أفكار وآراء

ما الذي يحدث في أوروبا؟

07 ديسمبر 2018
07 ديسمبر 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

لعل المتابع للتطورات السريعة التي تجري في القارة الأوروبية في الفترة الأخيرة يتساءل عن معنى بل مغزى وهدف ما يحدث في عقول قادتها أولا ومن قبل جماهيرها الثائرة الهادرة مرة أخرى، وقد كانت مشاهد المتظاهرين الفرنسيين الأيام القليلة المنصرمة مدعاة لقلق وحيرة، فهل هؤلاء بالفعل هم الفرنسيون الذين أضاءوا العالم بعلائم التنوير من قبل؟ وكيف لهم ان يقوموا بمثل هذا العنف الكبير الذي فتح الباب للتكهنات المختلفة حول طبيعة التطورات؟ وهل هو خريف أوروبا أم ربيعها؟ إلى آخر المصطلحات المتشابهة التي عرفها العالم العربي في السنوات الأخيرة.

والمؤكد جدا أنه إن أردنا أن نعرف أبعاد المشهد الأوروبي في الحال والاستقبال، فإن علينا النظر إلى ثلاث دول هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي تعتبر الركائز الأساسية للاتحاد الأوروبي الذي تدور من حوله الهواجس وتكثر الشكوك حول بقائه طويلا في قادم الأيام.

هل ما حدث في بريطانيا ترك انطباعا مؤلما عند الدولتين الأوروبيتين الكبريين فرنسا وألمانيا؟

دعونا نشير بداية إلى أن بريطانيا تعتبر القوة المسلحة الأوروبية الكبرى لا سيما فيما يتصل بالقوة البحرية فهي الدولة التي كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولا تزال خبراتها في البحار عريضة بأقوى مشهد، أما فرنسا فهي قلب أوروبا السياسي النابض منذ زمن بعيد، وهي بنفس القدر موئل العقول الأوروبية السياسية والفلسفية التي قدمت للأوروبيين مسارات التنوير، عطفا كذلك على كونها صاحبة القوة النووية الأوروبية الضاربة وربما بما يفوق بريطانيا في هذا الإطار، فيما تبقى ألمانيا محرك أوروبا الاقتصادي وقاطرتها المالية، وليس سرا أنه من غير الحضور الاقتصادي الألماني لربما كانت دول ضمن الاتحاد الأوروبي قد سقطت وفي مقدمتها اليونان والبرتغال وإيطاليا بصورة ما.

في أواخر نوفمبر الماضي وخلال مؤتمر صحفي في بروكسل قال الرئيس الفرنسي «ايمانويل ماكرون»: إن «البريكست علم الاتحاد الأوروبي أن أوروبا لم تكن مطمئنة بما فيه الكفاية ولم تكن كافية لحماية شعبنا»، مضيفا: «لقد تمكنا من التفاوض على صفقة جديدة تحافظ على مصالحنا وقيمنا وتوضح أيضا أسس التعاون الوثيق مع المملكة المتحدة».

غير أن المثير في تصريحات ماكرون إشارته إلى أن انسحاب بريطانيا قد سلط الضوء على ان أوروبا هشة، وقد جاء ذلك خلال القمة التي عقدها قادة دول الاتحاد الأوروبي وأطلقت عليها وسائل إعلام أوروبية من باب التندر تعبير «قمة الطلاق»، وفيها أيدوا على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد بشقيه «الانسحاب من الاتفاق والإعلان السياسي حول مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا»، وفقا لتغريدة نشرها «دونالد تاسك» رئيس مجلس الاتحاد.

شيء ما جوهري يتغير في أوروبا وبالتبعية سوف يؤثر على مستقبل بقاء الاتحاد الأوروبي وأيضا حلف الناتو، سيما وأن عدد من المراقبين الثقات لحلف الناتو يتساءلون هل ما يحدث في أوروبا هو مقدمة لإعلان نهاية زمن الناتو الذي دام لأكثر من سبعة عقود أي منذ نهاية الأربعينات وحتى الساعة.

يكتب الكاتب الفرنسي تيري ميسان منذ أيام عن الأصل والمنشأ للاتحاد والعوامل المهددة لبقائه، وعنده أن خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية أدت إلى نشوء السوق الأوروبية المشتركة من جهة، وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، وتصالح جميع المتحاربين، الذين راحوا يتعلمون شيئا فشيئا كيفية التعاون فيما بينهم، وبالتالي تجنب نشوب حرب عالمية ثالثة.

وفي مقابل الحماية الاقتصادية والعسكرية الأمريكية تخلى الأوروبيون عن مجرد محاولة التقرب من الاتحاد السوفييتي الشيوعي لكن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي- يخبرنا ميسان- لم يعد لدى السوق الأوروبية وحلف الناتو أي خصم، وبدلا من حل هذه الهياكل أو إعادة توصيفها، قررت الولايات المتحدة ضم الأعضاء السابقين في حلف وارسو إليه، باستثناء روسيا منافستها الأزلية بطبيعة الحال.

ما الذي قام به الأمريكيون تاليا من أجل أن تظل أوروبا بجناحيها الغربي القديم والشرقي الجديد الذي أدمج ربما عنوة في هذا السياق تحت حماية وحضور واشنطن النافذ والطاغي؟

يمكن القطع بأن الأمريكيين اتخذوا بعد ذلك خطوة لم تناقش في أي وقت سابق، فقرروا تحويل نظام التعاون المشترك بين الدول في السوق الأوروبية المشتركة، إلى امبراطورية بديلة، فأنشأوا الاتحاد الأوروبي، وهو في الواقع هيئة بيروقراطية مشتركة كبيرة في بروكسل، وشرعوا على الفور بتنسيق جميع جوانب الحياة اليومية، كقطاعات الشرطة والعدالة والنقد، وعالجت معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1992 كل شيء باستثناء الجيش، لأن الاتحاد الأوروبي يقع تحت حماية حلف الناتو أي الولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل الأصوات التي علت في الفترة القريبة أوروبيا بشأن فكرة الجيش الأوروبي الموحد تبين لنا أن شرخا كبيرا للغاية واقع لا محالة بين واشنطن وبروكسل، فقد طالب الرئيس الفرنسي ببناء جيش أوروبي موحد والسؤال ما الذي دفعه إلى ذلك؟

يعلم القاصي والداني أن الرئيس الأمريكي ومنذ زمن حملته الانتخابية يطالب الأوروبيين بتحمل نصيب أكبر من الأعباء المالية لاستمرار الحلف، ويطالب بأن تدفع كل دولة أوروبية ما قيمته 2% من ناتجها القومي، وهو ما جعل الأوروبيون يفكرون في جدوى الاستمرار كأعضاء في الحلف.

في هذا السياق كان الرئيس الفرنسي ماكرون يتحدث إلى شبكة الأخبار الأمريكية الشهيرة «سي ان ان» بالقول: «لا أريد رؤية الدول الأوروبية ترفع من ميزانيات الدفاع لشراء أسلحة أمريكية أو أخرى أو معدات من إنتاج صناعتكم، إذا زدنا ميزانيتنا فالغرض بناء استقلالنا»، ولم يتوانَ ماكرون عن طرح فكرة الجيش الأوروبي الموحد الذي يفهم الأبعاد الجغرافية والديموغرافية للقارة العجوز وهو يسعى إلى تجديد شبابها. والشاهد ان حديث ماكرون كان مزعجا للغاية لواشنطن، سيما أن فرنسا ووفقا لموقع «جلوبال فير بور» الأمريكي تحوذ أقوى الجيوش الأوروبية، حيث يصل تعداد جنود الجيش الفرنسي إلى 387 ألف جندي بينهم 183 ألف جندي في قوات الاحتياط، وقوة نووية ظلت طويلا جدا قيادتها وقرارها في يد الفرنسيين انفسهم وبعيدا عن قرارات حلف الناتو، ومصدر الإزعاج هو أن بدايات هذا الجيش تعني عدم الحاجة في المستقبل للقوات الأمريكية على الأراضي الأوروبية، وهناك ما هو أبعد وأخطر ويحتاج لحديث مفصل أي الأحلام الأوروبية بالتقارب مع روسيا الاتحادية وبداية الطريق لأوراسيا الجديدة. والثابت أن طرح الجيش الأوروبي لم يعد حلم ماكرون فقط، ذلك أن فيدريكا موجيرني وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي نفسها كانت قد عبرت عن رغبة أوروبا في تشكيل جيش أوروبي، وذلك حين قالت في كلمة ألقتها في وكالة الدفاع الأوروبية في وقت سابق: «في المشهد العالمي المتغير تصبح أوروبا قوة لا غنى عنها بشكل متزايد، وهذا هو الوقت المناسب بحسب اعتقادي لتولي مسؤولياتنا والاستجابة للدعوة للأمن، ولن نتمكن من القيام بذلك إلا إذا كنا وحدة حقيقية».

وإذا انتقلنا إلى ألمانيا فإننا نجد رؤية مباشرة وتصب في نفس خانة ماكرون فقد دعت المستشارة ميركل إلى بناء جيش متكامل للاتحاد الأوروبي، وذكرت بدروس الحرب العالمية الأولى والانقسامات التي أدت إلى نشوب الصراع، وقال في كلمة لها أمام البرلمان الأوروبي: «ينبغي ان نعمل على رؤية مفادها ان نبني يوما ما جيشا أوروبيا حقيقيا».

لا تتوقف ثورة الألمان عند تصريحات ميركل فحسب إذ نرى تصاعدا مثيرا للأحداث والإعلانات من قبل سياسيين ألمان مشهود لهم بالقوة والكفاءة، بل أن بعضهم كان من الجرأة بمكان إذ نكأ الجراح التي ظن الجميع أن حلف الناتو قد أغلقها بعد الحرب العالمية الثانية، لكن يبدو أن النار لا تزال مشتعلة تحت الرماد.

خذ إليك ما قاله مستشار ألمانيا السابق جيرهارد شرويدر مؤخرا وهو الرجل الذي عارض في عام 2003 احتلال أمريكا للعراق، وذلك في مقابلة له مع التلفزيون الألماني من أنه: «لا يمكننا تحمل أن نعامل كدولة محتلة، وأضاف: عندما ألاحظ تصرفات سفير الولايات المتحدة في ألمانيا، يتولد لدي انطباع بأنه يظن نفسه ضابط احتلال، وليس سفير الولايات المتحدة في دولة ذات سيادة“.

هذا التصريح ولا شك قد زاد من مخاوف الولايات المتحدة من الألمان، وهناك كثر من الكتاب السياسيين في ألمانيا يطالبون ببداية مرحلة جديدة من التعاون الأوروبي الروسي والتعاون الأوروبي الصيني، بل أن ما يزعج واشنطن بدرجة كبيرة من عودة شرويدر إلى ساحة الحياة السياسية في ألمانيا هو أن الرجل كان قد أجرى تقاربا بين بلاده والاتحاد الروسي، وبدأ في بناء خط أنابيب غاز نورد- ستريم عبر بحر البلطيق، وكان هدفه تزويد ألمانيا بالغاز الروسي وذلك بالالتفاف على أوكرانيا، وعندما غادر كرسي المستشارية اصبح رئيسا لكونسورتيوم بناء الخط المشار إليه وفي عام 2017 انضم إلى اكبر شركة نفط وغاز روسية، أي شركة غاز بروم.

آخر التصريحات التي توضح مآل أوروبا عما قريب في علاقاتها مع العالم الخارجي كان ذلك الذي صدر عن وزير الخارجية الالماني «هيكو ماس» الأيام الماضية حين أعلن عن أن المنافسة الاستراتيجية التي تجري بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة والصين من جهة أخرى تحدد بيئة جيوسياسية جديدة لأوروبا، ومطالبا بأن تعلن أوروبا عن نفسها في البيئة الجيوسياسية العالمية والمرتبطة بالمنافسة المتزايدة بين الدول الكبرى.

يعتبر الأوروبيون اليوم أن المنافسة من أجل الحصول على مكان قوى كبرى هو مفهوم محوري، غير أن السؤال الذي لم تتضح إجابته بعد كيف لهم الوصول إلى تلك المرحلة في ضوء ضبابية نظام لا عالمي قائم وإلى حين ولادة آخر قادم؟