أفكار وآراء

«الروايات الانطباعية» للأحداث السياسية.. عمرها قصير

03 نوفمبر 2018
03 نوفمبر 2018

د. عبد العاطى محمد -

هناك حكمة عامة تقول إن الكذب عمره قصير، بمعنى أنه سرعان ما ينكشف ولا يصدقه أحد، وإذا استعنا بمضمونها لفهم حقيقة ما يجرى حولنا من أحداث عامة داخلية كانت أم خارجية، فإننا نستطيع القول إن «الروايات الانطباعية» لهذه الأحداث عمرها قصير أيضا. ومع أن هناك فارقا مهما بين الأمرين، حيث الكذب لا يستند إلى أي حقيقة كانت، بينما «الروايات الانطباعية» هذه في الأغلب الأعم تستند إلى حقيقة ما صغرت أو كبرت بما يعنى أنها تستحق الاهتمام، وأما الكذب فلا يستحق ذلك بالمرة، إلا أن بينهما قاسم مشترك هو قوة التأثير في تشكيل الصورة الذهنية عن الآخرين. لن نقف عند المقصود بالكذب فالمعروف لا يعرف، ولكن من حق القارئ أن يتعرف على المقصود بعبارة «الروايات الانطباعية» للأحداث حتى لا تثير اللبس أو الغموض عنده. والحق أنها استنباط من الكاتب وفقا لاجتهاده من واقع متابعة طويلة للغاية لما يكتب أو يقال ويذاع عند تناول الأحداث العامة في منطقتنا العربية على وجه الخصوص. التعبير مستعار من علم النفس لأن مفهوم الانطباع يدخل في صميم اختصاصاته، ولكن علم السياسة عودنا على أنه يستعير الكثير من مجالات العلوم الأخرى ويطورها لإثراء تناوله لما يدخل في اختصاصه ومن ثم لا حرج في صك هذا التعبير حتى نتعرف على أين تقف أقدامنا، خصوصا في مجالي الكتابة السياسية والإعلام، عند تفاعلنا مع الأحداث السياسية المهمة.

لم يكن الكذب بعيدا يوما ما عن الأحوال السياسية وعرفناه جيدا من خلال ما يسمى بالدعاية السياسية السوداء بأن يكذب طرف ما ضد الأخر ويظل يكذب ويكذب حتى يصدق نفسه بأنه يقول الحقيقة! ثم تصير الكذبة أمرا واقعا يصعب تصويبه. إلا أنه في زماننا المعاصر ولأسباب معروفة تتعلق بأن العالم أصبح قرية صغيرة ووسائل التواصل الاجتماعي تسمح بالتفاعل السريع ولها تأثير كبير في تشكيل الرأي العام خطأ أو صوابا، دخل المواطن العادي أو البسيط طرفا في صناعة الأحداث أو التأثير فيها وأصبح لديه موقف سريع من الآخر، هذا بجانب المحترفين من سياسيين ومثقفين وكتاب ونشطاء، أي الكل يدلي بدلوه سواء من منطلق شخصي أو بفعل تشجيع ودعم من جماعة ما أو حتى «جروب» صغير. هكذا لم يعد الكذب هو القناة الوحيدة المعتادة للتأثير على معرفة وفهم الأحداث، وظهر ما يسميه الكاتب بالروايات الانطباعية.

إذا استعان القارئ بجوجل سيجد أن المقصود بالانطباع، وفقا للدكتور محمود غلاب أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة ونقلا عن صحيفة العرب 13/‏‏2/‏‏2016، هو مجموعة من الآراء التي يكونها المرء عن الشخص الذي يقابله، ويمكن للمرء أن يكوّن انطباعا من اللقاء الأول أو حتى من الدقائق الأولى من اللقاء. وفي مواضع أخرى من البحث يتشكل الانطباع وفقا للاهتمام بالمظهر أو الشكل الخارجي وبث روح الطاقة الإيجابية من خلال الابتسام والمرح والدعابة اللطيفة والبحث عن النقاط المشتركة مع الآخر. وتلعب لغة الجسد (الانفعال والهدوء) والنغمة الصوتية (علو الصوت أو خفوته) والكلمات المجردة التي يمكن أن يفهم منها مدى الود أو الكراهية أو قبول التفاهم من عدمه، كلها تلعب دورا في تشكيل انطباع شخص ما عن الآخر فيما يسمى بالانطباع الأولى. ومع أن هناك من يقلل من أهمية الانطباع الأول بالنظر إلى إمكانية عدم جاهزية الطرف الآخر للقاء، إلا أن المعتاد هو أن هذا الانطباع مهم للغاية وهو الذي يحكم مسار اللقاءات الأخرى إن وجدت.

وقد وعى السياسيون هذا المعنى جيدا واتخذوه طريقا لإقامة الصداقات، بل ولحل المشكلات المتعلقة بدولهم وخصوصا على الصعيد الخارجي وثبت نجاحه ليس فقط لأنهم يلتزمون بشروطه المذكورة سلفا، بينما فشل آخرون ممن لن يلتزموا بذلك ولنا في لقاءات الرئيس الأمريكي ترامب مع حلفائه الأوروبيين مثال دقيق يؤكد ذلك عندما نقلت الكاميرات تعبيرات التحدي والخلاف على وجوه الجميع (لغة الجسد).

«الروايات الانطباعية» ليست بعيدة عن هذا الموضوع أي الانطباع الأولى بين شخصين هما هنا على أعلى مستويات السياسة، فكثيرا ما تنتهي لقاءاتهم ببيانات تشير إلى بعد المسافة في المواقف أو غياب ما يسمى بالكيمياء الشخصية ولنا في لقاءات نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مثال على ذلك. ولكن ما يلقى الضوء حقا على هذا التعبير في زماننا المعاصر هو توالى ردود الأفعال بسرعة فائقة على الأحداث السياسية من دون أن يكون ذلك عبر لقاءات ثنائية أو جماعية مباشرة، وتأتى من كل حدب وصوب ومن جانب من يعلم ومن لا يعلم ويتم توجيهها نحو أشخاص بعينهم في الأحداث وتجاه الأحداث ذاتها في مجملها خصوصا إذا كان الأشخاص أطرافا فيها من قريب أو بعيد! والسبب هو طبيعة العصر وشدة وقع الأزمات على الجميع وتشابكها مع بعضها البعض، فالأحداث متسارعة جدا ومتغيرة بين لحظة وأخرى ومن ثم تسمح في ذاتها للكل بأن يعلق مؤيدا أو رافضا مادحا أو قادحا، يساعده في ذلك التسهيلات غير المسبوقة التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي ولنا في ما نجده على هذه المنصات كل صباح ومساء من ألاف ما يسمى بالهاشتاج الذي يسارع مشاركوه في إعلان مواقف التأييد أو الرفض في دقائق إن لم يكن ثوان معدودة دون تروى أو بناء على أي معلومة حقيقية، هذا فضا عما يأتي عبر تويتر أشهر وسائل التعبير عن المواقف والآراء. «الروايات الانطباعية» بهذا المعنى متعجلة ولا تستند إلى حقائق وربما إلى نصفها أو طرفا منها وتتجه إلى تسخين الأحداث لا تهدئتها وتركز على العواطف بالدرجة الأولى ولذلك لا نراها تستبعد ربط أي حدث بخلافات عرقية أو مذهبية أو حتى شخصية تماما.

نقول ذلك مع التشديد على التمييز بين ما تمت الإشارة إليه بخصوص الانطباع وبين ما نتحدث عنه تحت عنوان «الروايات الانطباعية»، وذلك لأن الانطباع فيه من الإيجابية الكثير ويقوم على حقائق حتى لو كان هناك خلاف في وجهات النظر ويرمى إلى قيم وإيجابية هي السعي نحو بناء صداقات وتعاون أو حل مشكلات قائمة، ولا يصيبه الفشل في حالات قليلة إلا بسبب ظروف استثنائية تتعلق بعدم جاهزية الطرف الآخر. ولكن «الروايات الانطباعية» شيء آخر تماما أصبح يملأ سماءنا الفكرية كل يوم محدثا ضجيجا واضطرابا لا مثيل له، لا تستند إلى حقائق وإنما إلى رؤى شخصية ومواقف سياسية مسبقة لا تتبدل وليس لها هدف إيجابي بل على العكس إفساد ما يتم إصلاحه!.

الخبر السيئ في هذه الظاهرة هو أنها تزيد المشهد العام في المنطقة ارتباكا وتعمق من عوامل الانقسام والفرقة وتسعى إلى إعادة المنطقة إلى الوراء دائما. وأما الخبر الجديد فهو أن الوعي عند الرأي العام العربي بفرز الغث عن السمين في هذا المحتوى يتزايد يوما بعد الآخر. والدليل على ذلك أن الحقائق على الأرض لم تمض كما أراد أصحاب «الروايات الانطباعية». لنا أن نتذكر ما أثير بقوة من هؤلاء في فترة من الفترات التي ليست بعيدة بأن المنطقة على شفا حرب نووية بين الولايات المتحدة في أواخر عهد أوباما وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، وما أثير عن حرب مشابهة في عهد ترامب وبين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية وأيا منهما لم يحدث. ووقف العالم على رأسه وقت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وعمت الأنباء التي تتحدث عن حرب عالمية ثالثة بين روسيا والغرب، وهو ما لم يحدث. وعشنا فترات كثيرة عن حروب أخرى لإسرائيل سواء مع حزب الله اللبناني أو حماس، ولم تحدث حتى كتابة هذه السطور. وتوقع الكثيرون من هؤلاء أيضا أن «داعش» قامت ولن تقعد وأن الوضع الداخلي في العراق مشتعل ويهدد بحرب أهلية وأن لن يشكل حكومة جديدة. وهو ما لم يحدث. والمعنى هنا أن مواقف الدول تبنى على حقائق وليس على «الروايات الانطباعية» حيث تنتصر الحكمة الحصيفة في نهاية الأمر مهما كانت قوة انتشار هذه الروايات. ولنا أخيرا مثال يؤكد المعنى من ٍالاجتماع الرباعي الذي ضم روسيا وتركيا وفرنسا وألمانيا باسطنبول وتأكيده على أهمية استمرار وقف إطلاق النار في إدلب لحماية ملايين الأرواح، وكذلك أهمية وضع الدستور الجديد لسوريا. حدث هذا برغم عدم مشاركة لا إيران ولا سوريا، ولكن روسيا تتكفل بنقل ما تم الاتفاق عليه إلى سوريا، وتتكفل تركيا بالمهمة نفسها بخصوص الجانب الإيراني. الحقائق تفرض نفسها ولو طال الزمن حيث لا يصح إلا الصحيح.