الملف السياسي

الانتخابات الأمريكية.. وسلاح «الانسحاب» النووي!

29 أكتوبر 2018
29 أكتوبر 2018

مروى محمد إبراهيم -

إن تلويح ترامب بالانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا لا تعني أكثر من مجرد أداة انتخابية يتلاعب بها الرئيس الأمريكي لاجتذاب أكبر قدر ممكن من الناخبين، والتأكيد على تمسكه بمبدأ «أمريكا أولا» الذي ضمن له من قبل الصعود إلى البيت الأبيض .

هل تنسحب الولايات المتحدة حقا من معاهدة حظر انتشار الصواريخ النووية متوسطة المدى مع روسيا؟ هل تعود الحرب الباردة إلى الحياة مجددا بكل ما حملته من صراع وتهديد عسكري للعالم؟ أم هي مجرد زوبعة في فنجان، ولعبة سياسية جديدة أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لكسب ود الناخبين قبل أيام من انطلاق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل؟ .. سيطرت هذه التساؤلات على الساحة الدولية مع تصعيد الرئيس الأمريكي من لهجته العدائية للجانب الروسي خلال الأيام الماضية، وتهديده بتطوير ترسانة نووية رادعة لكل أعدائه ومنافسيه على الساحة الدولية. والإجابة على هذه التساؤلات لا تحتاج سوى نظرة سريعة للأوضاع السياسية الداخلية في أمريكا، وربما نظرة أخرى على طبيعة العلاقات الأمريكية- الروسية منذ اللحظة الأولى لصعود الملياردير الجمهوري إلى السلطة.

في البداية، لابد من التذكير بأن المعاهدة المشار إليها كان قد وقعها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان مع ميخائيل جورباتشوف آخر زعماء الاتحاد السوفييتي السابق عام 1987، أي الأعوام الأخيرة من الحرب الباردة. والهدف منها هو الحد من الصواريخ التي يتم إطلاقها من على الأرض، ويتراوح مداها بين 500 كيلومتر و1500 كيلومتر، سواء النووية أو التقليدية.

الطريف في تهديد ترامب العنيف بالانسحاب من المعاهدة النووية، أنه تزامن مع زيارة جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي غير المعتادة إلى موسكو، بل والإعداد للقاء جديد بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وترامب. فالملاحظ أن بولتون تمكن من احتواء الغضب الروسي وبسرعة. فقد رد على تحذيرات روسية من خطورة مثل هذا الانسحاب، بتأكيده أن الأمر ليس بهذه الخطورة، واصفا المعاهدة بأنها عفا عليها الزمن ولم تعد مناسبة للعصر الحديث. وزعم أن المعاهدة تفرض قيودا على قدرات أمريكا النووية، في حين تفتح الطريق أمام قوى عالمية أخرى من أمثال الصين وإيران لامتلاك قدرات نووية غير محددة. وهو أمر يشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي، من وجهة نظر القيادة الحالية للولايات المتحدة. كما جدد بولتون الاتهامات الأمريكية لروسيا بانتهاك المعاهدة، وهي الاتهامات التي جددت موسكو نفيها لها. وحاول بولتون تبرير الانسحاب الأمريكي المرتقب من المعاهدة بزعمه أنه من الصعب إلزام روسيا بمعاهدة ترفض موسكو الاعتراف بانتهاكها لها!. وبقدر غرابة هذا المبرر، بقدر ما يمكن تقبل واقع أن المعاهدة في حقيقة الأمر عفى عليها الزمن، خاصة في عصر تطورت فيه الأسلحة بصورة غير مسبوقة وأصبحت موجهه إلكترونيا، وربما يصعب تعقبها في الكثير من الأحيان.

كما أن الانسحاب الأمريكي المتوقع من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى يتزامن أيضا مع المفاوضات المرتقبة بين الجانبين لتجديد معاهدة « ستارت»، المبرمة في عام 2010، ويتم بموجبها تحديد عدد الرؤوس النووية التي تمتلكها كل منهما، ومن المتوقع تجديدها في عام 2021.

وفي محاولة لإبداء حسن النوايا، أكدت روسيا استعدادها للتفاوض مجددا حول المعاهدتين وتحديثهما بما يتناسب مع متطلبات العصر، بدعوى أن هذا ينبع من التزامها تجاه الأمن والسلام العالميين.بالنظر إلى الجانب الروسي، من الصعب التنبؤ بحجم أو نوعية ترسانة الأسلحة الروسية، ولكن الأكيد أن روسيا تمتلك ترسانة نووية وعسكرية ضخمة لا يستهان بها. فوفقا لتقديرات الرابطة الأمريكية للعلماء، فإن روسيا تمتلك نحو 7850 رأسا نوويا، من بينها 1600 رأس استراتيجية نشطة، وهذه الأرقام يتم توفيرها بموجب اتفاقية «ستارت» والتي تمنح الجانبين حق الاطلاع على عدد الأسلحة التي يمتلكها كل طرف. ووفقا للتقديرات الدولية، فإن روسيا تعتبر أكبر قوة نووية في العالم، وإن تراجع مخزونها من الرؤوس النووية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واقترب إلى حد كبير من حجم المخزون الأمريكي من السلاح النووي.

وعلى الرغم من القدرات الروسية النووية، إلا أن موسكو تنظر لأي تمرد أمريكي على معاهدات التسلح فيما بينهما على أنها مؤشر على اعتزام أمريكا المضي قدما في نشر مظلة صواريخ في أوروبا، وهو الأمر الذي تعتبره روسيا دعوة صريحة للحرب. وهذا ما رد عليه بوتين بشكل مباشر، حيث حذر من أن الانسحاب الأمريكي وما يعقبه من توابع مثل مظلة صاروخية أمريكية في بولندا أو أي دولة أخرى في المنطقة سيستدعي ردا عسكريا روسيا، سيشكل تهديدا كبيرا على حلفاء أمريكا الأوروبيين. وعلى الرغم من استبعاد بولتون احتمالات نشر أمريكا لمثل هذه المنظومة الصاروخية في المستقبل القريب، إلا أن الجانب الروسي يرى مؤشرات الحرب القادمة على الأبواب بسبب التصعيد الأمريكي المستمر ضدها.

ولكن هل يسعى ترامب حقا لإثارة الغضب الروسي؟ وهل يعمل على خلق أجواء الحرب الباردة من جديد؟ المؤشرات تؤكد أن الرئيس الأمريكي يتعرض لضغوط داخلية وأوروبية قوية لإثبات عدائه المطلق للجانب الروسي، حتى وإن لم يكن هذا العداء نابعا من داخله. فأصابع الاتهام تشير إلى روسيا في أكبر عملية تدخل أجنبي في تاريخ الانتخابات الأمريكية. كما أن الأدلة والقرائن تشير إلى اختراق القراصنة الروس للكثير من الأنظمة الحيوية الأمريكية، ناهيك عن تلاعبها بأفكار وتوجهات الأمريكيين بملايين الحسابات المزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر تأثيرا في المجتمعات العالمية. فروسيا نجحت في إدارة اكبر وأضخم حرب إلكترونية في التاريخ. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فعملية تسميم الجاسوس الروسي سيرجي سكريبال في مدينة ساليزبري البريطانية ونجاح العملاء الروس في إحراج الأمن البريطاني أثار غضب المملكة المتحدة وأوروبا بأكملها. وهو ما اضطر واشنطن لتأكيد تضامنها مع حلفائها وفرض عقوبات اقتصادية عنيفة على روسيا. ولكن موسكو نجحت أيضا في إثبات عدم جدوى العقوبات الأمريكية والأوروبية المتكررة وفشلها في إحراجها.

ومع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي المقررة في 6 نوفمبر المقبل، كان لابد لترامب من إثبات «قوميته» وولائه المطلق لبلاده، وذلك من خلال دحض أي اتهامات له بأنه متعاطف مع روسيا ، خاصة في ظل تصريحاته العديدة التي أعرب خلالها عن إعجابه ببوتين وروسيا، وهو ما بدا جليا خلال قمة بوتين- ترامب في هلسينكي قبل عدة أشهر. فكان لابد وأن يبرئ نفسه من اتهامات التعاطف مع الجانب الروسي، لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة للحزب الجمهوري في الانتخابات المرتقبة.ويولي الرئيس الأمريكي اهتماما خاصا لهذه الجولة الانتخابية ليس فقط باعتبارها استفتاء على حكمه، ولكن أيضا باعتبارها مسألة حياة أو موت بالنسبة له. فسيطرة الديمقراطيين على الكونجرس الأمريكي، سيعني بالضرورة المطالبة بمحاكمة ترامب أمام الكونجرس في اتهامات قد تصل إلى حد يضر بموقفه ، في حالة نجاح لجنة المحقق الخاص روبرت موللر في إثبات تواطؤ ترامب مع الجانب الروسي للفوز بالانتخابات الرئاسية 2016. وهذا ما يعني بالضرورة سقوط العملاق ترامب وربما نهاية إمبراطوريته المالية أيضا.

إن تلويح ترامب بالانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا لا تعني أكثر من مجرد أداة انتخابية يتلاعب بها الرئيس الأمريكي لاجتذاب أكبر قدر ممكن من الناخبين، والتأكيد على تمسكه بمبدأ «أمريكا أولا» الذي ضمن له من قبل الصعود إلى البيت الأبيض. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق رغبة حقيقية من جانبه في معاداة روسيا أو التورط في أي صراع مع موسكو. فترامب لم ينجح في أي مرحلة ، خلال حملاته الانتخابية أو بعد صعوده إلى السلطة، في إخفاء إعجابه المطلق بالرئيس الروسي ومدى ذكائه الذي يصل إلى حد الدهاء وقوته وسطوته وقدرته على استخدام أدواته في فرض نفوذه على العالم. ولكن هذا الإعجاب قد يكلف ترامب الكثير خلال المعركة الانتخابية الطاحنة، خاصة وأن الديمقراطيين يحاربون بضراوة لتعويض الخسائر التي تكبدوها قبل عامين. خاصة، وأن مثل هذا الفوز سيساعدهم على تقويض صورة ترامب ووضع كلمة النهاية لفترة حكم غير تقليدية في التاريخ الأمريكي.

الوقائع تؤكد أن ترامب يستخدم المعاهدة مع روسيا ليس كسلاح ضد الروس، ولكن كسلاح انتخابي ضد أعدائه الديمقراطيين بهدف تثبيت أقدامه في السلطة.