أفكار وآراء

فرنسا ترفع الغطاء عن حربها في الجزائر

04 نوفمبر 2018
04 نوفمبر 2018

سيلفي كوفمان - نيويورك تايمز -

ترجمة: قاسم مكي -

في 11 يونيو 1957 عند الساعة الحادية عشرة مساء اقتحم الجنود الفرنسيون شقة موريس أودَان في الجزائر. توافر لأستاذ الرياضيات أودن (25 عاما) ما يكفي من وقت فقط ليقول لزوجته جوزيت «اعتني بالأطفال» قبل أن يدفع به إلى الدرج اثنان من جنود المظلات.

تلك كانت آخر كلمتين سمعتهما منه زوجته التي لم تره بعدهما أبدا لاهي ولا أطفاله الثلاثة (3 سنوات وسنة ونصف السنة وشهر واحد).

وطوال 61 عاما كافحت زوجة أودان بمعاونة المثقفين الفرنسيين لمعرفة حقيقة ما حل بزوجها الذي كان عضوا في الحزب الشيوعي الجزائري وناشطا معاديا للحرب.

ذكر الجيش الفرنسي أنه هرب أثناء نقله. لكن الحقيقة كانت أشد وبالا. فقد كشف المؤرخ بيير فيدال ناكيه عام 1957 في كتاب ارتكز على روايات شهود أن أودان عذب بواسطة الجيش ومات إما بسبب تلك المعاملة أو لأنه أعدم إيجازيا. كما فُقِدَ آلاف الجزائريين بالطريقة ذاتها أثناء حربهم من أجل الاستقلال في الفترة من 1954 إلى 1962.

وطوال 60 عاما لم يكن لدى فرنسا ما تقوله حول حالات الاختفاء تلك. أخيرا وفي 13 سبتمبر الماضي زار الرئيس إيمانويل ماكرون جوزيت أودان، 87عاما، في منزلها بضاحية بانيوليه الباريسية طالبا العفو والسماح وأبلغها هي وأولادها «باسم الجمهورية الفرنسية» بما كانوا يعرفونه طوال الوقت وهو أن الرواية الرسمية كاذبة وأن فيدال ناكيه كان مصيبا على الرغم من أن السبب الدقيق لموت أودان لا يزال مجهولا.

واللافت أكثر في بيان صدر في اليوم نفسه أن ماكرون أقر بما لم يجرؤ أي رئيس فرنسي قبله على الإقرار به وهو أن التعذيب بواسطة القوات الفرنسية كان يمارس على نطاق واسع أثناء الحرب الجزائرية كنتاجٍ «لنظام مؤسس على القانون» بحسب كلمات ماكرون.

ووصف المؤرخون الفرنسيون هذا الاعتراف الذي يتجاوز قضية أودان الرمزية بأنه نقطة تحول في التاريخ الفرنسي. كما وعد الرئيس ماكرون أيضا بفتح الأرشيف الذي قد يلقي ضوءا على حالات الاختفاء. هل يمكن أن تتصالح فرنسا الرسمية أخيرا مع ماضيها الاستعماري؟ سَتُعِينُهَا على ذلك بالتأكيد حقيقة أن ماكرون هو أول رئيس فرنسي يولد بعد حرب الجزائر. وفي كل بلد إفريقي يزوره يؤكد دائما أنه كأربعيني لا يشعر بأنه يحمل على عاتقه عبء هذا الجزء من تاريخ فرنسا ويحث الشباب الإفريقي على النظر إلى المستقبل وليس الماضي. كما انقضى أكثر من نصف قرن قبل أن تقرَّ فرنسا بتواطئها في ترحيل اليهود أثناء الحرب الثانية. فعل ذلك الرئيس جاك شيراك في خطاب ألقاه عام 1995 في موقع احتجاز اليهود الذين اعتقلتهم الشرطة الفرنسية قبل إرسالهم إلى معسكرات الموت النازية.

وكان الرؤساء السابقون يؤيدون الرواية الخيالية التي تقول إن نظام فيشي وليس فرنسا هو من يتحمل مسؤولية ما اسماه شيراك «ما لا يمكن جَبْرَهُ».

لقد كان شيراك في سن لا تؤهله للاشتراك في الحرب الثانية لذلك لا يؤخذ عليه شيء يتعلق بالاحتلال الألماني لفرنسا. لكنه خدم كضابط صغير في فرنسا. وكرئيس لفرنسا تجنَّبَ التطرق إلى حرب الجزائر كموضوع سياسي.

تحتل الجزائر موقعا خاصا ومؤلما في الذاكرة الوطنية الفرنسية والعكس صحيح. وغالبا ما يتم تشبيه أثر الحرب الجزائرية على التركيبة النفسية الفرنسية بحرب فيتنام بالنسبة للأمريكيين. فكلتاهما استوجبتا التجنيد الإجباري للمواطنين وانتهتا بهزيمة مهينة. لكن «الجراح» الجزائرية المخفِيَّة كانت غائرة. فالجزائر كانت أكثر من مستعمرة بل جزء لا يتجزأ من فرنسا (في نظر الفرنسيين). ولما يزيد عن قرن ترك مئات الآلاف من المستوطنين فرنسا ليعيشوا حياة جديدة عبر البحر المتوسط. وبعد الحرب عاد أحفادهم إلى بلد لم يعرفه العديدون منهم ولم يقبلوا أبدا بخسارتهم. لقد شارك أكثر من مليون ونصف مليون مجند فرنسي في الحرب ومات 23 ألفا منهم. ومن عادوا بصدمات نفسية لزموا الصمت. هذا وأحال اقتصاد فرنسا المزدهر أعوام الستينات إلى فترة للتفاؤل وليس لحكايات الفشل.

وضمنت قوانين العفو عدم محاسبة ضباط الجيش على جرائم الحرب. رغما عن ذلك يبدو أن البلدين بينهما رباط أبدي. فالجزائر العاصمة وخليجها الفاتن تبدو صورة طبق الأصل لمارسيليا على الجانب الآخر من البحر المتوسط. ووَفَد المهاجرون الجزائريون إلى فرنسا بحثا عن فرص العمل في أعوام الستينات والسبعينات حين كانت القوى العاملة مطلوبة.

أما اليوم فإن أبناءهم وأحفادهم فرنسيون لكنهم ورثوا ماضيا مضطربا. لم يختف الاستياء إطلاقا. وقال لي دبلوماسي فرنسي قبل شهرين «طالما ظل تاريخنا المشترك مغلقا سنظل ندور في حلقات كما ظللنا نفعل منذ عام 1962. على فرنسا أن تتقدم بمبادرة ما». هل ستؤدي خطوة الرئيس ماكرون إلى فتح إضبارة هذا الماضي المأساوي؟ رحب وزير المجاهدين الجزائري الطيب زيتوني بها واعتبرها «خطوة إيجابية تستحق الثناء». لكنها خطوة فحسب.

كان حديث ماكرون عن التعذيب حَذِرَا وذكر الأليزيه (قصر الرئاسة الفرنسي) أن ما يقدمه «اعترافا» وليس «توبة وندما». وبعد أسبوع لاحقا منح الرئيس الفرنسي وسام جوقة الشرف لمجموعة من «الحركيين». وهم حوالي 150 ألف جزائري اختاروا أن ينحازوا إلى الجانب الفرنسي أثناء الحرب ودفعوا ثمنا غاليا مقابل ذلك. وفكرته هنا هي وجوب رد المظالم على كلا الجانبين. وتتمنى فلورانس بوجيه، وهي كاتبة فرنسية تَحَرَّت عن استخدام التعذيب في الحرب الجزائرية، لو أن ماكرون ذكر في بيانه إلى جانب أودان جزائريَّيْن آخرَيْن واجها المصير نفسه هما المحامي على بومنجل والعربي بن مهيدي أحد قادة المقاومة. وقالت بوجيه لو أنه فعل ذلك «لكانت تلك خطوة ضخمة إلى الأمام».

فتحت بوجيه بوابات الذاكرة في عام 2000 بمقابلة مع لويزات إيغيل إحريز وهي ناشطة من أجل استقلال الجزائر حكت عن اغتصابها وتعذيبها بواسطة الجنود الفرنسيين في عام 1957 في حضور جنرالات الجيش. لقد جاهرت بذلك بعد كل تلك السنوات كي تشكر طبيب الجيش الذي وجدها بعد جلسة التحقيق وأنقذ حياتها. وكان نشرُ المقابلة في الصفحة الأولى لجريدة لوموند صادما الأمر الذي دفع جنرالين متقاعدين بعد فترة قصيرة من ذلك إلى الموافقة على الحديث واعترفا بإشرافهما على استخدام التعذيب مما أضفى زخما جديدا لجدل لم ينقطع.

تقول بوجيه: إن ذلك لم يكن ندما أكثر من كونه حاجة إلى الكلام. «فالجنرالان لزمهما أن يحملا عن عاتقهما عبء ماضيهما المظلم قبل أن يرحلا عن العالم».

لقد مضى الآن العديدون من أولئك الذين لعبوا أدوارا مثل الرئيس السابق فرانسوا ميتران. فقد كان في عام 1957 وزيرًا للعدل في الحكومة الاشتراكية التي أعطت الضوء الأخضر للجيش الفرنسي لسحق الثورة مهما كلف ذلك. ومع ظهور الحقيقة الرسمية إلى العلن يمكن أخيرا أن نتوقع محاسبة للنفس بشأن المسؤولية السياسية للاشتراكيين والديجوليين والرتب العليا في القوات المسلحة الفرنسية. وسيلزم تسليط الضوء على نطاق استخدام الاغتصاب كسلاح إلى جانب التعذيب. أيضا سيلزم القيادة الجزائرية الحالية التي ورثت حرب الجزائر مواجهة الجانب المظلم من كفاح الثوار. لن تكون مراجعة النفس سهلة لكنها صارت أخيرا حتمية.

• الكاتبة رئيسة تحرير سابقة

لصحيفة لوموند الفرنسية