الملف السياسي

دعوة ماكرون بين المناورة السياسية وتفاعلات المصالح

03 ديسمبر 2018
03 ديسمبر 2018

طارق الحريرى -

تثبت الأحداث الأخيرة في بحر آزوف حيث احتجزت روسيا سفينتين حربيتين مصفحتين وسفينة جر أوكرانية أن أوروبا لم تندفع نحو تصعيد مواقفها تجاه موسكو وأن كلا من فرنسا التي دعت لجيش أوروبي وألمانيا التي أيدت الفكرة يعملان على احتواء الأزمة .

داعبت فكرة إنشاء جيش أوروبي خيال بعض القادة الأوروبيين من قبل دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصريحة في هذا الشأن ومن اللافت أن اقتراح الرئيس الفرنسي أثار جدلا حادا عندما دعا إلى «جيش أوروبي حقيقي مهمته حماية القارة الأوروبية من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة» فالصيغة التي وضعت الولايات المتحدة في سلة واحدة مع كل من الصين وروسيا عكست رؤية غير مسبوقة في الخطاب الأوروبي تجاه واشنطن التي جاء رد فعلها عنيفا مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتغريدة قائلا فيها «إنه لأمر مهين للغاية أن يقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تشكل أوروبا جيشاً لحماية نفسها من أعداء محتملين منهم الولايات المتحدة» واستتبعها من ضمن تغريدات أخرى معايرا «كانوا (يقصد الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية) قد بدأوا تعلم اللغة الألمانية في باريس قبل وصول الولايات المتحدة» في المقابل جاءت ردود الفعل الأوروبية مؤازرة لماكرون وعبرت عن ذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح مصرحة بأنه «ينبغي أن نعمل على رؤية مفادها أن نبني يوما ما جيشا أوروبيا حقيقيا» وأشار مارجريتيس سكيناس المتحدث الرئيسي باسم المفوضية الأوروبية في إفادة للصحفيين عن تعليق ماكرون مؤكدا «إن المفوضية تطرح الكثير من المبادرات والمقترحات للبدء تدريجيا في بناء هوية دفاعية أكبر وأقوى في مثل هذه الأوقات السياسية الصعبة».

جاء تصريح ماكرون متزامنا مع الاحتفال الذي أقامته فرنسا بمناسبة مرور مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى وربما كان اختيار التوقيت مقصودا بسبب ما كان قد أعلنه الرئيس الأمريكي من أن بلاده ستنسحب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى التي وقعتها بلاده في 1987 مع الاتحاد السوفييتي السابق آنذاك في لفتة ذكية من الرئيس الفرنسي تشير إلى أن الولايات المتحدة التي ساهمت في حسم الحرب العالمية الأولى ليس عليها الآن أن تقدم على الانسحاب من معاهدة سوف يتمخض عنها دفع روسيا إلى إعادة إنتاج هذا السلاح الخطير الذي سيهدد أوروبا تحديدا أي أن الضرر سوف يقع على أوروبا نتيجة ما تزمع واشنطن أن تقدم عليه وهذا ما ألمح إليه محلل الشؤون العسكرية في CNN الأدميرال جون كيربي قائلا «لم يصمم الاتفاق لحل كل المشاكل مع الاتحاد السوفييتي إلا أنه عمل على توفير نوع من الاستقرار الاستراتيجي في القارة الأوروبية واستطرد أثق أن حلفاءنا في أوروبا ليسوا سعداء الآن بسماع أن الرئيس ترامب يسعى إلى الانسحاب من المعاهدة».

بناء جيش أوروبي سوف يترك تداعيات مؤثرة ليس على الولايات المتحدة وأوروبا فقط لأنه سيمتد في تأثير مباشر على الساحة الدولية للأسباب الآتية:

1 – إن نشوء قوة عسكرية جديدة تضم دول الاتحاد الأوروبي خطوة يمكن لها أن تؤدى إلى إضعاف حلف الناتو الذي يقوم بمهام مختلفة في الساحة الدولية بقيادة أمريكية وهنا يجب تذكر أنه في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي مباشرة كانت مساهمة الدول الأوروبية بنسبة 34 في المائة من الإنفاق العسكري للناتو لكن بحلول 2012 انخفض هذا الإنفاق إلى 21 في المائة وهنا يجب الأخذ في الاعتبار أن انخفاض المشاركة المالية حدث بعد انضمام 13 دولة جديدة اعتبارا من عام 1999 للحلف.

2- قيام جيش أوروبي يعني التضارب بينه وبين حلف الناتو لاسيما أن نسبة الغالبية العظمى من أعضاء الحلف هي دول أوروبية فخارج القارة العجوز ليس من بين أعضاء الحلف سوى الولايات المتحدة وكندا.

3 – إن وجود جيش أوروبي يقلل من قدرة الولايات المتحدة في التأثير على القرار الأوروبي بشأن رفع حصة مساهمتها في نفقات الحلف التي تتحمل واشنطن الجزء الأكبر منها وفى هذا تهديد يخلخل ميزانية حلف الناتو ومن ثم قوته العسكرية.

4 – إن بناء جيش يخص أوروبا، من شأنه أن يحرر العلاقة بينها وبين روسيا الفيدرالية، الجار الذي تربطه مصالح مباشرة بكثير من دولها وعلى رأسها ألمانيا التي تحتاج الغاز الروسي لصناعتها المزدهرة، وهناك أكثر من دولة في أوروبا منها إيطاليا مثلا أعلنت صراحة عن رغبتها في تخفيف العقوبات الموقعة على روسيا لتقلل من خسائرها في التبادل التجاري مع موسكو.

فرنسا تحديدا التي صدر عن رئيسها طرح فكرة إقامة جيش أوروبي هي الدولة الأقوى عسكريا من بين كل دول أوروبا وتليها ألمانيا وهما غير مستعدتين على المدى القريب وربما المتوسط للتخلي عن سيادتيهما الدفاعية وهنا يتبدى التساؤل لماذا أقدم أيمانويل ماكرون على الدعوة لتشكيل جيش أوروبي؟ للإجابة على هذا السؤال يجب عدم إغفال أن الفكرة ليست وليدة اليوم فقد سبق أن نادى بها الرئيسان الفرنسيان السابقان فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي وجدير بالذكر أن المادة 42 في معاهدة الاتحاد الأوروبي، تنص على التعاون المنظم الدائم والدفاع المتبادل بين دول الاتحاد وهي بذلك تفتح الباب لفكرة تأسيس جيش أوروبي موحد.

الرئيس الفرنسي كان يهدف بدعوته لجيش أوروبي إلى مجابهة الجانب الأمريكي بطريقة غير مباشرة في بعض الملفات التي تثير إشكاليات في السياسة الدولية ففرنسا اتخذت موقفا لا يتفق مع سياسة الولايات المتحدة في ما يتعلق بالملف الإيراني المعروف رسميا بخطة العمل الشاملة المشتركة وهي الاتفاقية الدولية حول البرنامج النووي الإيراني تم التوصل إليها في يوليو 2015 بين إيران ومجموعة ( 5+ 1) ثم انسحبت منها الولايات المتحدة هذا العام وفي بيان مشترك ردا على الانسحاب الأمريكي أكد قادة فرنسا وألمانيا وبريطانيا (دول الغرب في الاتفاقية) أن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المؤيد للاتفاق النووي ما زال إطارا قانونيا دوليا ملزما لحل النزاع.

كما أن ماكرون أراد أن يرسل رسالة مبطنة إلى الرئيس الأمريكي يبلغه فيها أن فرنسا ترفض ضغوطه لرفع قيمة حصتها في ميزانية حلف الناتو. ونظرا لتفشي العقوبات الأمريكية ومنها العقوبات المفروضة على روسيا التي تؤثر سلبا على الاتحاد الأوروبي وبدرجة أكبر من داخله فرنسا التي أراد رئيسها التلويح بفكرة مضادة يمكن بإثارتها رفع غطاء معاقبة شركات متعاملة مع روسيا وإيران بما لا يضر بالشركات الفرنسية وبالتالي الاقتصاد الفرنسي هكذا تعكس تصريحات ماكرون بشأن جيش أوروبي أزمة مكبوتة بين البلدين.

لا جدال في أن إنشاء جيش أوروبي سوف يوفر آلية أسرع في مواجهة أي تهديدات عسكرية تتعرض لها دولة أوروبية وأن الاعتماد على هذا الجيش سوف يقلص من دور الولايات المتحدة التي تريد أن تحافظ على موطئ قدم دائم في أوروبا حتى لا تفقد إمكانية استمرار حائط مراقبة وتحجيم على حدود خصمها اللدود روسيا في مناطق تماس من دول شرق أوروبا أعضاء حلف الناتو.

وتثبت الأحداث الأخيرة في بحر آزوف حيث احتجزت روسيا سفينتين حربيتين مصفحتين وسفينة جر أوكرانية أن أوروبا لم تندفع نحو تصعيد مواقفها تجاه موسكو وأن كلا من فرنسا التي دعت لجيش أوروبي وألمانيا التي أيدت الفكرة يعملان على احتواء الأزمة إذ اقترح وزير الخارجية الألماني فكرة أن برلين وباريس يمكن أن تقوما بجهود وساطة عند انعقاد اجتماع مقرر منذ فترة مع روسيا وأوكرانيا في برلين حيث ستعمل فرنسا وألمانيا كوسيطين من أجل تجنب تحول هذا النزاع إلى أزمة خطيرة.