الملف السياسي

بيان بوينس آيرس الباهت.. نتيجة طبيعية !!

10 ديسمبر 2018
10 ديسمبر 2018

 هاني عسل -

على الرغم من أن هذه الهدنة التجارية المؤقتة أنعشت أسواق المال الآسيوية سريعا، فإن تأثيرات الحرب التجارية بين القوتين العظميين ما زالت هائلة، ويعاني منه الاقتصاد العالمي بأكمله.

«انتهت كما بدأت».. هذا هو أفضل ملخص لمحصلة اجتماعات قمة مجموعة العشرين التي عقدت مؤخرًا في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.

وفي واقع الأمر، لو تم تكليف طالب في مرحلة التعليم العام بكتابة موضوع «إنشائي» ليكون بيانا ختاميا لقمة عالمية، أي قمة عالمية، سواء قمة العشرين أو غيرها، لصاغ البنود والعبارات نفسها تقريبا، التي وردت في البيان الختامي لقمة العشرين الأخيرة بالأرجنتين. فمن الناحية العملية، انتهت هذه القمة دون التوصل إلى اتفاق ملموس بين الولايات المتحدة والدول التسع عشرة الأخرى حول القضايا الجوهرية، بل وربما حول جميع القضايا التي اجتمع القادة من أجلها، وأبرزها قضية «الحمائية» التجارية، والتغير المناخي، ومشكلات الاقتصاد العالمي، بدليل أن البيان الختامي للقمة تجنب تمامًا الإشارة، ولو بكلمة واحدة، إلى مصطلح «الحمائية» التجارية من الأساس، وخلا أيضا من أي وعود أو مقترحات أو توصيات لإصلاح مسار الاقتصاد العالمي، كما ظهر الخلاف في العلن حول قضية المناخ، بعد أن واصلت الولايات المتحدة -المدير الفعلي للقمة- رفضها القاطع والصريح للاستراتيجية العالمية لمحاربة التغير المناخي.

ونظرا لأن الحدث كان كبيرا، والتغطية الإعلامية كانت هائلة، وحجم ومستوى المشاركة من جانب الدول العشرين كانا على أكمل وجه، ومع مراعاة حقيقة أن مجموعة العشرين تمثل ربع سكان العالم وأكثر من أربعة أخماس الاقتصاد العالمي، فقد كانت التوقعات مرتفعة للغاية من هذا الحدث قبل بدايته، غير أنه بعد نهايته، اتضح أن المتظاهرين القلائل الذين رفعوا اللافتات المعارضة لتجمع العشرين خارج مقر الاجتماعات في بوينس آيرس على مدى يومين كانوا محقين في انتقاداتهم وتعليقاتهم المحبطة بشأن هذه القمة.

بداية، جاء البيان الختامي مخيبا للآمال، إنشائيا، وبدا وكأن الأمانة العامة للاجتماعات وجدت نفسها مضطرة لكتابة ملخص مناقشات لم تنته إلى شيء! تضمن البيان تعهد قادة دول العشرين الموقعة على اتفاق باريس بشأن المناخ، وهي دول المجموعة باستثناء الولايات المتحدة، بالتنفيذ الكامل لهذا الاتفاق، مؤكدين أنه «لا عودة عنه»، ولكنهم مع ذلك اكتفوا بـ«أخذ العلم» فقط -أي بدون أي تعهد- بالدعوة التي أطلقها علماء الأمم المتحدة بشأن خفض درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية عما كان عليه الحال قبل الثورة الصناعية.

وفيما يتعلق بالتجارة، اكتفى البيان بالقول إن التجارة متعددة الأطراف «لم تحقق أهدافها»، وبخاصة تعزيز النمو وخلق فرص عمل، ودعا إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية «من أجل تحسين عملها»، دون الإشارة إلى مقترحات محددة. وفيما يتعلق بالاقتصاد العالمي، أكدت مجموعة العشرين أن صندوق النقد الدولي هو العمود الفقري لشبكة الأمان العالمية، ولهذا، دعت إلى توفير التمويل الكافي له، وإلى الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة على حصص الدول، قبل اجتماعه السنوي في ربيع 2019. وأكد البيان التزام مجموعة العشرين بمحاربة الفساد، وتعهدها بتطهير المؤسسات الحكومية من الفساد، من الآن وحتى عام 2021، ولكن أيضا دون تحديد آليات أو توصيات في هذا الصدد.كما أكدت مجموعة التزامها بتقليص الفجوة بين الجنسين في القوى العاملة بنسبة 25% بحلول عام 2025، والاهتمام بجهود توفير تعليم الفتيات، رغم أن هذا التعهد سبق أن صدر أيضا عن المجموعة قبل أربع سنوات!

هذا ملخص ما جاء في البيان الختامي لقمة العشرين رقم 13، والتي يفترض أنها تعقد سنويا، وقراراتها عبارة عن توصيات ونيات سياسية اقتصادية فقط، وليست لها صفة إلزامية من الناحية القانونية بطبيعة الحال. ومما زاد الطين بلة أن القمة لم تشهد أي تحرك إيجابي من خلال اللقاءات الثنائية بين قادة الدول نحو تهدئة التوتر حول عدد من القضايا السياسية البارزة، فلم يتم استعراض أزمة الهجرة في أمريكا وأوروبا، ولم تستغل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الحدث الكبير في الترويج لمشروع الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي «البريكست»، رغم أن هذا كان من بين توقعات الصحف البريطانية قبل القمة، والأسوأ من ذلك أن القمة عقدت في ظل توترات هائلة بين روسيا والغرب بسبب تطورات الأحداث في أوكرانيا، ومع ذلك، لم تحظ هذه الأزمة باهتمام القادة، بدليل أن الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري أخفق في عقد لقاء قمة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، كان من الممكن أن يعطي شكلا ومذاقا لهذه القمة، والتقى الرئيسان فقط على هامش القمة «على الواقف». وإذا كان بوتين نفسه قد شارك في القمة، وهو متأثر بأحداث الاشتباكات العسكرية الروسية الأوكرانية، فإن ترامب نفسه شارك «مهموما» بسبب تطورات قضية التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي جاءت به إلى البيت الأبيض. كما شارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في القمة بـ«نصف عقل»، لانشغاله ذهنيا باحتجاجات «السترات الصفراء» في باريس، والتي قدم فيها ماكرون بعد عودته تنازلات «كبيرة» قد يدفع ثمنها في المستقبل القريب.وحتى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ستكون هذه في الواقع آخر قمة عشرين تحضرها.

أهمية معنوية

ولكن، بشكل عام، لا ننسى أن أهمية اجتماعات العشرين تكمن من أنها من الفرص النادرة التي يلتقي فيها كبار قادة دول العالم بعيدا عن تجمعات الأمم المتحدة، إذ تضم المجموعة أهم الدول الصناعية والصاعدة في العالم، وهي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى الأرجنتين والبرازيل وأستراليا وألمانيا والهند وإندونيسيا وإيطاليا واليابان وكندا والمكسيك والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا وتركيا وكوريا الجنوبية، والعضو العشرون هو تكتل الاتحاد الأوروبي، كما اعتاد ممثلون عن منظمات دولية كبرى المشاركة في أعمال قمة العشرين، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وكانت هذه المجموعة تضم منذ عام 1999 سبع دول فقط، وكان يطلق عليها اسم مجموعة السبع، وكان الهدف من عقدها للمرة الأولى في كولن بألمانيا في ذلك العام استخلاص الدروس والعبر من الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، وجمع «كبار» العالم، أو أقوى الدول الاقتصادية، في ملتقى واحد، وهو ما جعل أوساطا معارضة تطلق على اجتماعات العشرين دائما «قمة الأغنياء»، ولكن تطورت المجموعة لتحمل اسم «العشرين» بعد توسيع عضويتها عقب الأزمة الاقتصادية العالمية مع بداية الألفية بسنوات، لتضم مجموعة أخرى من الدول الصناعية، فضلا عن اقتصاديات صاعدة.

وعلى الرغم من أن قمة بوينس آيرس الأخيرة كانت تحظى باهتمام خاص، نظرا لأنها جاءت في ظل حرب تجارية محتدمة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ناحية، وكل من كندا وأوروبا والصين من ناحية أخرى، كل على حدة، فإن تصريحات ترامب وأسلوب العناد والمراوغة الذي اتبعه قبل القمة وفي أثناء انعقادها، بدد أي آمال في التوصل إلى تفاهمات واضحة بشأن القضايا الخلافية، وذلك بسبب إصراره على انتهاج مبدأ «أمريكا أولا»، وسبق أن أكد ترامب نفسه في القمة الماضية في هامبورج بألمانيا صراحة أنه بدون أمريكا، لن تنجح مجموعة العشرين أبدأ!

وإذا حاولنا إبعاد النظرة التشاؤمية قليلا، ولو من باب النظر إلى أي رشفة ماء في الكوب شبه الفارغ، سنجد أن اجتماعات بوينس آيرس فتحت بصيصًا من الأمل في حل، أو على الأقل، تأجيل، الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، فضلًا عن خروج قادة بعينهم «فائزين» من هذه الاجتماعات لأسباب لا علاقة لها بصميم عمل مجموعة «العشرين». فإذا تناولنا الحرب التجارية الأمريكية الصينية، سنجد أن بوينس آيرس شهدت إعلان الولايات المتحدة والصين عن الاتفاق على «تأجيل» الحرب التجارية بينهما ثلاثة أشهر، بعد أن أكدتا أنه لن يتم فرض المزيد من الرسوم الجمركية خلال تلك الفترة، لحين إجراء مفاوضات أخرى تفصيلية. وحسب هذا الاتفاق، وافق ترامب على وقف تهديده بفرض رسوم تجارية على الواردات الصينية بنسبة 25% على ما قيمته 200 مليار دولار من السلع الصينية، اعتبارًا من أول يناير المقبل، والإبقاء على النسبة الحالية البالغة 10%، في مقابل أن تشتري الصين كمية كبيرة من المنتجات الزراعية والصناعية ومنتجات الطاقة وغيرها من الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن هذه الهدنة التجارية المؤقتة أنعشت أسواق المال الآسيوية سريعًا، فإن تأثيرات الحرب التجارية بين القوتين العظميين ما زال هائلًا، ويعاني منه الاقتصاد العالمي بأكمله.