أفكار وآراء

عمان .. لا إصغاء لـ«الوشوشات» ولا أجـــندات خــاصة

30 أكتوبر 2018
30 أكتوبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

أستعيد في مطلع هذه المناقشة إجابة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه -عن السؤال الذي طرحه محرر جريدة «تايمز أوف عمان» في المؤتمر الصحفي الذي تفضل بعقده حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم لأجهزة الإعلام والصحافة العُمانية (بتاريخ 22/‏‏10/‏‏1985م) يقول طارح السؤال:

ــ مولاي صاحب الجلالة، اعتبر بعض المراقبين الخطوة التي اتخذتها حكومة جلالتكم بإقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي تغييرا أو توجها جديدا في السياسة العمانية في وقت اعتبرها الآخرون تفاعلا مدروسا مع الأحداث استطاعت بموجبه السياسة العمانية أن تستثمره في الوقت الصحيـح، فهل لجلالتكم توضيح أبعاد هذا الموقف؟

- جلالة السلطان: صحيح، قد بلغني كثير من الاهتمامات في كثير من أنحاء العالم بهذه الخطوة التي اتخذتها عمان، وفي الحقيقة أنا مستغرب لمـاذا البعض استغربوا هذه الخطوة، لأن الواحد عندما ينظر إلى مسيرة عمان يجدها مسيرة تطور وانفتاح وسياستنا الخارجية واضحة وضوح الشمس، فنحن نريد أن نصادق كل شعوب العالم، وتكون لنا علاقات معها، ولكن هناك أسسا يجب أن تكون أولا واضحة لدى من يريد أن يمد يده لنا، وهذه معروفة، وسياسة السلطنة الخارجية تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية إلى آخر هذه الأسس المعروفة، والعمل من أجل الاستقرار والسلام في العالم، فإذا عملت من أجل الاستقرار في منطقة ساهمت مساهمة كبيرة؛ لأن كل منطقة هي جزء من العالم كله».

فما أشبه اليوم بالبارحة، حيث اكتظت وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض القنوات الفضائية، منذ الإعلان الرسمي من قبل سلطنة عمان بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى سلطنة عُمان بالتعليقات، حيث كثر المنظرون بين مؤيد ومعارض، فالمؤيدون ينطلقون من معرفتهم القريبة بمواقف السلطنة حيال كل ما يدور على أجندات دول العالم، ومدى مساهمة السلطنة في حلحلة الكثير من القضايا التي كانت شائكة إلى حد ما؛ والتي كانت عالقة أيضا؛ بسبب تصلب المواقف بين الأطراف المختلفة، فتأتي الحكمة العمانية بقيادة جلالته، أعزه الله، فتذيب جبال الجليد الصلبة، وتسيرها سلسبيلا صافيا لـ«تصبح الأرض مخضرة» بفضل الله، وبرؤية جلالته الحكيمة، بينما يركب المعارضون المروجون لأجنداتهم الخاصة ظهر المجن، ليس انطلاقا من رؤية واعية شاملة لما عليه الحال اليوم، ولكن انطلاقا من صور نمطية لاكتها الألسن سنين عديدة دون أن تثمر عن شيء ملموس من شأنه أن يزهر فعلا، حيث بقيت الأرض يبابا إلا من جثث، ودماء غزيرة سائلة، تغذي الحقد، وتعلي من صوت الاستغاثات هنا وهناك، كمن يتشبث ببيت العنكبوت.

والسياسة العمانية منذ الإعلان عنها في مطلع السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، لا تحتاج إلى مزايدة من أحد، فمنهجها واضح، ومسيرتها معلنة منذ ذلك التاريخ، وأما كيف يفسر هؤلاء وهؤلاء هذه السياسية، ويخضعونها حسب فهمهم القاصر، فعليهم أن يعودوا إلى التاريخ، وليس خطأ أن يسترشد الـ«طلاب» بمعلميهم بما تحتويه كتب التاريخ ليكون أكثر بصيرة من أمرهم، بدلا من توزيع الشتائم والانتقادات، والتنظيرات غير الواعية؛ حيث مناخات السياسات غير الراشدة؛ فهنا بلد يستل جذوره من عمق التاريخ، ولا يقتفي أثرا للاسترشاد، بقدر ما يوجد منهج واضح وحكيم، يرحب بالـ«قاصية» لأن تستقي معرفتها وتاريخ من سبقوها منه، وليس في ذلك من عيب أبدا.

هذه المواقف الصريحة، يعلنها الساسة العمانيون في كل محفل، وبلا أية محاباة، واجتماعات الأسرة الدولية بين جدران الأمم المتحدة تشهد بصوت الحكمة الصريح لـ«عمان»، وتكبر فيه هذا الوضوح والهدوء، وهو إذ ينطلق فإنه ينطلق من أرض خصبة بعطائها الحضاري على مر السنين والأيام، ومن حكمة سامية راشدة لجلالته، تستشرف أفق الغد، مخضبة بالتجربة والممارسة السخية، ولعلني هنا أيضا أسترشد بجملة من الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه - الذي ألقاه جلالته في العيد الوطني الرابع: «أما عن سياستنا الخارجية، فقد أعلناها كثيرا في مناسبات مختلفة، وفي مؤتمرات دولية، وسنظل نعلنها أننا جزء من الأمة العربية وسياستنا تنبع من منطلق مصلحتنا العليا، وقد وضحت الصورة أمامنا تماما وعرفنا من خلال عمل متواصل في سنوات أربع، موقع قدمنا، وقد وضعناها ووجهناها وجهة نابعة من صميم إرادتنا، وموقفنا من أي دولة يتحدد على ضوء موقفها من قضيانا الوطنية واحترام سيادتنا التي لا تسمح بأي تدخل في شؤوننا ورفض أي محاولة للتأثير على سياستنا أو توجيهها مهما كان مصدرها. إننا نؤدي دورنا في المجتمع الدولي، ومحافظة بإيجابية وفعالية ونشارك في حل القضايا العادلة»، ولا تزال الرؤية ذاتها منذ ذلك الزمان، وحتى هذا الزمان، تأصيلا في الممارسة، وثباتا في المواقف، ولا تزال عمان بقيادة جلالته -أعزه الله- على ذات المنهج، لا يهمها كثيرا من يغرد خارج السرب، بقدر ما تحافظ على تأثيرها الإيجابي في مسارات المجتمع الدولي الذي يسعى إلى إحقاق الحق، وتثبيت العدالة بين شعوب العالم قاطبة، وبهذا التوجه أصبحت عمان المرجع الحكيم لكل من يريد أن يستنير برؤاها التي حافظت عليها طوال الـ(48) عاما، وهذا الثبات ليس انكفاء عن المساهمة المباشرة في مشروعات المجتمع الدولي المختلفة، ولكن لتبقى على العهد الذي قطعته على نفسها، وهي عدم المساس بمصالح الآخرين، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، مع أنها الحريصة أبدا على أن تكون مساهمتها هي تعزيز السلام والأمن الدوليين بما يمليه عليها واجبها الإنساني في كل موقف، وبوضوح تام، وبحيادية لا تقبل المراهنة على أجندات خاصة تستأثر بها لنفسها فقط.

وفيما يخص القضية الفلسطينية، وهي قضية العالم العربي والدولي على حد سواء، فموقف السلطنة منها واضح وضوح الشمس، ومساهماتها في حلها ومناصرتها معروف وبسخاء، والفلسطينيون يذكرون ذلك وبكل فخر، دون إملاء من أحد عليهم في هذا الاعتراف الصادق، فإيمان السلطنة بحق الفلسطينيين في العيش على أرضهم بسلام وعاصمتهم القدس الشريف، كما هو نصيب كل شعوب العالم الحرة، إيمان لم تزعزعه أحداث الأيام، ولا تجاذبات الساسة المختلفة، ولا الظروف السياسية المتواصلة على المنطقة العربية على وجه الخصوص، فمناصرتها معروفة، ولكن في ظل ظروف العالم المتداخلة والمتشابكة لا يمكن أن تتسلم دولة ما ملفا كبيرا بتعقيداته الجغرافية والسياسية والديموغرافية بعزلة عن المجتمع الدولي؛ لأن ذلك ضرب من الخيال، وإنما يظل السعي دائما في ظل «الفزعة» الدولية المستمرة التي رغم كل الأجندات تنتصر إلى واقع الفلسطينيين المرير.

إن عمان؛ كما أكد ذلك، ولا يزال؛ حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه - في العيد الوطني الثالث: «تستمر في جهودها المتواصلة ونشاطاتها الباسلة في الأسرة الدولية، وتسهم بنصيبها في حل المشاكل والقضايا العالمية إثباتا لوجودها كعضو في هيئة الأمم المتحدة وإعرابا عن رغبتها الأكيدة في استقرار الأمن والسلام بين دول العالم المختلفة وإقامة علاقات الود والصداقة مع كل دولة تمد يد الصداقة لنا على أساس الاحترام المتبادل وعلاقات الند للند».

مع إدراك قيادتها السامية الحكيمة أن القضية الفلسطينية ومراوحة البقاء على صورتها الحالية لا يخدم أي طرف من أطراف النزاع فيها، وبالتالي يظل البحث عن سبل جديدة، وأطروحات حديثة ملزما للأسرة الدولية، ومنها سلطنة عمان، حتى يصل الجميع إلى أرضية سواء، وذلك من خلال الأخذ بالسبل الكفيلة التي يؤمن بها المجتمع الدولي الناضج، وليس من خلال الصراخ المفضي إلى اللاشيء، سوى تموضع الحالة على ما هي عليه عبر العقود التي مرت بها، دون أن يحقق هذا الشعب النبيل أمله وطموحه بأن يعيش على أرضه سليما معافى.

وأختم هنا بفقرة منصفة، كما أقيم؛ جاءت في سياق عمود جريدة (رأي اليوم): « ... بالتذكير بوساطات مسقط السابقة، لا يمكن تجاهل أن العاصمة العُمانية غالبا ما تتدخل بعد «فشل من سبقوها» أي أن العاصمة العمانية على الأرجح كانت بمثابة «حل العقد» في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، أو إن صح التعبير في المحادثات الفلسطينية الأمريكية الإسرائيلية، خصوصا أن مسقط عاصمة آمنة وهادئة بالنسبة لواشنطن (...)».