الملف السياسي

أزمة حادة تفرض البحث عن إجماع سياسي جديد

10 ديسمبر 2018
10 ديسمبر 2018

د.صلاح أبونار -

القادة قرروا دفن خلافاتهم عبر استخدام لغة غامضة، وتخلوا عن لغة محاربة الحمائية التي كانت حاضرة في كل بياناتهم منذ اجتماعهم الأول، وهذا بالتأكيد يشكل خطوة تراجع أمام تعنت الولايات المتحدة.

انتهت أعمال قمة مجموعة العشرين وفقا للتوقعات التي سادت بشأنها، رأى أغلبها أنها لن تحقق أي اختراقات أو نجاحات مميزة، بشأن التحدي الرئيسي الذي بات يواجهه النظام الاقتصادي الدولي، تحدي النزعة الحمائية الأمريكية المتصاعدة والآخذة في التوسع.

انعقدت القمة في بيونس آيرس لمدة يومين كاملين، بحضور تسعة عشر قائدا عالميا يحكمون 19 دولة، يعيش فيها 66% من سكان العالم وتنتج85% من الناتج العالمي، وتستحوذ علي 75% من التجارة العالمية و80% من الاستثمار العالمي، وقبلها تواصلت الاجتماعات التحضيرية على مدى فترة تمتد من انعقاد قمة هامبورج في يوليو 2017 . اجتماعات عالية المستوى تخطت خمسين اجتماعا، وحضرها وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية وقادة ووزراء مختصون. ومع ذلك ورغم صخب الأحداث والأزمات الدولية فشل القادة في مجرد الاقتراب الجاد من المشكلة الأساسية، وظهر هذا بوضوح في تحديد المؤتمر لموضوعات عمله الأساسية في أربع موضوعات هي: مستقبل العمل، والبني التحتية من أجل التنمية، ومستقبل الغذاء القابل للاستدامة، واستراتيجيات تطوير أوضاع النوع. وغابت أزمة النظام التجاري العالمي كموضوع أساسي للمؤتمر. ثم تبدى الفشل مرة أخرى في البيان الختامي الذي أحجم عن وضع المشكلة والتحدي الذي تمثله في حجمها الحقيقي والمركزي. وليس معنى ذلك كون تلك الموضوعات التي حددها البيان بلا أهمية، فهي قضايا شديدة الأهمية شكلت لسنوات طويلة بعض محاور عمل مجموعة العشرين، ولكنه يعني عجز المؤتمر عن الاقتراب الفعال من التحدي الرئيسي الذي يواجهه النظام الاقتصادي الدولي في الفترة الراهنة. وهنا ستظهر مفارقة حادة ولها دلالتها الواضحة. فعندما نراجع تناول كبرى المصادر الإعلامية والبحثية للمؤتمر، سنلاحظ تركيزها علي أمرين أساسيين: الإعلان عن الوصول إلى صيغة جديدة لاتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (نافتا)، والقرار الصيني - الأمريكي بفرض هدنة مؤقتة في الحرب التجارية الدائرة بينهما. والمفارقة هنا مصدرها أن هذين الحدثين يتعلقان بما دعوناه التحدي الرئيسي، ومع ذلك لم يكونا من صلب أعمال المؤتمر ولا أشار إليهما البيان الختامي، بل حدثا كنشاط جانبي على هامش جلسات المؤتمر.

وهنا سيظهر سؤال: كيف يمكن تفسير تلك المفارقة؟ يصعب تفسيرها بالقول بقصور في أداء المجموعة. يخبرنا تاريخ مجموعة العشرين أنها أثبتت كفاءة مشهود بها في أدائها لمهامها. كيف ولدت المجموعة من رحم جماعة السبع الكبار؟ في سياق السعي لمواجهة تداعيات أزمتي 1997 المالية الآسيوية و1998 المالية العالمية. وعقدت اجتماعها الأول عام 1999 في برلين علي مستوى وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، ثم تواصلت اجتماعاتهم. ولكن انطلاقتها الثانية والقوية جاءت في عام 2008 ردا على أزمة 2008 المالية العالمية، عندما اجتمعت للمرة الأولى علي مستوى رؤساء الدول في واشنطن، وفي عام 2009 اجتمعت مرتين، وتكرر الأمر في عام 2010، ومن 2011 انتظمت اجتماعاتها بمعدل مرة واحدة سنويا، وعبر هذا التاريخ انتظم عمل الجماعة في مسارين: المسار المالي، ومسار اصطلح علي تسميته بمسار شيربا. والمسار الأول هو الأساسي، واستهدف تنظيم عمل المحركات المالية والنقدية، وتقوية شبكات الأمان المالي، ومواجهة النزعات الحمائية، والحفاظ علي معدلات التبادل وفقا لمحددات السوق، وتنسيق الإصلاحات المالية الهيكلية بين البلدان. ثم نشأ مسار شيربا في سياقات المسار الأول، وعبره انتقلت الجماعة إلى مجالات أخرى مثل مناهضة الفساد والمشاركة السياسية و المناخ والمساواة النوعية. انطلق قادة الدول في عملهم حيث كان مسيطرا على أذهانهم هاجس كساد الثلاثينات، وكانوا مصممين على عدم تكرار أخطاء الماضي، ويعترف المحللون بنجاحهم في تفادي الكارثة. كتب كيفين رود: «دونما قيام المجموعة بما قامت به كان ما بدأ كأزمة مالية سوف يتحول سريعا إلى أزمة تجارية، وبعد ذلك إلى أزمة اقتصادية، ستتحول إلى أزمة تشغيل، ليتحول الموقف كله إلى أزمة اجتماعية تطلق أخرى سياسية»، وفي السياق نفسه لاحظ آدم تريجز أن أعضاء المجموعة التزموا في 2009 بضخ 5 تريليونات دولار في الأسواق، كمحفزات مالية لمنع الأزمة من التحول إلى كساد عظيم. ولم يفوا بالتزامهم فقط بل تخطوه، وضخوا فيما بين 2008 و2010 فقط 6.4 تريليون دولار، وواصلت المجموعة دورها الإيجابي خلال السنوات التالية. في قمة تورنتو 2010 التزم القادة بالعمل علي تقليص العجز في موازين مدفوعاتهم بمقدار النصف، وتثبيت معدلات الدين بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي،ومع حلول 2016 حققت بلدان كثيرة منها ما التزمت به. في قمة سيول 2010 ساهم القادة في معالجة حروب العملة التي جرت أساسا بين الصين والولايات المتحدة. وفي قمة 2012 ساهمت المجموعة في حل أزمة الديون الأوروبية، من خلال الضغط علي ألمانيا للتعاون مع الاتحاد الأوروبي.

والحاصل هناك أن المجموعة أثبتت عبر تاريخها القصير الحافل، امتلاكها إرادة الفعل والقدرة علي الفعل المؤثر. إذن كيف نفسر العجز الذي أظهرته في القمة الأخيرة؟ نتصور وجود العلة في طبيعة المجموعة ذاتها. لا تشكل المجموعة مؤسسة سياسية دولية مستقلة. فلا مقر ثابت لها، ولا أمانة عامة، أو رئيسا، أو هياكل تنظيمية محددة تماثل بدرجة ما، هياكل الأمم المتحدة أو البنك الدولي. وهي في الأساس تحالف سياسي بين دول ذات أوزان سياسية كبيرة لكنها متفاوتة، وبينها اختلافات سياسية، ولكن يجمعها الالتزام بالنظام الاقتصادي الدولي. وانطلاقا من وضعها تصوغ سياساتها عبر بناء إجماع سياسي، يتأثر بالضرورة بمصالحها وسياساتها المتفاوتة، والأهم بتوازنات القوى داخلها. ومع إطلاق ترامب للسياسات الأمريكية الجديدة، اتسعت المسافات والتناقضات داخل المجموعة، وقلت قدرتها على بناء الإجماع السياسي ومواجهة الأزمات. وإذا أخذنا في الاعتبار وزن ودور أمريكا داخل المجموعة، وافترضنا أن السياسات الأمريكية الراهنة تسير في اتجاه صاعد وليست ظاهرة مؤقتة يمكننا الاستنتاج أن المجموعة باتت تواجه مأزقا سياسيا يحتم عليها إعادة بناء شروط عملها، وتبني آليات جديدة لبناء إجماع سياسي جديد.

وإذا التفتنا إلى الحدثين الكبيرين اللذين شهدتهما القمة، سنجدهما يؤكدان على هذا المأزق. كانت القمة مجرد مسرح لتوقيع النافتا الجديدة تحت اسم «أوسماك»، بعد مفاوضات جرت خارجها، وأخذت الاتفاقية الجديدة أغلب موادها من الاتفاقية القديمة، مع تعديلات حسنت من شروط التبادل لصالح أمريكا أساسا. حتي أسابيع قليلة أصرت كندا على إلغاء رسوم الصلب والألمنيوم الجديدة، لكنها فشلت وبقيت في مكانها ومعها الجمارك الكندية المضادة. وكانت الولايات المتحدة تصر علي إلغاء نظام حل المنازعات الملحق بالاتفاقية، ولكن كندا تمسكت به وظل في مكانه. ونصت الاتفاقية الجديدة علي حق المنتجات الأمريكية في 3.6% دونما جمارك، من سوق الدجاج والبيض ومنتجات الألبان الكندية، وهذا تراجع كندي سيضر بمنتجيها، وأضافت الاتفاقية شرطين لاستمرار تمتع صادرات السيارات إلى أمريكا بالإعفاءات: أن يكون 40% من مكوناتها الداخلية مستورد من أمريكا، وهذا نوع من التجارة الإكراهية، وألا يقل أجر العمال العاملين في إنتاجها عن 16 دولارا في الساعة، وهذا يستهدف تقليل هجرة الصناعة الأمريكية إلى المكسيك للاستفادة من فارق الأجور. وفيما يتعلق بالاتفاق الصيني- الأمريكي يبدو الأمر حتى الآن مشوبا بالغرابة. يبدو الاتفاق علي درجة من البساطة، تؤكد أنه لم تسبقه مفاوضات تمهيدية، بل اتفق علية في جلسة العشاء بين الرئيسين، فهو ليس تفصيليا مثل اتفاقية النافتا الجديدة، بل مجرد إعلان هدنة للحرب التجارية بين أمريكا والصين، ولا تزال كل قرارات التصعيد السابقة في مكانها، وفقط ستجمد أمريكا في الأول من يناير لمدة 90 يوما، رفعها الجمارك من 10% إلى 25%، على ما قيمته 200 مليار دولار من الصادرات الصينية، وفي المقابل تلتزم الصين بشراء كميات كبيرة وفورا من المنتجات الزراعية والصناعية الأمريكية، والشروع في مفاوضات فورية حول مشاكل العلاقات التجارية بين البلدين، وستحدد نتائجها مستقبل الهدنة، وهناك مشاكل تشوش فهمنا لهذا الاتفاق، فلم يصدر بشأنه بعد الاجتماع الثنائي أي بيانات مشتركة، ومن أعلن عنه هو البيت الأبيض، ولم تعلن عنه الصين رسميا حتي الآن، ولكنها لم تكذب الإعلان الأمريكي، ويبدو الاتفاق كأنه انتصار لسياسة الإملاء الأمريكية، ولكنه يبدو أيضا كأنه إحجام مشترك عن التصعيد، بفعل خسائر المرحلة السابقة وتحسبا من خسائر القادمة، والالتزام الأمريكي فيه واضح ومحدد، ولكن الالتزام الصيني مصاغ بعبارات عائمة مثل «كميات كبيرة»، وموضع تفاوض قادم. وفي كل الأحوال ولد الاتفاق من رحم الحمائية التجارية الأمريكية الجديدة، وليس من رحم قواعد حرية التجارة كما يرتكز عليها النظام التجاري العالمي وإجماع مجموعة العشرين، وباختصار نحن أمام اتفاق ولد في ردهات قمة العشرين، لكنه نقيض الإجماع السياسي لمجموعة العشرين.

ولكن الحمائية الجديدة لم تنتصر فقط في الردهات الجانبية، فلقد نجحت في التسلل إلى قاعات الاجتماعات تراقب ما يحدث، وتعمل على ضبطه بقدر الإمكان. كتب توماس بيرنيس الذي شغل مناصب قيادية في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، معقبا على البيان الختامي: «القادة قرروا دفن خلافاتهم عبر استخدام لغة غامضة، وتخلوا عن لغة محاربة الحمائية، التي كانت حاضرة في كل بياناتهم منذ اجتماعهم الأول، وهذا بالتأكيد يشكل خطوة تراجع أمام تعنت الولايات المتحدة».