وعلاقات الإنتاج والتبادل والتوزيع وتمنع تسليع ما لا يجب أن يكون سلعة كالتعاطف الإنساني وكالحق في التعليم والصحة وكذا الانتقال بكلفة معقولة. والأهم تحقيق راحة البال خلال أحداث فرنسا تذكرت اليونان وشعبها كم عانوا من الوصفة ومن الجرعة الزائدة لعلاج اختلالات نشأت أصلا من الدواء. لسان حال اليونانيين أوضح مثال حتى من فرنسا على المأزق الوجودي للشعوب هم يقولون : كل ما نحتاجه مسكن بسيط وأسماك وخضروات وبعض الحلوى والمشروبات وبعض الفن والرقص والموسيقى وكل الحب والعيش الهني بعد ذلك فلماذا جعلوا حياتنا بهذا التعقيد؟. هذا الحنين إلى البسيط آخر ما يمكن أن تقبله مراكز الليبرالية الجديدة لأنه يعني عمليا أن منتجات وشركات وكيانات وأرباحا ضخمة ستتوقف لو عاش الناس على الطريقة اليونانية المتمناة هذه. في فرنسا وغير فرنسا أمر شبيه... يحب الناس الحياة ويرون أنه يمكن بقليل من الحكمة أن يعيشوا أفضل ، غير أن الساسة يقولون لهم بشكل غير مباشر طبعا: لا حل إلا بتعزيز التنافسية وإزالة مزيد من الحواجز أمام الاستثمار. من دون ذلك فمحيط من الحكمة لا يصلح.  لكن في تقديري عموما فإن النوستالحيا ليست هي الحل ولابد أن هناك طريقة لضبط إيقاع السرعات الحياتية بحيث يتحقق في أن واحدا قدر ملموس من الحياة الراضية ومعه قدرة معقولة على الجري في سباق المنافسة وزيادة إنتاج السلع والخدمات التي تحقق أوسع إشباع ممكن لعموم الناس. لكن هذا الحل لن يأتي إلا بموجة تغيير عالمية. قد يستطيع بلد واحد أن يوفر لمواطنيه ما يسميه المسوقون العصريون «بيس او ف مايند» مثلما نرى في بعض دول شمال أوروبا أو في بلد عربي أواخر مثل سلطنة عمان ، لكن التأثيرات المتبادلة والتشابكات في عالم اليوم لا تترك أحدا في حاله. مرة أخرى فإن ما يريده الناس بسيط للغاية. يترجمه على أفضل نحو مطلب الشاعر السويدى فيليب نيلسون بـ«إجهاد أقل». وضع العمل والاستهلاك الراهن. الخوف الذي يتعاظم كل لحظة من المستقبل ومن مزيد من التعقيد يدمر هناء العيش حتى لمن يستطيع من الناحية المادية أن يلبي احتياجاته بلا كبير عناء، فما بالنا بسكان ضواحي ومهاجرين وغرباء وضعاف المهارات والبدن والطاقة والتأهيل؟ هل يبدأ العد التنازلي انطلاقا مما شهدته فرنسا لعملية عالمية شاملة لتغيير نمط أو نموذج الليبرالية الجديدة الشديد القسوة هذا؟ أجيبوا يا أصحاب الملفات الجاري إعدادها؟.