أفكار وآراء

الفرانكفونية.. ماذا بقي منها؟

04 ديسمبر 2018
04 ديسمبر 2018

عوض بن سعيد باقوير -

صحفي ومحلل سياسي -

الفرانكفونية هي منظمة دولية جاءت ما بعد حقبة الاستعمار الفرنسي خاصة في إفريقيا، وقد ظهرت هذه المنظمة الرمزية للعلن عام 1970 من خلال جهود الرئيس السنغالي السابق عبده ضيوف، وهي تقابل في توجهاتها منظمة الكومنولث التي جاءت هي الأخرى بعد انحسار وانتهاء السيطرة البريطانية في القارات الخمس.

ومنظمة الفرانكفونية التي تضم في عضويتها الآن 57 دولة وهناك 23 دولة بصفة مراقب، حيث يتمثل الهدف الأساسي في نشر اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية خاصة أن هناك عددا كبيرا من الدول الأعضاء في هذه المنظمة تقترب فيها اللغة الفرنسية من اللغة الرسمية، كما تضم الفرانكفونية عددا من المؤسسات التابعة لها في مقرها في باريس، فهناك القمة الفرانكفونية وهي تضم رؤساء الدول، والمؤتمر الوزاري ويضم وزراء الخارجية، وهناك المجلس الدائم للمنظمة ويضم مجلس إدارة المنظمة ومكاتب المنظمة وأخيرا المراسلين.

صراع الثقافات

لعل الباعث الأساسي على قيام منظمة الفرانكفونية هو الحفاظ على الهوية الثقافية للغة الفرنسية من خلال الدول التي كانت تحت مظلة الاستعمار الفرنسي لسنوات طويلة ووجود مفكرين وأدباء خاصة في إفريقيا لهم ميول ثقافية، ويكتبون إبداعهم الأدبي باللغة الفرنسية علاوة على ذلك جاء إنشاء المنظمة ردا على وجود المنظمة المنافسة، وهي منظمة دول الكومنولث والتي تتشابه أهدافها الثقافية والمعرفية مع الفرانكفونية وبالتالي فان المحصلة النهائية هو وجود صراع ثقافي خفي بين الامبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية.

ولعل بوادر ذلك الصراع الثقافي يظهر جليا من خلال اللغة الإنجليزية التي تسود العالم بشكل كبير وبين اللغة الفرنسية والتي تشير عدد من الدراسات الأخيرة إلي انحسارها النسبي، وهذا يعود إلى أن الولايات المتحدة، وهي الدولة الأقوى في العالم تتحدث باللغة الإنجليزية علاوة على أن لغة المال والدولار لعبت دورًا كبيرًا في الانجذاب الأكبر لسكان العالم للغة الإنجليزية، ومن هنا نسوق هذا المثال لمعرفة الأهداف الأساسية لمنظمة الفرانكفونية التي لا تزال تحاول على الأقل الإبقاء على اللغة الفرنسية في الدول الإفريقية التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي خاصة دول غرب إفريقيا مثل: بنين وبوركينا فاسو وغينيا وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال وتوجو ودول شمال إفريقيا كالجزائر التي بقي فيها الاستعمار الفرنسي لأكثر من 130 عاما والمغرب وتونس وحتى مصر علاوة على لبنان وسوريا وعدد من دول القرن الإفريقي والمستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي ومن هنا تأتي المنافسة الثقافية بين التوجهات الثقافية بين لندن وباريس وهو تنافس لا يزال قائما على هذا الصعيد. وتلعب وسائل الإعلام دورًا مهمًا على صعيد نشر اللغة الفرنسية من خلال عدد من القنوات الفضائية الناطقة باللغة الفرنسية خاصة في إفريقيا التي تشكل دولها الأغلبية في عضوية المنظمة وهناك عدد من الصحف والمجلات الناطقة بالفرنسية التي تمولها منظمة الفرانكفونية وبالتالي فرنسا وهي الداعم الأكبر لهذه المنظمة الثقافية

ومن هنا يتجلي الدور الثقافي للفرانكفونية من خلال أهدافها الرئيسية بعيدا عن الجانب السياسي وإن كان هناك تعاطف وتنسيق بين فرنسا ودول منظمة الفرانكفونية وهو تعاطف رمزي في عدد من المواقف السياسية.

التوجهات الرمزية

منذ قيام منظمة الفرانكفونية عام 1970 والذي يقترب عمرها من نصف قرن لم تكن هناك تحركات أو مواقف سياسية للمنظمة حتى على الصعيد الإفريقي، وبالتالي اقتصر نشاط المنظمة على العمل الثقافي والمعرفي ورصد تحركات الآخر ونعني بها مدى وضع اللغة الإنجليزية مقارنة باللغة الفرنسية، علاوة على التنسيق الرمزي لقضايا تهم فرنسا تحديدا بمعنى أن مناصرة القضايا الإفريقية الاستراتيجية لم تكن حاضرة بقوة، إلا من خلال بيانات رمزية ليس لها تأثير. ومن هنا التساؤلات حتى من داخل المنظمة حول جدوى استمرار دور الفرانكفونية وأن المنظمة أصبحت أكثر بيروقراطية من خلال المؤتمرات السنوية والندوات الثقافية وانضمام أعضاء جدد وتجمعات أخرى من القارات الخمس.

ومن هنا يأتي السؤال الأهم ماذا بقي من الفرانكفونية التي لا يسمع عنها إلا من خلال مؤتمر سنوي أو بيان رمزي لتتحول تدريجيا إلي منتدى وهو الأمر الذي ينطبق على منظمة الكومنولث الرمزية التي يسجل لها النجاح على صعيد نشر اللغة الإنجليزية من خلال مراكزها الثقافية المنتشرة حول العالم في حين أن منظمة الفرانكفونية كانت أقل نشاطا في هذا الجانب ومن هنا نرى عددا من الدول الإفريقية تتعامل باللغة الإنجليزية في معاملاتها التجارية وجامعاتها، وتم نشر عدد من معاهد اللغة الإنجليزية في الدول الإفريقية الناطقة باللغة الفرنسية، ومن هنا نرى تحولا ثقافيا في إطار المنافسة التقليدية بين لندن وباريس، وهي منافسة انتقلت من البحار المفتوحة والأساطيل والسيطرة على الكيانات والدول إلى منافسة من نوع آخر، وهي المنافسة الثقافية التي استحوذ فيها الجانب البريطاني على الحيز المعرفي والثقافي الأكبر على ضوء الدراسات الأخيرة.

وعلى ضوء وجود هذا الكم الكبير من الدول كأعضاء ومنها دول عربية لا علاقة لها باللغة الفرنسية يمكن القول إن رمزية المنظمة تترسخ يوما بعد يوم، وقد يأتي عليها الزمن وتختفي أو على الأقل تتلاشى تدريجيا في ظل الصعوبات الاقتصادية خاصة لفرنسا والذي ظهر أخيرا من خلال مظاهرات أصحاب القمصان الصفراء وما أحدثته تلك المظاهرات العنيفة من ارتباك في الحكومة الفرنسية.

الأهداف الخفية

قد يرى البعض أن هناك أهدافا غير مرئية للمنظمة وأن أهدافها المعلنة هي أهداف عامة لنشر اللغة والثقافة الفرنسية والقيم المشتركة والصحيح أن أي أهداف غير معلنة وعلى مدى أكثر من 48 عاما لابد أن تتضح خاصة إذا كانت أهدافا سياسية أو تشكيل كتلة تكون على غرار كتلة دول عدم الانحياز التي لها مواقف وأهداف سياسية لا تزال واضحة خاصة في الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال تكتل 77 دولة التي تناصر القضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وقبلها مناصرة الشعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للتخلص من الاستعمار، وقد نجحت في ذلك بفضل وجود الزعامات في تلك الفترة مثل جمال عبدالناصر ونهرو وتيتو وغيرهم والذين غيروا وجه تلك القارات الثلاث وشعوبها نحو الحرية والاستقلال. ليس هناك أهداف غير مرئية عدا المنافسة التقليدية بين لندن وباريس، وفي مجال محدد ورمزي وهو نشر اللغة والثقافة الفرنسية والتوافق علي القيم المشتركة كما تسميها منظمة الفرانكفونية، ومن هنا فإن وجود هذا الكم الكبير من الدول في عضوية المنظمة التي يتجاوز عددها دول الاتحاد الإفريقي وثلث الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مع وجود تلك النشاطات والندوات والمؤتمرات الرمزية حتى وجود التنسيق مع الاتحاد الإفريقي من خلال مكتب المنظمة في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا ووجود مكتبها في بروكسل للتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وأيضا مكاتب لها في نيويورك وجنيف للتنسيق مع الأمم المتحدة مع وجود مكاتب إقليمية لها في غرب إفريقيا وفي إفريقيا الوسطى وأيضا في منطقة المحيط الهندي والهادئ ورغم وجود هذا الانتشار والتنسيق مع المنظمات الإقليمية والدولية تظل الفرانكفونية منظمة تبحث عن نفسها في خضم التكتلات الإقليمية السياسية، وفي ظل صراعات حقيقية وطموحات تتجاوز الدور الرمزي للفرانكفونية.

التحديات الحقيقية

رغم أن فرنسا الداعم الأكبر للفرانكفونية باعتبارها الرمز الذي يذكر بالثقافة الفرنسية والقيم التي تحاول باريس نشرها كالحريات وحقوق الإنسان التي مثلتها الثورة الفرنسية ومع ذلك تبقى الحقائق على الأرض لا تخدم المنظمة، حتى من قبل باريس فالأهداف الكبيرة لفرنسا تبقى في المنظومة الأوروبية وفي مجال التجارة الدولية ولعل إفريقيا تحديدا هي الاستثناء في هذا المجال ليس بسبب اللغة الفرنسية، ولكن بسبب وجود شركة النفط الفرنسية العملاقة «توتال» والتي في دول غرب إفريقيا وضرورة مجابهة التنين الصيني الذي بدا بالاختراق الاستثماري أن صحت التسمية في القارة الإفريقية هذا هو التحدي الحقيقي لفرنسا وليس الفرانكفونية الرمزية.

صحيح أن اللغة الفرنسية والمحافظة عليها مهمة لفرنسا ولكن تبقى الأهداف الكبرى هي الأساس ومع انتشار اللغة الإنجليزية بشكل كبير في العالم قد ينتهي الكبرياء الفرنسي ونرى معاهد إنجليزية في باريس والمدن الفرنسية وأيضا الجامعات التي تدرس باللغة الانجليزية وهي مرحلة تحتمها الظروف التجارية ووجود الشركات العملاقة الأمريكية في فرنسا، ومن هنا لا تستطيع فرنسا مجابهة العملاق الأمريكي في قضايا التجارة والتعاملات باللغة الانجليزية. وإذا استمرت منظمة الفرانكفونية بوضعها الحالي كمنظمة رمزية تختص بنشر اللغة والثقافة الفرنسية فان استمرار وجودها سيكون محل شك، وإن بقيت فسوف تضعف إلى درجة كبيرة في ظل الزحف القوي للجانب الآخر، والذي يصرف بسخاء على نشر اللغة والثقافة والجامعات التي تقوم بالتدريس باللغة الانجليزية حتى في دول غرب إفريقيا ودول شمال إفريقيا معقل اللغة الفرنسية التقليدي ولا شك أن مثال الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة الأمريكية في القاهرة مثال واضح في هذا الإطار وعلى ضوء تلك المحددات قد تبقي الفرانكفونية رمزا ثقافيا، وقد يستمر، وقد يختفي يوما ما.