أفكار وآراء

المألوف و«العادي» .. ومكمن العبقرية العُمانية !

06 نوفمبر 2018
06 نوفمبر 2018

علي الصراف -

شيء ما في هذا البلد يجعلك تنظر في نفسك. شيءٌ تراه بعين القلب والعقل، ولكنك لن تستطيع أن تُبصره إبصار المرئي. تجده في كل مكان، ولكنك لن تستطيع أن تجالسه كصديق. سيقال إنك مجنون وتتحدث مع نفسك بصوت مسموع.

كدت أقع في ذلك، يوما ما، لولا أن أنجيتُ من زخم الدهشة التي يمكن للبساطة أن تصنعها بين الناس لتبدو وكأنها صدر رحب.

صدقُ السريرة شيءٌ «عادي» في هذا البلد. وعذوبةُ الآصرة بين الناس، شيءٌ «عادي» آخر. وأن تجد نفسك ذائبا في محيط لا يُميزك، شيءٌ «عادي» أيضا. كلُّ الأشياء ذات الطبيعة الإنسانية الخالصة، عاديةٌ هناك، حتى لكأن المجتمع لا يستسيغ أن يكون الطيّب والبسيط والسهل إلا مألوفا الى درجة أن يُصبح عاديا. تتبصره ولا تراه. ولا تجالسه إلا مع نفسك.

لو كانت تلك الطبيعة تجري كمجرى الماء، ولو بين حجارة خشنة، فمن ذا الذي يحتاج الى أي استثناء؟ وهل للطبيعة الإنسانية، إذا جرت على طبيعتها بالذات، أن تكون استثناءً، من دون أن يعني ذلك أن العالم يغرق، بالأحرى، في بؤس شديد؟

ما يثير هذه المفارقة، هو أن البؤس إذ يجولُ بين ضفافٍ شتى في عالم اليوم، فإنه يجعل الطبائع الإنسانية الأصيلة تبدو وكأنها نوعٌ من العجب العجاب.

لو حدث وتأملتَ في بقع من الأرض دون سواها، فقد تجد أن الله عز وجل، خلق جنّاتٍ على الأرض وهو يعلم أن الكثير من البشر سوف يحيطونها بأنماط شتى من الجحيم. ذلك هو عالم اليوم. إنه عالمُ حروبٍ ومنازعاتٍ وصراعاتٍ شرسة، أين منها ما خَشيتْ منه الملائكة من فساد وسفك دماء، ساعة قال لها سبحانه «إني أعلم ما لا تعلمون».

عُمانُ واحدةٌ من تلك الجنات. هكذا غدتْ. ولكن ليس بما أغدقت على نفسها من الحدائق الغناء، أو الخضرة الفسيحة، وإنما بما أغدقت به على نفسها من طبيعتها الأخرى، من بساطة «العاديّات» التي تجعل من البشر بشرا، وتجعلهم قادرين على أن يُخضعوا الصخر لطبيعتهم هم بدلا من العكس.

ها هنا مكمن العبقرية العُمانية. وهذه هي قاعدتها التي ترسو على صخرة البقاء.

يمكن للصحراء، على سبيل المثال، أن تُصحّر النفوس. ولكن يمكن لخُضرة النفوس، أن تحيلها الى بساتين عامرة بالحياة.

منقلبٌ كهذا لا يحدثُ من دون ثقافةٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ ناضجة؛ لا يحدثُ من دون حكمةٍ دانتْ أكلها وتدلت.

ثمة في عُمان مقدار هائل من ثقافة النأي بالنفس أيضا، التي يمكن أن تدركها، فقط بالنظر الى ما تعنيه سلاسل الجبال العصية، من أثر. ولكن، اقترب، أو ترجل، وسترى ثقافة اجتماعية قادرة على أن تحتويك كليا، وأن تُلهمك السكينة والاطمئنان. وأن تبعث في نفسك ما كان في نفسك قبل أن ينقلب العالم الى مأساة.

عندما تتسعُ الحكمة، فأنت تقود سيارتك بسرعة أقل. تبتعد عن الصخب، وتميل الى احتواء الاختلاف. تُصغي. وتأنفُ من المجادلات التي لا تُفضي الى سكينة أو استقرار. وآخر ما تحتاجه هو أن تنشغل بغير ما ينحت الصخر ليجعله سالكا للماء.

وعندما تتسعُ الحكمة، فأنك تؤنسن الأشياء من حولك، أو تنأى بنفسك كل دافعٍ من دوافع الاضطراب. فإما أن ترصفَ الحجرَ، بما يجعله ليّنا، أو تترك ما خلف الطبيعة خلفها.

هذه هي حكمة المفارقة بين الطبيعة والناس في هذا البلد. طبيعةٌ خشنة، تكاد تكون نوعا من تذكيرٍ دائمٍ بعالم القسوة والعنف الذي يحيط بفسحة مختلفة. وناسٌ غلبوا بما هم فيه ليجعلوا من تلك الفسحة مجتمعا طيّبا، لا لشيء، إلا لأنه على طبيعته هو. ويكاد الاستيعاب والتسامح والقبول هو قاعدة كل الأشياء.

لا الفقر فاحش هناك ولا الغنى. والانفعال أبعد ما يكون عن الثقافة والسياسة والتعاملات.

ولئن يفخر العمانيون، بما راكموه، على مرِّ الأجيال، فانهم يفخرون بأن الحجر الذي بات ساقية للشاربين، ظل منفذا للعذوبة إذ تتدفق في الطبيعة الأولى للبشر.

لا أحقاد، ولا تطرف، ولا كراهيات. بل ولا حتى قسوة، ولا حتى مع قسوة الطبيعة نفسها.

أليس هذا بمجتمع عجيب؟ أتراه استثناءً، على نحوٍ غير معتاد؟ أتراه جاء من عالم آخر؟

أسئلةٌ كهذه هي وحدها التي سوف تجعلك تبدو غريبا، وكأن الطبيعي فيك قد فات أو انقلب على نفسه. أو كأنك انسان «غير عادي».

لقد كان يمكن لعُمان أن تكون جزءا من عالم الصخب والقسوة والعنف. ولكن الحكمة هي التي غلبت في السياسة. وغلبت الطاقةُ الاجتماعية الخلاقة التي جعلت الحجر يُصغي لمطرقة الطيبة والحنو. وغلب الانتماءُ الوطني عندما وجد نفسه قرينا لصدق السريرة، وبساطة الإخلاص لعمران تلك البقعة من الأرض.

هذه الطاقة هي التي أنتجت مبدعين في كل اتجاه. يعاركون قسوة الحياة، من دون أن يبدو أنهم يعاركونها.

شيءٌ ما في هذا البلد يجعل حتى حجارة القلب تلين.

لا أعرف مجتمعا ناقض خشونة طبيعته الجغرافية بطبيعة بديلة، مخملية المسالك، مثل المجتمع العماني.

لا أعرف بلدا أنسن نفسه، وأنسن علاقاته، وأنسن مصالحه، كسلطنة عُمان.

وما ذلك إلا أمرٌ «عاديٌّ» هناك، حتى أن أهله لا ينشغلون به، وحتى أنك إذا أشرت إليه، فستبدو كمن يشير الى الماء على أنه ماء.

عندما يُصبح الإنساني في الطبيعة البشرية شيئا «غير عادي»، ستعرف أنك تقف على بقعة أرض خشيتها الملائكة، وأنك لا تُبصر في نفسك ما يجب أن تراه، وعُمان بعيدة عنك.

فاقترب، وترجل، لتُجالس، كالعاقل، ما يُفترض أن تجالسه.