أفكار وآراء

الصين .. القطبية الأممية القادمة

16 نوفمبر 2018
16 نوفمبر 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

أحد أهم الأسئلة المطروحة على الساحة الدولية في العقدين الأخيرين هو ذاك المتعلق بالتجربة الصينية، وكيف استطاعت الصين أن تنهض بشكل غير مسبوق، بل وأن تضحى القطب القادم على الساحة الدولية ؟

لتقديم إجابة على السؤال المتقدم لا يكفي أن ننظر إلى حاضر الصين ولا إلى التجربة الصينية منذ زمن ماوتسي تونج وحتى زمن الرئيس “ شي جين بينغ “ الذي غير الحزب الشيوعي الصيني دستور البلاد من اجل أن يعطيه فرصة لأن يضحى رئيسا للبلاد إلى اجل غير مسمى، بل يتعين علينا أن نلقي نظرة تاريخية فلسفية سريعة على ماضي الصين الذي يزخم حاضرها. يطلق على الصين في لغة البلاد الأم، الملكوت المركزي أو الملكوت الأوسط، ومعنى ذلك أن الصينيين منذ بدايات التاريخ يرون انفسهم شعبا يختلف عما سواهم من الشعوب.

في هذا الإطار يمكن للمرء الراغب في معرفة وتعميق علاقته بالصين أن يمضي وراء فلسفة حكيم الصين الأعظم “كونفوشيوس، ذلك انه الركيزة الأساسية في فهم كيف تمضي الصين، وتسير حول العالم طوال الأزمنة، فهي غير مدفوعة برغبة في الانتقام على سبيل المثال بسرعة قاتلة تضرها اكثر ما تفيدها، بل هي تسعى رويدا رويدا لتحقيق أهدافها، ولذلك تحقق نجاحات كبرى على مستوى العالم، وفي كل المناحي اقتصاديا وسياسيا، عسكريا واجتماعيا، بل أن أهم ما يميز المجتمع الصيني هو تماسكه الداخلي غير المسبوق، فالسبيكة الاجتماعية الصينية قل أن يوجد مثال لها حول العالم .

يقول “ كونفوشيوس “ في كتاباته :” إن كان لك عدو فلا تسعى للانتقام سريعا منه، بل اجلس على حافة النهر هادئا وستجد جثته آتية طافية على وجه المياه حيث انت “

أما افضل منظر استراتيجي للحروب عرفه العالم فهو الصيني “ صن تزو “ صاحب الكتاب التاريخي الكبير والأشهر “ فن الحرب “، والذي فيه يوصي الصينيين بانه ليس عليهم السعي للدخول في الحروب والمواجهات الحربية وافتعال البطولات، ويؤكد على أن كسب معركة واحدة بالسلم افضل من كسب ألف معركة بالحرب. والشاهد أن الحضارة الغربية مبنية على التفكير الأرسطي أي على مبدأ الأحادية وفيه أن الظاهرة هي الظاهرة وخارج الظاهرة هو اللاظاهرة والظاهرة وخارجها يتصارعان مما ينتج معه ظاهرة جديدة، والتفكير الغربي في جزء كبير منه يواكب النمط السائد في الغرب بينما التفكير الشرقي الآسيوي والذي هو كونفوشي في الأساس فيرى أن الوجود “ كل “ وان التناقض هو جوهر الوجود، ولا يوجد وجود بدون تناقض ويمكن تحريك مراكز التناقض من اليمين لليسار، أو العكس بدون استبعاد الآخرين، وهذا يقتضي قدرا عاليا جدا من القدرة على التعايش والقدرة على ممارسة التحريك دون الهيمنة لذا فان النموذج الصيني بدل التفتيت يطرح الوحدة، والأساس عنده الجماعة لا الفرد، والوحدة بدلا عن الفرقة، ويرى أن الصراعات لا تحدث وحدة ويتطلع دائما للحفاظ على جميع عناصر تكوين المجتمع حتى ولو كانت مختلفة، وبالتالي هناك استمرارية خارقة، وتعبئة دائمة، والتعبئة والاستمرارية أمران نحن في أمس الحاجة إليهما في العالم العربي، واقتدائنا بالنموذج الصيني يقودنا ولا شك لنجاحات مماثلة وبعيدا عن فكرة الأحادية الأرسطية الغربية التصادمية. في نوفمبر 2012 اتخذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني تخطيطا استراتيجيا لتعميق الإصلاح على نحو شامل. وبعد سنة واحدة، أجريت الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الثامنة عشرة للحزب الشيوعي الصيني بحثا متعمقا في سلسلة من الموضوعات الحيوية بشأن تعميق الإصلاح على نحو شامل، حيث طرحت الهدف العام لتعميق الإصلاح، وترتيب المهمات الرئيسية والإجراءات الهامة للإصلاح، ووضعت الجدول الزمني وخريطة الطريق لذلك. ما الذي يتبين لنا من التجربة الصينية ؟

الثابت أن عملية الإصلاح والانفتاح التي نفذتها وتنفذها الصين منذ 35 عاما، قد دخلت مرحلة جديدة باعتبار أن هذه الدورة علامة لها . لذا فان تعميق الإصلاح على نحو شامل في الصين سيوفر قوة دفع لبناء تحديثات الاشتراكية الصينية، وسيجلب أيضا فرصا تنموية جديدة للعالم.

ومنذ انعقاد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، قدم شي جين بينغ الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس الصين، سلسلة من الإيضاحات الهامة : لتأليف هذا الكتاب الذي اختيرت محتوياته من ما يزيد عن 70 وثيقة هامة على صورة كلمات شي جين بينغ وخطاباته وتعليقاته وتوجيهاته في الفترة من 15 نوفمبر 2012 حتى أول أبريل 2014 . ينقسم الكتاب إلى 12 موضوعا تتضمن ما إجماليه 274 قطعة من مقتطفات الأقوال، ينشر بعضها لأول مرة، ومن خلالها يتضح للقارئ العربي بنوع خاص الخلفية والأهداف والمهمات والمغزى والتأثيرات لتعميق الإصلاح على نحو شامل في الصين، وذلك من خلال الأقوال الموثوقة للزعيم الصيني الأعلى. لماذا الحديث الآن عن الصين وهل الحديث مرده أنها القطب القادم دون أدنى شك لمجابهة ومواجهة القطب الأمريكي المنفرد بمقدرات العالم، حتى وان لم يعن ذلك الدخول في حرب مع واشنطن؟

في مقدمة الكتاب الشيقة يؤكد المترجم على أن نهضة الصين ليست نهضة دولة عادية، بل هي نهضة خمس سكان العالم. إنها نهضة دولة متحضرة ذات تاريخ طويل وارض شاسعة. ولقد حدثت العديد من المشكلات التي تواجهها الصين اليوم من قبل في فترات نشأة الغرب، فخلال الثورات الصناعية في أوروبا، كانت هناك فجوات هائلة بين الفقراء والأغنياء، وظلم اجتماعي وفساد مستفحل ونهب عنيف، ولكن بالمقارنة في الصين اليوم، كان بإمكان القوى الغربية حينها “ حل “ مشكلاتها بسهولة نسبية، فعلى سبيل المثال، كان بإمكان بريطانيا كقوة عظمى أن تضع كل “ قواعد اللعبة “ السياسية والاقتصادية العالمية، ولم يكن الأمر مهما كثيرا، عندما كانت الفجوة بين الفقراء والأغنياء اكبر بعشرات المرات من تلك الفجوة الموجودة اليوم في الصين، حيث كانت ممارسة إشراك ملايين العمال غير البارعين أمرا قانونيا .

على أن السؤال المهم : هو “ هل نهضة الصين أمر موصول بها هي فقط أم أن تبعاته واستحقاقاته الاقتصادية منسحبة على بقية العالم ؟

المؤكد أن نهضة الصين أدت إلى تحقيق كثير من الفوائد المادية لكل من الصين والعالم بوجه عام، حيث أصبحت الدولة محرك النمو الاقتصادي في العالم، وانطلاقا من وجهة النظر تلك، يعد نجاح الصين والنموذج الذي يدعم نجاحها أمرين عظيمين ولا يقدران بثمن . بفضل اجتهادهم وتضحيتهم وحكمتهم، احدث الصينيون معجزة وكانوا روادا بنموذج التنمية الخاصة بهم، مما أدى إلى إعداد الصين للتعامل مع تحديات أخرى في السنوات المقبلة وفتح آفاق واسعة لمستقبل الصين .

سؤال آخر في طريقنا ونحن نقرأ بعمق هذا العمل المتميز ويدور حول الهدف العام من الإصلاح في الصين وكيف يمضي .. ماذا عن ذلك ؟ الجواب على لسان الرئيس “بينغ “ هو أن الهدف العام لتعميق الإصلاح على نحو شامل هو تحسين وتطوير نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية ودفع عجلة تحديث نظام حكم الدولة والقدرة على حكمها .

وعند “ بينغ “ أيضا انه لابد من المثابرة على تحسين وتطوير نظام اشتراكي سياسي يمثل نموذج حكم اكثر نضوجا وتبلورا في كافة النواحي . يسال “ بينغ “ دوما الشعب الصيني قائلا :” إن تحقيق التناغم والاستقرار للمجتمع والاستقرار السياسي الدائم للدولة فعليا، يتوقف على النظام وقدرتنا الفائقة على حكم الدولة، وكتائب الكوادر عالية الكفاءة، وانه إذا اردنا الاستفادة من تفوق نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية على نحو افضل، ينبغي لنا دفع عجلة تحديث نظام حكم الدولة والقدرة على حكمها في كل المجالات .

الكتاب الذي بين ايدينا يلخص أفكار ورؤية الصين للإصلاح الشامل وهو المنهج الذي طرحه الرئيس الصيني فالإصلاح الشامل يعني الإصلاح من الجذور، والإصلاح من القواعد الصغيرة ووحدات الدولة والمجتمع .

إصلاح يشمل كل ما يهم حياة المواطن الصيني من ظروف معيشية وخدمات أساسية ودخل عادل ووسائل نقل جيدة، وحكومة رشيدة تخدم ذلك وتحققه، ودولة قوية يفخر بها .

هل يلعب “ بينغ “ بنوع خاص دورا متميزا في نهضة الصين هذه الأيام ؟

يمكن القطع بان ذلك كذلك فعلا، وتتمثل أهمية أفكار الرئيس الصيني في أنها لا تمثله كشخص فقط، ولكن تمثل الدولة الصينية بأكملها، فنظام الحكم في الصين يختلف عن أي دولة في العالم، حيث انه نظام حكم جماعي يتبع نظام الانتخاب والتكليف، ويمكن أن نقول إن هناك سبعة هم أعضاء اللجنة الدائمة باللجنة المركزية للحزب هم من يحكمون الصين، ويرأسهم “ شي جين بينغ “، ولكن ليس له حق إقالتهم إلا بقرار من اللجنة المركزية مجتمعة .

لذلك فما يقوله ويطرحه الرئيس هي أفكار اللجنة المركزية للحزب وأفكار الحكومة الصينية التي هي جزء من الحزب، والرئيس الصيني يتميز بانه دائم التعلم ويتلقى المحاضرات الدائمة من الخبراء والباحثين ليكون على اطلاع دائم بمجريات الأمور.

على أن مسيرة وإصلاح الصين لابد وان تزعج الكثيرين حول العالم ومن هنا ينبغي أن نتأمل بشكل عميق كيف تواجه الصين محاولات إفشال الإصلاح الذي تسعى إليه منذ اكثر من ثلاثة عقود.

يمكن وباختصار الإشارة إلى أربعة عناصر نستطيع من خلالها معرفة الروح التي تقوم بها الصين بهذا الإصلاح وذلك التجديد والابتكار ويمكن إجمالها في النقاط التالية :

1- أولوية الجماعة ( الأسرة، الأمة، الدولة ) بالنسبة للفرد، ومن ثم أهمية الروح الجماعية مقارنة بالروح الفردية، مما يتيح ساحة فسيحة للتضامن والقوة والاستمرارية المجتمعية القومية .

2- التنمية بمفهومها الإنساني والاجتماعي الشامل دون الاقتصار على البعد الاقتصادي وحده .

3- السلام على أساس العدالة واحترام الخصوصية الثقافية والسيادة السياسية على مستوى المجتمع الدولي مما يتعدى مفهوم اللاحرب وكذا يرفض الهيمنة.

4- التمسك بالبعد الروحي مع التأكيد على أولوية سلم القيم الأخلاقية.

ولأن الصين هي القطب القادم الذي سيزاحم الولايات المتحدة الأمريكية لذا لم يكن الأمريكيون ليريدوا أحدا ينازعهم السيطرة على الكون، غير أن الصين بدت من حيث العدة والعتاد والبشر قطبا قادما لا شك، وقتها اتخذ الأمريكيون قرارا استراتيجيا غير معلن بإجهاض صعود الصين وحدث أن هذا القرار تقاطع مع الشرق الأوسط وعودة الأمريكيين إليه من جديد.