أفكار وآراء

بين أن تكون «أخلاقيا» .. أو «عمليا»

28 أكتوبر 2018
28 أكتوبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي  -

[email protected] -

تظل جدلية العلاقة بين المادة- قيمة ملموسة- والقيم الإنسانية- قيمة معنوية- قائمة، على الرغم من كل الخبرات الممتدة في حياة الناس، ذلك أنه لا غنى للإنسان عنهما، فكما يسعى لأن ينظم حياته ويوظفها التوظيف المعتدل؛ من خلال القيم؛ للتعاطي مع الآخر، للوصول إلى حالة من الوفاق والتوافق؛ ولو على مستوى نفسه على الأقل؛ يسعى في الوقت نفسه لأن ينجز، وأن يوفي مختلف الالتزامات التي عليه للآخر من خلال المادة.

مع أن هذا الآخر ليس سهلا، ففي الوقت الذي ينتصر للقيم، يأتي في مواقف أخرى فينتصر للمادة، وعليك كطرف في هذه المعادلة أن توفق بين الجانبين، وأن لا تفرط في أحدهما على حساب الآخر، فإن في ذلك مشقة كبيرة، مع أنه يبدو من خلال المعايشة اليومية، أن الانتصار للقيم؛ مهما كانت التكلفة ثقيلة؛ أحيانا؛ إلا أن النتائج تكون سليمة، وتؤدي إلى النفاذ من النفق المظلم، بعكس المادة، حيث في كثير من أحوالها تؤدي إلى النفاذ الى النفق المظلم، خاصة عندما لا يسلك لاستقطابها المسالك الصحيحة الآمنة، ولذلك تمتلئ السجون بالكثير من هؤلاء الأفراد الذين أقنعوا أنفسهم على أن سهل الطرق للوصول الى الغايات هي المادة والمادة فقط، ولا مكان للقيم الإنسانية في هذا الأمر، وهذه الصورة ليست جديدة على العنصر البشري، المسلح بذخيرة ضخمة من القيم التربوية، والسلوكيات الحميدة، والحقن المستمر بمختلف المبادئ الإنسانية، فوق ما تدعو إليه القيم الدينية، وتحرص عليه لتعزيز دور الأسرة والمجتمع في هذا الاتجاه، ولكن في النهاية تبقى قناعات الإنسان، والحالات التي يمر بها بين ضعف وقوة، وبين قدرة وعدم قدرة في اتخاذ القرار الصائب الذي ينجيه من كثير من المهالك، فهناك ظروف كثيرة ترى فيها الفرد في أضعف حالاته، ولذلك يسلك طرقا ما كان له أن يسلكها لو كان في حالات التعقل الكامل، وهذه من المواقف المحسوبة على الإنسان، ومع ذلك عندما يفرط حبل العقد الذي قطعه الإنسان مع من حوله في شأن الحرص على مختلف الأمانات الموصى بها من قبل الآخرين، وعليه المحافظة عليها، عندها لا بد أن يطال القانون هذا المفرط، ويأخذ جزاءه.

طرح في أحد مقاطع «فيديو» انتشر عبر خدمة الـ «واتس أب» سؤال على مجموعة من الشباب؛ كاستطلاع للرأي؛ أيهما يأتي في مقدمة اهتمامات الفرد الحب، أم المال؟ وكانت معظم الإجابات منطقية، أو هي قريبة من الواقع، حيث كانت الإجابات: المال أولا، ومن ثم الحب، لأن الأول «المال» كما أكد مناصروه، سوف يجلب «الحب» وليس العكس، فهذه صورة من الصور التي يتم الحديث عنها بين أحضان المجتمع، وهي صورة أقرب الى الإيمان بها من قبل كثيرين من أفراد المجتمع، لأن الـ «حب» وهو قيمة «أخلاقية» لن تعمر بيتا بهيكله المادي يضاف الى بيوت أفراد المجتمع الآخرين، وإن كانت هذه القيمة لها دور محوري في حياة الزوجين، وبها يمكن أن تستمر الحياة وتعمر، وتضفي على الأسرة وأبنائها بعد ذلك مظلة الأمن الاجتماعي الذي لا غنى لأي لأي فرد عنه، مهما بلغ الرفاه المادي مبلغه، وتحقق للزوجين كل شيء قد يفكران فيه، فبدون هذه القيمة الأخلاقية «الحب» ربما لن تعمر هذه البيوت على كثرتها بين أحضان المجتمع، وما حالات الطلاق الكثيرة، وانفصام عرى المودة بين الزوجين في كثير من المواقف إلا لشح هذه المادة الأخلاقية، وافتقار الأسر إليها في ظل غياب حضور أسري ملفت، وخاصة اليوم مع تكاثر مشاغل الحياة بين قطبي الأسرة (الرجل والمرأة) وابتعادهما على مكونهما المحوري وهو المنزل بجدرانه السميكة، وضخامة هيكله المتعالي نحو السماء، حيث لم تغن كل هذه الهالة من البناء عن هذه القيمة الأخلاقية.

قرأت قريبا عبر موقع الـ «بي بي سي/‏‏‏‏ عربي» نتائج “دراسة حديثة أشارت إلى أن السبب الرئيسي الذي يحمل أبناء جيل الألفية على ترك وظائفهم هو اعتراضهم على الثقافة التنظيمية للشركة (أي القيم والمبادئ والمعايير السائدة في الشركة والتي تعكسها سلوكيات أفرادها) ويفضلون العمل في شركة تتبنى نفس القيم التي يؤمنون بها ولو براتب أقل، حيث تواجه بعض القطاعات التقليدية صعوبات جمة للحفاظ على موظفيها الأصغر سنا. إذ خلصت دراسة أجراها معهد توظيف الطلاب وحديثي التخرج في عام 2017 إلى أن (F) من حديثي التخرج يتركون أول وظيفة لهم بعد خمس سنوات من شغلها.» وتضيف نتائج الدراسة نفسها: «ربما يكون الحل الأسلم للمأزق الأخلاقي الذي يواجهه الكثير من أبناء جيل الألفية، هو أن يختاروا العمل الذي يتفق مع ثوابتهم وقيمهم. إذ أشارت أبحاث عديدة إلى أن هذا الجيل يريد أن تلتزم الشركات التي يعملون لحسابها بالمبادئ الأخلاقية، وبالتنوع العرقي والثقافي، وأن تقوم بدور إيجابي نحو المجتمع والبيئة» ويقول كاراهير- أحد المشاركين في الدراسة: إن القيم التنظيمية التي تعد «البوصلة الأخلاقية» للمؤسسة أصبحت وسيلة فعالة لجذب المواهب الشابة، ويضيف: وربما واجه كثيرون منا معضلة أخلاقية أكثر شيوعا، حين اضطروا إلى رفض وظيفة ذات راتب مغرٍ لأنهم لم يستطيعوا غض الطرف عن مواقف الشركة حيال البيئة، أو الحيوانات، أو حتى طريقة تعاملها مع الزبائن».

وفي دراسة مشابهة- من المصدر ذاته- خَلُصَ باحثان إلى أن الأخلاق الحميدة لا تزال «تشتري كل شيء ولا تُكلف شيئاً» وقد استرشد الباحثين أنفسهم في افتتاحية دراستهما بطرح السؤال التالي: «هل ماتت الأخلاق في عالم السياسة؟».يزخر التراث؛ غير المادي؛ بالكثير من النداءات المنتصرة للأخلاق والقيم: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا» وهي إشكالية نفسية أكثر منها مادية، والدليل هناك كثيرون في الحاجة إلى المال ويتيسر بين أيديهم هذا المال الذي من شأنه أن ينقلهم من حالة العسر الى حالة اليسر، ولكن لأن هذا المال غير مشروع لهم استقطابه بذات صفتهم الحالية، حيث لم يكونوا مالكيه في ذات الظرف، وإنما هم مؤتمنون عليه، ترى أنفسهم تعف عن أخذ اليسير منه، حرصا منهم على قيمهم، وأخلاقهم، وأماناتهم، ولن يفرطوا فيها مهما وصلت الحالة الإغرائية منتهاها، فهم ملتزمون بعقدهم الاجتماعي الثمين، مهما كانت المغريات، ذلك لأن القيمة الأخلاقية عندهم في أعلى مستوياتها، وفي المقابل هناك النقيض، من يتحقق لهم كل شيء، وفي متناول أيديهم الغالي والثمين، ومع ذلك لا يتورعون عن أخذ القيل؛ وفي أيدهم الكثير الذي يحقق مآربهم الكثيرة بكل سهولة ويسر، ذلك أن القيمة الأخلاقية عندهم في أدنى مستوياتها، حيث يعلون من قيمة الصورة التي يرون فيها أن تحقيق ما تتوق إليهم أنفسهم، حتى ولو كان ذلك على حساب قناعاتهم ومبادئ قيم المجتمع الذي يمثلونه، فالصورة الماثلة حينها أن الجانب العملي هو ينهب ويسرق ما دامت الأبواب مفتوحة على مصراعيها، قبل أن توصد بأغلاق شديدة الصلابة، ، فقيمة الأمانة عندهم قيمة معنوية متخيلة، وبالتالي بقاؤها من عدمه لا يمثل شيئا مهما، وكما يردد دائما: «إن القيم المعنوية هي في الكتب فقط» بينما الواقع له أجندات مختلفة، وينتصر أكثر للجانب العملي الملموس، حتى وإن كانت الصور الماثلة للممارسة العملية تتصادم والقيم التي يؤمن بها أفراد المجتمع، ويعتمدون عليها كثيرا في تنظيم حياتهم اليومية.

إذن بين أن تكون «أخلاقيا» .. أو «عمليا» هي مسألة شديدة الحساسية؛ سواء على مستوى الفرد نفسه، أو على مستوى أفراد المجتمع، ولا شك أن هناك مفاضلة تخضع لـ «الأوزان النسبية» في ثقافة المجتمعات، لأنه في دول ما، ينتصر بعض الأفراد الى أخذ المادة مقابل تأدية خدمة ما، مع وجود راتب للوظيفة، ويرون في ذلك السلوك نوعا من الذكاء؛ على سبيل المثال؛ بينما لا يقومون بذات السلوك في دول أخرى، على الرغم من أنهم يعيشون الظروف المادية ذاتها، إيمانا منهم بأنهم مكلفون، وبأنهم أمناء على ما أأتومنوا عليه، وأن طالب الخدمة من حقوقه الأساسية، أن يكونو أمناء معه، حفاظا على سمعة دولتهم، وليس فقط سمعتهم كأفراد.