الملف السياسي

قمة الأرجنتين .. خلافات عنيفة ونجاح محدود

10 ديسمبر 2018
10 ديسمبر 2018

مروى محمد إبراهيم -

قمة العشرين الأخيرة تمثل بارقة أمل إزاء إمكانية إيجاد مخرج للأزمات الدولية المشتعلة. ومجرد الدعوة لإصلاح منظمة التجارة العالمية تعتبر في حد ذاتها مبادرة لإنقاذ حركة التجارة العالمية وحماية القواعد المنظمة لها.

ربما تكون قمة مجموعة دول العشرين الاقتصادية، التي اختتمت اجتماعاتها في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس منذ عدة أيام، من أهم المنتديات التي جمعت قادة العالم تحت سقف واحد بالرغم من كل الخلافات الدولية الراهنة. فالخلافات الأمريكية - الروسية بلغت أوجها، وسط إدانات متجددة من أمريكا وأوروبا للدب الروسي بالتجسس والتلاعب بديمقراطياتها. ولا يمكن أن نتجاهل الحرب التجارية العنيفة التي أشعلتها إدارة الرئيس دونالد ترامب ضد منافستها الصين، بل وضد حلفائها في أوروبا وكندا. ناهيك عن الخلافات المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا. وهناك أيضا الخلافات حول المناخ، إلى جانب الأزمات الداخلية التي كانت تمر بها كل دولة على حدة. وعلى الرغم من اشتعال الخلافات وتأججها، إلا أن نتائج القمة اتسمت بشكل عام بالإيجابية، وخاصة على صعيد العلاقات التجارية.

ففي الوقت الذي دأب فيه الرئيس الأمريكي على مقاطعة المنتديات الدولية أو التعامل بتعال مع الدول المشاركة، بحيث أثار حفيظة حلفائه في قمة مجموعة السبع في كندا، وأثار استياء شديدا من قادة الدول المشاركة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» خلال الأشهر القليلة الماضية. ولكن هذه المرة، قرر ترامب التنازل عن تعاليه المعتاد. وإن كان لم يقدم أي تنازلات فيما يتعلق باتفاقيات المناخ، غير مبال بآثارها المدمرة والتي تعتبر الولايات المتحدة أكبر المتضررين منها، خاصة في ظل حرائق الغابات التي تستعر عاما بعد آخر والأعاصير التي تزداد شراسة وتجتاح الولايات الأمريكية بشكل مكثف في الأعوام الأخيرة.

ربما تكون الهدنة التي أبرمها ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينج لوقف الحرب التجارية بينهما لمدة 90 يوما من أهم النتائج التي أسفرت عنها القمة، فالعودة مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات، على أن تجمد واشنطن الزيادة الجمركية على المنتجات الصينية عند 10% وعدم رفعها إلى 25%، يمنح العالم فرصة لالتقاط أنفاسه بعد فترة صعبة من المواجهات التجارية.

وجاء الإعلان عن موافقة ترامب على تجميد خطط رفع الرسوم الجمركية، المقررة في الأول من يناير، على 200 مليار دولار من البضائع الصينية كتهدئة للأسواق والمستثمرين، حيث أعلن البيت الأبيض موافقة الرئيس الصيني على شراء كمية لم يتم الاتفاق عليها بعد، ولكنها كمية كبيرة من المنتجات الزراعية والصناعية وغيرها من المنتجات الأمريكية. لتقليل العجز التجاري الهائل للولايات المتحدة مع الصين.

أما أفضل ما توصل إليه قادة العشرين خلال قمتهم، هو دعوة جميع الزعماء إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية على أن تتم مناقشة القضية خلال قمة المجموعة القادمة في أوساكا باليابان والمقرر انعقادها في يونيو القادم.

ولكن البيان الختامي للقمة فشل في معالجة قضية الحمائية التجارية، التي أصبحت العدو الذي يهدد حركة التجارة العالمية. فلم يأت البيان على أي ذكر للحمائية بعد أن قال المفاوضون: إن الولايات المتحدة تعترض على الصياغة، حيث فضل الرئيس الأمريكي انتقاد منظمة التجارة العالمية والتي تعارض بالأساس سياساته التجارية الحمائية التي تستهدف الصين والاتحاد الأوروبي، وهو ما يمكن اعتباره فشلا كبيرا؛ لأنه لم يعالج أزمة الحرب التجارية المشتعلة بين الولايات المتحدة والعالم من جذورها.

ولكن يبدو أن إدارة ترامب تدرك إلى حد ما أبعاد الكارثة التجارية التي تنسج خيوطها حولها، ويبدو أن هذا ما دفعها إلى توقيع الاتفاقية التجارية المعروفة باسم «نافتا» مع جيرانها كندا والمكسيك، وذلك بعد تهديدات عنيفة من ترامب بأنه لن يوقع على هذا التعاون التجاري الهام، ما لم يتم إعادة التفاوض عليه ومراجعة بنوده. ولكن يبدو أن الضرورات ربما تبيح المحظورات، في قاموس الرئيس الأمريكي.

وحتى الأرجنتين، الدولة المضيفة، خفضت توقعاتها بالنسبة لنتائج القمة قبل أيام من انعقادها بسبب الخلافات المستعرة بين الدول الأعضاء، مشيرة قبل افتتاحها إلى أنه قد لا يكون من الممكن التوصل إلى توافق في الآراء بشأن البيان الختامي.

ولكن، على غير المتوقع، وبعد أيام من المحادثات التي أجراها الدبلوماسيون على مدار الساعة، تم إصدار بيان، لكن محللين قالوا إن القادة لم يوقعوا إلا على بيان مخفف يتناقض مع القضايا التجارية وغيرها من القضايا المثيرة للجدل.

ونظر الخبراء بتشاؤم إلى القمة ونتائجها، حيث أشار توماس بيرنز الزميل في مركز الابتكار الدولي في مجال الحوكمة إلى أن «مجموعة العشرين انحرفت على طول الطريق» في القمة، وفشل القادة في إصلاح التجارة ، التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها أولوية لتعزيز النمو في الوظائف والاقتصاديات، مؤكدا أن دورها لا يقل أهمية عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات الدولية البارزة في دعم الاقتصاديات العالمية.

وأضاف الخبير الأمريكي إنه بالرغم من أن قادة الدول الكبرى اعتادوا على دفن خلافاتهم بشكل أو بآخر خلال قممهم واجتماعاتهم السابقة، بل وسعوا جاهدين لمحاربة الحمائية التجارية، والتي كانت متضمنة في كل بيان لمجموعة العشرين منذ قمة القادة الأولى. إلا أن بيرنز اعتبر قمة بوينس آيرس بمثابة خطوة إلى الوراء، فالقوى الكبرى لم تتمكن من مواجهة تعنت الولايات المتحدة التجاري والتصدي له.

أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فبالرغم من كل الخلافات حصل على فرصة للتحدث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في النهاية، ولكن يبدو أن تبادلهم القصير لأطراف الحديث بشأن النزاع الروسي-الأوكراني في بحر آزوف لم يحقق الكثير.

فلم يهتز الموقف الروسي أمام التعنت الأمريكي المتواصل تجاهه، ولم يبال الرئيس الروسي كعادته بتراجع أمريكا عن إعلانها السابق عن لقاء وجيز مرتقب بين بوتين وترامب على هامش القمة، حيث ألقى الجانب الروسي باللائمة على السياسات الداخلية الأمريكية وحالة «الهستيريا المعادية لروسيا» حسب وصفه.

وفي إحراج جديد لأمريكا، أكد بوتين أنه التقى مع ترامب وتلخص حوارهما حول الأزمة الروسية-الأوكرانية، وعلق الرئيس الروسي على هذا اللقاء الاستثنائي قائلا: «أجبت عن أسئلته حول الحادث في البحر الأسود، لديه موقفه، ولدي خصوصيتي»، وشدد في النهاية على أن كل منهما تمسك بموقفه من الأزمة.

ربما يكون الإنجاز الأكبر الذي خلصت إليه قمة الأرجنتين هو تخفيف حدة التوتر التجاري العالمي، والذي تفاقم على مدار العام الماضي. لينتهي العام بمبادرة ربما تعكس حسن النوايا وتبشر بإمكانية إيجاد مخرج مناسب للأزمات التجارية العالمية عبر المفاوضات. على النقيض من ذلك، كان الفشل حليف كل القضايا الدولية العالقة سواء فيما يتعلق بقضية المناخ، التي ترفض إدارة ترامب الاعتراف بمدى فداحتها، في حين تفشل كل القوى الدولية في إقناعها بالتراجع عن موقفها أو حتى المضي قدما بدون الولايات المتحدة لإتمام الاتفاقيات اللازمة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري.

وفي النهاية لابد من الاعتراف بأن مجرد تمكن الدول المشاركة في القمة في الاتفاق على بيان ختامي هو نجاح في حد ذاته، مهما كان محدودا. فالخلافات الأمريكية-الصينية حالت دون إصدار بيان ختامي لمنتدى دول آسيا والمحيط الهادئ والتي انعقدت قبل أسابيع في «بابوا وغينيا الجديدة»، الأمر الذي شكل حرجا عالميا منقطع النظير، حيث انعكست خلالها خلافات دولية حادة غير مرغوب فيها. وبالتالي، فإن قمة العشرين الأخيرة تمثل بارقة أمل إزاء إمكانية إيجاد مخرج للأزمات الدولية المشتعلة. ومجرد الدعوة لإصلاح منظمة التجارة العالمية تعتبر في حد ذاتها مبادرة لإنقاذ حركة التجارة العالمية وحماية القواعد المنظمة لها.