1061416
1061416
الرياضية

الجري فــوق سفوح الجبال

02 ديسمبر 2018
02 ديسمبر 2018

معايشة ورصد لحياة متسابقي ألترا تريل مون بلان -

متابعـــــة: عبدالله بن سالم الشعيلي -

Twitter:@ashouily -

شمس خجلى تتلمس طريقا للنفاذ من بين السحب البيضاء الكثة المطوقة لسلاسل جبال الحجر الغربي، وامرأة في وسط الوادي ترفع رأسها عاليا للسماء مخاطبة الشمس أن تشرق لتنشر دفأها على المكان وما حوله. غير أن توسلات الاثنين لم تجد نفعا فلم تنفك تلك السحب أن تنقشع ولم تنفك المرأة عن إكمال مسيرها الجبلي وسط ظلام دامس لف المكان.

طلق ناري من مسدس حمله مسؤول حكومي في أسفل التلة أذن لبحر الجموع المحتشدة أن تنطلق باتجاه مقصدها، صيحات الحماس والتصفيق والتشجيع ألهبت الجميع فانطلقوا نحو الهدف. الهدف هو بلوغ القمة أولا ثم الانحدار منها الى الضفة الأخرى حيث يقع خط النهاية، مغامرة أقل ما يقال عنها إنها ضرب من الجنون. هرولة، جري، تسلق بالحبال وصعود للجبال ليومين متواصلين وبدون توقف فقط لالتقاط الأنفاس وشرب قليل من الماء، لا يهم الوقت إن كان منتصف ليل أو منتصف نهار المهم بلوغ القمة والفوز بالسباق. يا له من فوز مجنون.

في أعلى القمة وبارتفاع أكثر من ألفي قدم عن سطح الأرض أناظر من نافذة فندقي الفخم ذي النجمات الأرضية الخمس مهابة الطبيعة وكبرياءها، فألقى عظيم يقطع الجبل الى نصفين وجبال صماء تردد صدى صوتي الهامس بأن يكلأ الله المتسابقين الأربعمائة وخمسة وخمسين الذين قدموا من بقاع الأرض المختلفة من خمس وستين دولة قدموا إلى أرض عمان للمغامرة وتحقيق حلم طالما أراد كل منهم أن يكون الأول في سباق تحدي الجري الجبلي العالمي « ألترا تريل مون بلان».

الممرضة السويسرية أندريا هوسر راكبة دراجات هوائية جبلية وبطلة للطواف العالمي في العام الماضي تناظر السحب الكثيفة من وسط وادي بني حبيب في الجبل الأخضر، تترجى تلك الشمس الخجلى أن تبزغ لتشعرها ببعض الدفء حيث انخفضت درجة الحرارة في تلك الليلة إلى ما يقارب العشر درجات مئوية وهو أمر قد اعتادته هوسر في جبال الألب السويسرية التي قدمت منها لكن ما يقسو عليها اليوم وسط جبال الحجر هو شدة البرودة مع التضاريس الوعرة التي تتطلب تسلق جبالها بالحبال حتى تصل الى أعلى القمة.

هو سر بدأت السباق ولا تزال في المقدمة فهي من القلة القليلة المتبقية التي لم تنسحب من سباق القدرة هذا، وتمني نفسها بأن تتصدر صورتها غلاف مجلة « رنارز» Runner›s او تحظى بكلمات الشكر والثناء من مولان بلان العالمية.

• • •

أفواج من حجاج الجبل الأخضر وزواره يصعدون قمته كل يوم، يأسرهم سحر جباله، وعذوبة أرضه، وطيبة أهله، وبهاء طلته وجمال مزروعاته. أفواج من سيارات الدفع الرباعي تزحف فوق الطريق الملتوي الملتف على جبال الحجر وكأنه أفعى ذات أجراس. يحذرك أفراد الشرطة المتمركزين على السفح من القيادة بسرعة عالية عند الصعود ومن التمهل عند الهبوط ويسدون نصائحهم وإرشاداتهم للزائر أول مرة للجبل كي ينعم برحلة هائنة، فالطريق الذي يمتد بطول ستة وثلاثين كيلو مترا لا يستغرق سوى نصف ساعة أو أكثر قليلا للصعود أو الهبوط منه.

مناظر خلابة تأسر الصاعد إلى أعلى قمم الجبل الأخضر البالغ ارتفاعها اكثر من ثلاثة آلاف متر عن سطح البحر حيث تنخفض درجات الحرارة صيفا وشتاء لتصل الى ما تحت الصفر مع نهايات ديسمبر، وفي الصيف تزهر أشجار الرمان والخوخ والمشمش والجوز، وفي الربيع حيث يغدو وجه الارض أخضر يكتسي الجبل باللون الاحمر فيزهر وينبت الورد الجبلي وتتفتح براعمه لتقوم عليها صناعة محلية تقليدية هي تقطير ماء الورد.

• • •

بدور الصالحية ونظيرة الحارثية وحميدة الجابرية ثلاث متسابقات عمانيات خضن سباقات محلية وعالمية عديدة وحفرن أسماءهن في سجل بعض الماراثونات والسباقات، لكن إصرارهن في الاشتراك في هذا سباق ملان بلان أضاف له طعما ومذاقا آخر، فالمتسابقون العمانيون التسعة والستون ومنذ انطلاق شارة البدء كانوا في صدارة المتسابقين وتصدروا المراكز الأولى في مراحله الأولى، غير أن قسوة المناخ والتضاريس حدت بالكثير منهم الى العودة من حيث أتوا والاكتفاء بشرف المشاركة في هذا الحدث العالمي.

لم يكن في قاموس مستشارة الأطفال المعوقين والعداءة الأمريكية ميرديث إدواردز الأكثر شهرة في بلادها الولايات المتحدة كعداءة ومتزلجة جليد أن تأتي إلى الجبل الأخضر من دون أن تحصل على اللقب الأول فهي قد حصلت عليه العام الماضي ويراودها الأمل ذاته أن تخرج من سلطنة عمان وقد حققت إنجازها الثاني على الرغم عن صعوبة التضاريس والبيئة الجبلية المختلفة عن البيئات التي اعتادت التمرن والسباق فيها.

• • •

دردشة قصيرة مع معالي محمد التوبي وزير البيئة والشؤون المناخية بعد إعطائه إشارة البدء لانطلاقة السباق وبابتسامته المعهودة عرض علينا - كعادة أهل القرى - تناول القهوة في منزله ببركة الموز، لكن إغراء صعود الجبل الأخضر حال دون قبول دعوته هذه المرة مع وعد بلقاء في يوم آخر قد يكون في قريته المناخر التي خرج منها المتموضعة على قمة الجبل الأخضر والتي تشتهر بزراعة أشجار الفاكهة على مدرجاتها الزراعية كالجوز والرمان والخوخ والمشمش والتين، وتبدو بيوتاتها الصغيرة وكأنها معقلة بين السماء والأرض في مشهد يخطف الألباب ويشعرك برهبة وهيبة وقدسية المكان.

• • •

محطات السباق العشر التي انطلقت بالقرب من حصن بيت الرديدة الأثري ببركة الموز في السابعة والنصف مساء الخميس التاسع والعشرين من نوفمبر وانتهت محطتها العاشرة في ولاية الحمراء في يوم الجمعة الأول من ديسمبر في أقل من عشرين ساعة أي قبل الموعد المخطط له بيوم كامل وهو رقم يعتبر جيدا في مقاييس سباقات الماراثونات العالمية حيث مر المتسابقون بقرى وأودية الجبل الأخضر مثل سلوت ووادي بني حبيب والحيلات وفندق أليلا وقيوت وشرفة العلمين وبلد سيت قبل أن ينتهي بهم المطاف في ولاية الحمراء قطع خلالها المتسابقون مائة وسبعة وثلاثين كيلو مترا متواصلة دون توقف.

عداؤون من بقاع العالم جاءوا إلى عمان تزيد أعمار بعضهم عن الستين عاما رغبة منهم في حفر أسمائهم في جبال عمان الصماء كما فعل العداء الألماني جيرالد بلوميرش الذي وصل إلى خط النهاية بعد أن قطع المسافة في ثلاث وثلاثين ساعة وحظي بتسجيل اسمه في فئة الماستر لمن تزيد أعمارهم عن الستين عاما.

جيسون شيلارب الامريكي كان قد حقق لقب أفضل متسابق أمريكي في نسخة ألترا تريل مون بلان لعام 2014 ، وقبيل سفره عاهد نفسه أن يتحدى نفسه بأن يحطم رقمه السابق وأن يكون في صدارة سباق الجبل الأخضر لهذا العام، غير أن المنافسة الشديدة من باقي المتسابقين العالميين من أمثال الليتواني جيديمينياس جرينيوس البالغ من العمر 39 سنة وبطل سباقات ألترا تريل العالمية لعام 2016، والسويسري دييجو بازوس والذي سبق له تحقيق الفوز في تحدّي 42 كيلومترا لم يتركا له فرصة كبيرة للتفرد بالفوز وتصدر السباق، إلا أن عزيمته القوية ومرانه المستمر على مدى اثني عشر شهرا في بيئات قاسية جعلت منه عداء لا يشق له غبار كما يقول المثل العربي وهذا ما ساعده في إنهاء السباق في عشرين ساعة وخمسة وأربعين دقيقة متشاركا المركز الأول في فئة الرجال مع العداء السويسري دييجو بازوس.

مستشارة الأطفال المعوقين ميرديث إدواردز قهرتها جبال عمان وأوديتها فلم تستطع تحقيق رقمها السابق فحلت ثالثا في فئة الإناث في هذا السباق بعد أن تقدمتها البريطانية آن ماري واتسون التي حلت في المركز الاول بعد أن قطعت مسافة السباق في ستة وعشرين ساعة وعشرين دقيقة وجاءت الهنغارية ألديكو ورمشر في المركز الثاني.

• • •

الابتعاد قليلا عن نمطية الحياة اليومية والاقتراب أكثر من الطبيعة وما تمنحه من طاقات إيجابية لتجديد الحياة والنشاط ربما هو ما يزيد من شغف أولئك المتسابقين لمواصلة سباقاتهم نحو القمة ويجدد لديهم الحافز من أن هنالك عوالم جديدة لا تزال بحاجة إلى سبر أغوارها، وقد كانت تجربة مشاهدة سباق ماراثون مون بلان في نسخته الاولى في السلطنة بالنسبة لي فرصة لمعرفة الذات والتقرب من الطبيعة وفك ألغاز شغف الرياضيين بالرياضة.