أفكار وآراء

الذكاء الاصطناعي .. هل جاء مقوضا للرأسمالية؟

09 ديسمبر 2018
09 ديسمبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ما زلنا نتذكر ذلك الجدل المحموم المثار في أواخر السبعينيات وعلى امتداد الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، وخاصة إبان الحرب الباردة بين قطبي العالم: الشرقي والغربي، وإلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي.

ننكر، وبكل ثقة، الصلف الذي تعيشه الرأسمالية «المتوحشة» ونرى في سلوكياتها التي يوظفها الأفراد على أنها مهلكة، وتبعث على الاشمئزاز، والسبب أن ما تظهره من صور احتفالية زاهية ومغرية في جوانب الظاهرة المضيئة، هي في الوقت نفسه تخفي مآسي بشرية، يعيشون في حيوات سيئة إلى حد كبير، فمجموع العاملين، على سبيل المثال، في مكاتب الاستقبال في الفنادق الـ(7) النجوم بملابسهم الـ«شيك» الزاهية الألوان، والتي تفوح منها العطور غالية الثمن، بعضهم على الأقل يعيشون في ظروف صعبة أو غير سهلة، فالرأسمالية لا تريد منك أن تعيش في بحبوحة من العيش، بقدر ما تريد منك أن تعكس جانبا من بحبوحة العيش بمظاهر شتى، بحيث تقنع المتابع أو المتلقي بأنه حتى يصل إلى هذا المستوى من هذه الصور الاحتفالية جلها، عليه أن يتحرر من قيمه الكثيرة، ومن أهم القيم تلك التي فيها النزعة الإنسانية المجردة من أي متعلق ذاتي، من شأنه أن يوقظ ضميرا، أو يدمع عينا، أو يرق قلبا، حسب واقع الفقراء، والمعوزين في هذه الحياة، فالرأسمالية تتحرر من ذلك كله، وتذهب سريعا إلى حيث المادة، والمادة استحقاقاتها قاسية، ومتحررة من كل التزام إنساني، هذا جانب، أما الجانب الآخر، وهو الجانب المفضي إلى كثير من توظيف القدرات الذهنية لدى الإنسان، والمسخر لكل الطاقات الكامنة لدى الإنسان، والقادر على استنطاق كل القوى المتموضعة بين جنبات الإنسان، فإن للرأسمالية أثرها وتأثيرها الواضح اليوم في حياة البشر، ولا يمكن إنكار هذا مطلقا، فكل ما يحيط بنا، وما يربك حساباتنا، وما يعيشنا في ذهول، وعدم القدرة على التوقع القادم، يبقى للرأسمالية دور محفز فيه، والناس منساقون إليه أيضا، لأنه يعبّر عن منجزات عصرهم الذي يعيشون تفاصيله، نعم، ليس للجميع قدرة على المساهمة المتكافئة أو المتوازية في مشروعات الرأسمالية الكبيرة، ولكن الجميع مستفيد، ولو بالفتات مما يتركه قادة الرأسمالية على امتداد الكرة الأرضية، ولذلك لا يأخذك العجب كثيرا عندما تزور دولة من الدول «الفقيرة» وتمر على لافتات تحمل أسماء وعناوين من منتجات الرأسمالية، وهي نفس اللافتات التي تمر عليها في الدول الغنية، وفي العواصم الكبيرة، فالرأسمالية لا تفرق في استحلاب مغذياتها من البشر أينما كانوا، فهي تتمثل العدالة الربحية على امتداد الكرة الأرضية.

والذي يختلف في حسابات الرأسمالية فقط هو ثلاثة أشياء رئيسية، وفقًا للموقع الجغرافي، وتصنيف الدولة، ما بين دولة فقيرة ودولة غنية، والحالة الإنسانية أو المادية للبشر - لا يختلف في ذلك بين أن يكونون في دولة فقيرة، أو دولة غنية، وهذه الثلاثة هي: الموت، والضرائب، ومستوى التغيير الذي يعيشه الإنسان، وذلك حسب تعبير «المدير التنفيذي لشركة ديملر بنز (مرسيدس بنز) - مترجم - قال: إن منافسي شركته لم تعد شركات سيارات أخرى وإنما «تيسلا» وجوجل وأبل وامازون وأما الآخرون فهم المنافسون الدائمون الثلاثة: الموت والضرائب والتغيير»- حسب المصدر.

المناقشة هنا تذهب أكثر إلى السؤال المطروح في العنوان، وبصياغة أخرى، هل الذكاء الاصطناعي يجيء مقوضا للرأسمالية؟

ما زلنا نتذكر ذلك الجدل المحموم المثار في أواخر السبعينيات وعلى امتداد الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، وخاصة إبان الحرب الباردة بين قطبي العالم: الشرقي والغربي، وإلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، حول الاشتراكية والرأسمالية، وانقسام البشر لاعتناق أحدهما على الآخر، وتأييد أحدهما على الآخر، ووصول البعض الآخر إلى مفهوم الاقتصاد المختلط، هذه الجدلية على ما يبدو اختزلت اليوم كثيرا أمام مارد جديد ولد ليقوض كل القناعات التي بنى عليها البشر مفاهيمهم الحياتية، وهو الذكاء الاصطناعي الذي يذهب إلى التحرر من كل متعلقات الرأسمالية اللصيقة جدا بالفرد كمحور رئيسي في العملية الاقتصادية إلى ما يشبه نوعا من الفراغ المادي المتحرر من كل متعلق شخصي، إلى مفهوم فضائي بحت يجوب هذا الفضاء الواسع دون مرجعية يمكن الرجوع إليها والاحتكام إلى منابعها المعرفية الخاصة بها فقط، وإنما ينظر إلى الأمر على أنه نوع من العالمية المنتشرة عبر هذا الفضاء الرحب، حتى أصبح الواحد منا فردا عالميا من غير أن يدري، فأنت في أي دولة في العالم لا ينظر إليك وإلى هويتك، أو دينك، أو عرقك، أو أي شيء متعلق بجذورك، وإنما أنت أمام آلة صماء تحتكم إلى ما عندك من أي منتج يندرج تحت مفهوم «الذكاء الاصطناعي» وبالتالي فأنت خارج السياق إن لم تع أي مفردة من مفرداته التي بدأت تكتسح هذا العالم المترامي الأطراف.

عندما أتيحت لي فرصة زيارة بعض المدن كسنغافورة، ونيويورك وواشنطن، وبعض ولايات الهند، لم تكن هناك ثمة ضرورة لأن أبرم عقدا مع شركة ما لتوفير سيارة أجرة أتنقل بها من مكان إلى آخر، وإنما كان يكفي أن يحتضن هاتفي النقال تطبيقا عاما به سيارات أجرة «أوبر» حيث أحصل على أحدهما أينما كنت، ومتى كنت، وإلى أي مكان أريد، لا أعرف سائق هذه السيارة أو تلك، وإنما كنت أرقب حركة هذه السيارة القادمة إليّ عبر هذا التطبيق، لأعرف توقيت وصولها بالضبط، ولم أكن أحمل دفتر «شيكات» لإنجاز المعاملات المالية، وإنما بطاقة البنك التي أنجز بها معاملاتي المالية في بلدي، كافية لأن أنجز بها نفس المعاملات وأكثر في أي بلد أكون فيه، وحتى حجوزات الفنادق والقطارات فيما بعد كانت عبر ذات البطاقة البنكية - وحسب المصدر السابق ذاته - يقول المدير التنفيذي لشركة ديملر بنز: «البرمجيات ستوقف معظم الصناعات التقليدية خلال الخمس أو العشر سنوات القادمة، فشركة أوبر هي برنامج حاسوبي لا يمتلك سيارة واحدة لكنه اليوم أكبر شركة سيارات أجرة في العالم، وشركة «اير بي أن بي» العقارية هي أكبر شركة فنادق بالعالم رغم أنها لا تملك أي عقار، إنه الذكاء الصناعي، فالحواسيب أصبحت أكثر معرفة بالعالم من الإنسان، والحاسوب غلب أفضل لاعبي اللعبة الذهنية (GO) بالعالم هذا العام مستبقا التوقعات بعشرة أعوام».

ويضيف: «فالواحد منا لن يحتاج إلى أن يمتلك سيارة بعد اليوم، فسوف تطلب سيارة عبر هاتفك المتنقل، تأتيك حيث أنت وتنقلك حيث تشاء، ولن تحتاج لموقف سيارة لتركنها، أنت تدفع قيمة توصيلك حيث تشاء عبر بطاقتك البنكية وحسب، بل ويمكنك أن تقرأ أو تنجز أعمالا أثناء الرحلة، ولن يحتاج أولادنا مستقبلا لرخصة قيادة بل إنهم لن يمتلكوا سيارات خاصة بهم أصلا».

ففي سنغافورة عشت شخصيا تجربة القيادة الذاتية، حيث ركبت وأحد زملائي، أثناء زيارتنا للشركة المصنعة للسيارات ذاتية القيادة، سيارة ذاتية القيادة أخذتنا في جولة استطلاعية في محيط الشركة، وخارجها حيث سارت في الشارع العام، وتوقفت عند إشارات المرور، وطافت على الدوار بكل حرفنة متخذة مسارها الصحيح دون أخطاء، وتوجه الشركة أن تعمم الفكرة على المواصلات العامة في خطتها القادمة، هذه خطوة سوف تعفي الجميع بلا استثناء من امتلاك سيارة خاصة في المستقبل، وما ينسحب على مثال السيارات، سوف ينسحب على صور كثيرة في حياة الأجيال القادمة، وسوف تتحول الرأسمالية الضيقة إلى مفهوم عالمي تتوزع أقطابها على امتداد المساحة الجغرافية، وربما عندها لن يقرأ الناس عن أناس يمتلكون الـ«تريليونات» ويتحكمون في مصائر البشرية، وإنما يتوزع الثقل المادي على امتداد الكرة الأرضية، فكما هو الحال اليوم - على سبيل المثال - لم يعد أحد يتحكم في الرأي وفي المعلومة، بعد أن تربعت الصحف ووسائل الإعلام التقليدية حينا من الدهر، حيث فتح الهاتف المحمول، وما يحمله من مميزات لا أول لها ولا آخر المجال أمام مستخدميه، وما يبدعه أبناؤنا اليوم، وهم لا يزالون على مقاعد الدراسة، ما يؤكد تحطيم قيود الاستغلال والتملك اللذين مارستهما الرأسمالية حينا من الدهر، إنه الذكاء الاصطناعي، وإنه الملكية المشاعة.