المنوعات

«أحاديث عن جذور الحكمة» خلاصة فلسفية لقيم النفس والعالم

30 نوفمبر 2018
30 نوفمبر 2018

يُمثّل كِتاب أحاديث عن جذورِ الحِكْمَة الصادر حديثاً عن مؤسّسة الفكر العربي، للمُفكّر الصيني المعروف هونغ ينغ مينغ، وهو من أسرة مينغ الملكيّة، وقد ترجمه إلى العربية البروفسور وانغ يويونغ (فيصل)، الخُلاصة الفلسفية للكنفوشيوسية والبوذية والطاوية، جامعاً في بوتقة واحدة، جُملة من القيم المُهمّة مثل تهذيب النّفس، والتعامل مع العالَم، والزهد، فضلاً عن الدعوة إلى الخير، والاستقامة والأمانة، والرحمة والشهامة، وتربية الأخلاق وتنمية الفضائل. ويتّخذ المؤلّف من تهذيب النّفس وتغذية الفطرة مبدأ أساسيّاً له، بدءاً من تهذيب الذات وتنظيم العائلة، وصولاً إلى تنظيم الدولة وتحقيق الاستقرار في العالَم، شاملاً ظواهر العالَم كلّها، مُحلّلاً مهارات التعامل مع العالَم والتعايش مع الناس، وملخّصاً التجارب والخبرات في نجاح الأعمال وفشلها، ومُبيّناً جوهر تهذيب النفس وتغذية الفطرة، والتمييز بين الصواب والخطأ في طلب العِلم وفَهْم الطّاو، موضحاً أسرار الحياة والموت والشهرة والثروة وألغازها.

طمحَ المؤلّف في بداياته إلى تحقيق المَكانة والشهرة، بَيْد أنّه صار في أواخر عمره ناسِكاً يُقيم في الجبل تارة وفي الغابة تارة أخرى، وقد سَكَن في منطقة نهر تشين هواي، عاكفاً على دراسة المؤلّفات وكِتابة المقالات، ليُعبّر عمّا يتعلّق بالحياة من تجارب ومَشاعِر وأحاسيس وآراء وأفكار، جَمَعتْ بين وسطيّة أفكار المدرسة الكنفوشيوسيّة واعتدالها، وأفكار العزوف عن الدنيا في الديانة البوذيّة، وأفكار «عدم الفعل» في المدرسة الطّاويّة، حتى تمّ بها تأليف كِتاب حافل بأقوالٍ مأثورة وحِكَم فلسفية وفكرية.

يشكّل كِتاب أحاديث عن جُذورِ الحكمة مع كِتاب مُسامرات بجِوار المَوقِد وكِتاب خواطِر بجوارِ النافِذة، المُؤلّفات الثلاثة البارِزة التي صدرتْ في أسرتيْ مينغ وتشينغ الملكيّتيْن الصينيّتيْن، ودارَ موضوعُها حول كيفيّة التعامل مع العالَم. لكنّ هذا الكِتاب لم يحْظَ في الصين بالرواج بعد صدوره إلّا لمدّةٍ قصيرةٍ جداً، فاقتصر انتشارُه على بعض الرهبان والنَاسكين والمُثقّفين الكنفوشيوسيّين فقط، وكان يظهر تارة ويختفي تارة أخرى على مدى مئات السنين الماضية، حتّى أوشك أنْ يَضيع تماماً.

أمّا في اليابان، فقد لقي رواجاً كبيراً بين الطبقات الاجتماعية المختلفة بعد انتقاله إليها في زمن حكم وانلي، وهو من أسرة مينغ الملكيّة الصينيّة، وتمّت إعادةُ طباعتِه مرّات عدّة. وفي العام 1987، نشرت «مجلّة العالَم» Globe Magazine مقالةً، اعتبرت فيها أنّ إقبال رجال الأعمال اليابانيّين على مُطالَعة كِتاب أحاديث عن جذورِ الحِكْمَة، أثار حماسة الشعب الياباني لقراءته، ما أَحدَث صدىً كبيراً في الصين، فتمّت إعادة طباعة الكِتاب، الذي أخذ الباحثون الصينيّون يبحثون في قيمه العلمية والاجتماعية، وقد زاد عدد طبعاته الحاليّة بعد تعاقب العصور على 20 طبعةً، آلتْ عبْرَ تناقلها وتوارثها بطريقة تدريجيّة إلى طبعتيْن كبيرتيْن، وهُما طبعة أسرة مينغ الملكيّة وأخرى لأسرة تشينغ الملكيّة.

الكِتاب لم يشهد أيّ تغيير في طبيعته، بل ظلّ مجموعة من الحِكم والأقوال المأثورة حول تهذيب النَّفس والتعامل مع العالَم، وأعطى، بكلّ ما طرأ عليه من تغيّرات في أثناء تناقله وتوارثه، دليلاً قاطعاً على أنّ الناس في العالَم، أخذوا يهتمّون به اهتماماً بالِغاً. لقد ضمّت النسخة العربية هذه، 575 حديثاً، مقسّمةً بحسب مضامينها على أربعة أبواب، وهي: باب تهذيب النّفس وتقوية العزيمة، باب طلب العِلم وفهْم الطَّاو، باب التعايش مع الناس والتعامل مع العالَم، باب ضبط النّفس وتنبيه الذّات.

أمّا عنوانُ الكتاب بالأصل في اللّغة الصينية فهو أحاديث عن جذور الخضار، وقد جاءت تسميته من مَصادر عدّة، منها ممّا قاله المُفكّر الكنفوشيوسيّ وانغ شين مين من أسرة سونغ الملكيّة: «مَنْ يَقضِمْ جذور الخضار دائماً، يكُنْ قادراً على إنجاز كلّ أمر»؛ ومنها ممّا كتبه يوي كونغ جيان مينغ، «إنّ الأحاديث تُسَمَّى بجذور الخضار، لأنّ جذور الخضار تُسْتَخْلَص أصْلاً بعد المشقَة والتّعب، وتُستخرج أيْضاً بعد الغَرْس والريّ، فمِن المتوقّع أنّها قد تعذّبتْ بالرياح والعواصف، وتعرَّضتْ للرزايا والبلايا». وقال عنه الرئيس الصينيّ الراحل ماو تسي تونغ: «مَن يفهمْ الأحاديث عن جذورِ الخُضار، يعرفْ حياة الإنسان وروائحها المُتنوّعة، ويستطعْ أنْ يُثبّت قدمَيْه في الرياح الهاوية، ويرجعْ أدراجَه عند الطُّرق الخطرة».

بيدَ أنّ تسمية هذا الكتابَ قد يكون لها غرض آخر، لأنّ جذور الخضار رخيصة السعر، لا يأبه بها أصحابُ السلطة والثروة، وهي أطعمة يتعوّد عليها الناسُ البسطاء، الذين لا يُحبّون رميها، بل يخلطونها بالخضار. لذلك كان هونغ ينغ مينغ يُؤمن بأنّ ما هو أكثر بساطةً ووضاعة قد يكون أفضل، لأنّه أقرب إلى الطبيعة والفطرة، وأقلّ عرضةً للتلويث المُتعمّد، فقد تكرّرت هذه الفكرة في الكِتاب كلّه، ومن أمثلتها: «الطعام اللّذيذ حقّاً ليس ما هو مُعتّق دَسِم ولاذع حلو، بل ما هو بسيط فقط؛ والإنسان العظيم حقّاً ليس مَن هو ساحر فائق، بل مَنْ هو بسيط فقط، والنَاسك الذي يقطن في الجبل والغابة هو زاهد مُتقشّف، لكنّه يتمتّع بما يُرْضِيه من الراحة واللذّة».

تعني كلّ الأقوال السابقة أنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يُكمل مَواهبه وأخلاقه إلّا بعد مروره بما هو مُؤلِم من الشحذ والصقل، وتُشير مُفردة «قضم جذور الخضار» إلى أنّه على الإنسان أنْ يقتنع بفطرته الطبيعيّة ويطمئنّ إلى حياته الفقيرة، ويبتهج بمساعيه للطَّاو، ويُحاول أنْ يجد الأذواق الحقيقيّة غير المحدودة في جذور الخضار البسيطة وغير اللّذيذة، ويُقرّب نفسَه من طموحاته الكبيرة ويُحقّق الإنجازات.