Randa-New
Randa-New
أعمدة

عطر: لا وقت للغزل

28 نوفمبر 2018
28 نوفمبر 2018

رندة صادق -

[email protected] -

الغزل فن من فنون الشعر الذي غذى الأدب العربي، وترك شعراءه مئات آلاف الأبيات التي تصف جمال المرأة وتتشبب بها وبميزاتها من حُسن وحديث وحتى تفاصيل جسدية خاصة، وهو قد يكون ندبا من فراق أوتوقا للقاء منتظر.

انقسم الغزل إلى قسمين: “الغزل العذري أو الغزل العفيف أو الغزل البدوي، والغزل الصريح أو الغزل الحضري” لكن هل من المصادفة أن نجد كلمة أخرى بمعنى (نسج) أي غَزَل الصوف والقماش لتخرج بنهاية الأمر قطعة متماسكة لها وصفها وبعدها الحسي؟ أم أنها اللغة العربية ومصادفاتها وجمالياتها التي لا نستطيع أن نحدد أبعادها أو نحدد مرادفاتها، بخلاف اللغات الأخرى التي لا تملك هذه المتشعبات.

وكوننا شعوب عاطفية تتمحور قضاياها بأناها وبردات فعلها العاطفية، نجد أن نصف الإرث الأدبي في تاريخنا هو بفن الغزل، وكأن الهجر والرغبة والشوق كانت أكبر مشاكلنا، وسنجد من جهة أخرى أن هذا الفن الذي يعود إلى زمن الجاهلية، وهنا أتحفظ على الكلمة لأنها تستخدم بوصف كامل لحقبة ما قبل ظهور الإسلام، وهذا يسلخ عن هذه الحقبة أي ميزة ويصفها بأنها ظلام مطلق، وهي بالطبع ظلام وجهل وجاهلية دينية، أما على صعيد الإبداع لا يمكننا تجاهل الإرث الأدبي والإنساني الذي انتجته هذه الحقبة، خاصة أن الغزل بهذا الزمن كانت بطلته المرأة العربية وحدها من الجاهلية إلى العصر العباسي، حيث دخلت نساء الفرس والأتراك والروم، ولم تعد المرأة العربية ملكة الجمال والإثارة الفكرية بانطباع الشاعر العربي.

ونحن لا نجد فن الغزل بشكل واضح في الشعر الغربي الذي يعتمد لغة اكثر رمزية في طروحاته، أما بالنسبة للقصيدة العربية فلقد ظلت تتبع أوزانا وقوالب غير مسموح الخروج عنها، لأن حينها يفقد الشاعر شاعريته، ولم يتغير ذلك إلا عندما بدأت ترجمة الشعر الغربي، حيث تأثر بها شعراء الحداثة ومن أهمهم (جبران خليل جبران ونزار قباني ومحمود درويش) وآخرون كثر، لكن مع هذا لا بد أن نشير إلى أن الشاعر العربي تأثر بالمتغيرات السياسية والأزمات الوجودية التي يعيشها في محيطه، فمن زمن النصر والتغني بالإنجازات إلى زمن الهزائم المتتالية والضغوطات اليومية التي حولت الشعراء عن موضوع الغزل، وبات لا وقت لديهم مع كم الأحداث اليومية التي يتفاعلون معها في يومياتهم، وتنامي حدودهم المعرفية عن طريق الانفتاح على الثقافات الأخرى والقضايا خارج المجتمع العربي، فتراجع هذا الخطاب في الشعر الحديث وتصدرت مواضيع أخرى، فكانت الرمزية بالشعر إما خوفا من الأنظمة أو لبعث الحماس في فكرة تقبل التأويل.

ربما لم يعد هناك وقت للغزل وللحب، لم يعد هناك صفاء روحي يستمد الإيجابية من الجمال، فالإنسان المعاصر لا يملك الوقت لكل تلك التفاصيل التي كان يصورها الشاعر في تاريخنا. الشعر اليوم بات كالوجبات السريعة الدخيلة على مطابخنا العربية قد تسبب عسر الهضم كونها غنية بوحدات حرارية مشبعة بالدهون، وهذا بالفعل ما نراه اليوم في الشعر الحديث، حيث لا نفهم بأحيان كثيرة إلى أين يقودنا النص، نعم تحرر الشعر من التقليدية، ولكنه أيضا فتح الأبواب على مصرعيها لطفيليين لا علاقة لهم بالشعر ولا حتى بالنثر .

الغزل هذا الفن بات تراثا ودخل في أدراج التاريخ، وما نراه اليوم هو محاولات فردية لإحياء هذا النمط من الكتابة قبل أن يدخل مرحلة الانقراض، ونحن غالبا نجده عند المتخصصين في اللغة أو عند قلة نادرة تقرضه بالفطرة، مع كل هذا الزحف الفكري والمادي عذرا أيها الشعر لا وقت للغزل.