أفكار وآراء

قراءة لنتائج المسيرات على الحدود في غزة

27 أكتوبر 2018
27 أكتوبر 2018

د. عبد العاطى محمد -

عندما اندلعت مسيرات الفلسطينيين من أبناء غزة إلى الحدود مع دولة الاحتلال للتظاهر ضد استمرار الحصار منطلقة من إحياء يوم الأرض، استنفر مجلس الوزراء الإسرائيلي (مجلس الحرب) قواه وواصل اجتماعاته لاستقراء الوضع بما في ذلك إمكانية شن حرب موسعة جديدة على القطاع.

وبعد نحو 30 أسبوعا من التظاهر يوم الجمعة مر الوضع بتطورات وحسابات مختلفة من الجانبين خلصت إلى نوع من التهدئة المؤقتة ربما فاجأت الكثيرين، ولكنها قطعا أظهرت تراجعا في الموقف الإسرائيلي وحنكة سياسية من حركة حماس.

منذ مارس 2018 وعند اشتداد الاشتباكات التي ترتب عليها تصاعد القلق الأمني من جانب اليمين الإسرائيلي بخصوص المنطقة الجنوبية، التزم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الحذر ووجه وزراءه إلى عدم التصعيد باستثناء أفيجور ليبرمان وزير الحرب الذي قاد تيار شن حرب جديدة على القطاع. وبرغم الحذر اتجه الجيش الإسرائيلي يوما بعد الآخر إلى تعزيز قواته وعتاده على الحدود فيما جعل المراقبين يترقبون اندلاع العدوان الإسرائيلي المفترض بين لحظة وأخرى. وبمرور الوقت وحلول يوم جمعة جديد كان الآلاف من أبناء القطاع لا يتوقفون عن المسيرات على الحدود ويصطدمون مع قوات الاحتلال ويقع منهم الشهداء الواحد تلو الآخر، الأمر الذي شكل رسالة للحكومة الإسرائيلية أن المقاومة مستمرة والعمل على كسر الحصار الممتد لأكثر من عشر سنوات لن يتوقفا مهما تكن قوة بطش الاحتلال. وزاد من إصرار الفلسطينيين على استمرار المسيرات التي بدت تقليدا جديدا في المقاومة لم يحدث من قبل من حيث عامل التواصل وشجاعة التصدي، أن معاناة أبناء القطاع اشتدت أكثر من أي وقت مضى بسبب الفشل المتواصل لمحاولات المصالحة، وكذلك توقف المساعدات الممنوحة لوكالة غوث اللاجئين من جانب الولايات المتحدة، فضلا عن استمرار إغلاق المعابر وعدم توفير الكهرباء (الطاقة) التي تصل للقطاع من الجانب الإسرائيلي. ومثلت المعاناة ضغطا إقليميا وعالميا بما جعل إنهاء الحصار أو تخفيفه ليس مطلبا سياسيا فحسب، بل هو مطلب إنساني قبل أي شيء آخر حتى لو لم يحدث أي انفراج سياسي في المسار الفلسطيني .

كان من المنطقي أن يتصدر موضوع التهدئة المشهد السياسي في القطاع، الأمر الذي كانت له شواهده من اللحظة الأولى لمنع وقوع عدوان إسرائيلي جديد، وجرت محاولات عديدة للوساطة غير المباشرة بين حماس وإسرائيل للوصول إلى تهدئة ولو شفوية تحت تعبير تهدئة مقابل تهدئة تفضي في كل الأحوال إلى فتح منفذ في جدار الحصار ينقذ نحو 2 مليون فلسطيني من الموت البطيء.

الجانب الإسرائيلي، ووفقا لوسائل إعلامه، ظل يتابع التطورات على الأرض من ناحية وإقليميا ودوليا من ناحية أخرى ليحسم أمره بين الحرب أو قبول التهدئة بشروط. فبعد سبعة أشهر تقريبا من اندلاع مظاهرات الحدود وصلته الرسائل من الإدارة الأمريكية وتحديدا من الرئيس ترامب بأن عليه تخفيف الهجوم ومنع قيامه بحرب جديدة على القطاع بسبب أن الولايات المتحدة على أبواب الانتخابات النصفية للكونجرس (انتخاب عدد محدد من أعضاء مجلس الشيوخ وكل أعضاء مجلس النواب وهم 435 عضوا هذه المرة) ويخشى ترامب الجمهوري أن يخسر الأغلبية التي يتمتع بها حزبه في المجلسين حتى الآن مما يعنى تفوق الديمقراطيين، الأمر الذي يسهل عليهم عزله !، وذلك إذا ما أقدمت إسرائيل على حرب جديدة ضد القطاع. وقال له مستشاروه انه إذا قامت إسرائيل بذلك فستؤدي الحرب إلى قتل المئات من المدنيين الفلسطينيين مما يحرج إدارته جدا ويكون بمثابة ورقة في يد الديمقراطيين لكسب الانتخابات النصفية، وقد طلب ترامب من نتانياهو التوقف عن دق طبول الحرب هذه الفترة لكي تمر الانتخابات لصالحه بسلام.

عامل آخر كان في حسابات نتانياهو هو تقارير كبار العسكريين بأن الحرب سيكون لها ثمنها الباهظ على إسرائيل في كل حال، وشددوا على مخاوفهم من أن اقتراب الجنود الإسرائيليين من الحدود يعني احتمال تعرض بعضهم للأسر من جانب حماس أو غيرها من منظمات المقاومة الأخرى، وهنا ستجد إسرائيل نفسها في ورطة حيث يصعب عليها استرجاع من يتم أسرهم أو تبادلهم بأسرى فلسطينيين هي لا تود بالطبع أن تفرج عنهم .

وعامل ثالث كان في الحسابات هو أن إسرائيل التي تعرضت مؤخرا لانتقادات دولية حادة بسبب ترحيبها بنقل السفارة الأمريكية للقدس، بالنظر إلى ما يشكله ذلك من تحدٍ صارخ للقواعد والقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن، لم تكن في حاجة إلى تصرف عدواني يزيد من نقمة المجتمع الدولي عليها. وقبولها التهدئة يعنى أنها توجه رسالة لهذا المجتمع الدولي بأنها تسعى لاستعادة الشرعية الدولية .

ومن العوامل الأخرى التي ربما لا يتحدث عنها أحد بصراحة سواء من جانب حماس أو إسرائيل أو السلطة الفلسطينية، أن فتح قناة تعاون بين حماس وإسرائيل يمكن أن يشكل رسالة تفيد بأن حماس لها نوع من شرعية الأمر الواقع، وأنها الطرف الأكثر إضرارا بإسرائيل ومن ثم فليكن الحوار معها الآن خاصة أن حكومة نتانياهو تضع في اعتبارها أن علاقاتها مع السلطة في أسوأ فتراتها الآن، خصوصا مع غضب الإدارة الأمريكية الصريح عليها، بالنظر لكل ما طرأ على العلاقات بين الجانبين من خلافات أصبحت معروفة للجميع منذ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإعلان السلطة الفلسطينية أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تعد وسيطا في المفاوضات لأنها لم تعد نزيهة. وليس سرا أن السلطة بوصفها الحكومة الفلسطينية المعترف بها يمكنها التأثير بشكل أو بآخر في كيفية توصيل المساعدات إلى القطاع وكذلك في عملية تزويد دولة الاحتلال له بالطاقة وخلافه من المواد الضرورية التي تنتقل إليه من خلال المعابر. والتهدئة والتعاون غير المباشر بين حماس وإسرائيل تفهمه السلطة على أنه نوع من الضغوط القاسية من جانب إسرائيل عليها لكي تتقبل العودة إلى المفاوضات، فضلا عما يمكن أن يمثله ذلك من إضفاء للشرعية على إدارة حماس للقطاع، الأمر الذي لا تقبله السلطة. وكثيرا ما قال مسؤولو السلطة أنهم لا يريدون إقامة إمارة إسلامية في القطاع بل عودتها تماما لكامل السيطرة للسلطة. إسرائيل تستثمر هذا الوضع الشائك بين حماس والسلطة طالما أن كل محاولات المصالحة تتعثر الواحدة تلو الأخرى.

وأخيرا فإن الأوضاع الإقليمية الراهنة لا تسمح لإسرائيل بأن تباشر حربا أو تدخلا عسكريا مباشرا ولو كان محدودا ضد القطاع، لأن ملفا ساخنا كالملف السوري في طريقه للإغلاق على نجاح رؤية الأسد لتطورات الأزمة التي ضربت بلاده منذ اندلاع ما يسمى بالربيع العربي وأصبح لكل من روسيا وإيران وأيضا تركيا أدوار محورية في الساحة السورية لا تسمح لإسرائيل بأن تنفرد بحرب طائشة ضد القطاع لأن ذلك يزيد وضعها الاستراتيجي الضعيف على تلك الجبهة ضعفا. ومن جهة أخرى تخشى إسرائيل تدخل حزب الله الذي قالت هي نفسها عنه أنه أصبح قوة عسكرية ضاربة يمكن أن تهدد أمنها في الشمال وربما تل أبيب ذاتها. هكذا لا يريد العسكريون الإسرائيليون الإقدام على مغامرة جديدة، وهم الذين يدفعون إلى اعتماد خيار التهدئة. والشرط الوحيد الذي يطرحونه هو أن تلتزم حماس وحلفاؤها في القطاع بالتهدئة بالفعل.

قرأت حماس الموقف الإسرائيلي بظروفه الصعبة، ولذلك رحبت بالتهدئة وأرسلت لإسرائيل ما يفيد بجدية التزامها، وذلك عندما جعلت جمعة يوم 19 أكتوبر هادئة إلى حد ملحوظ بالنظر إلى قلة أعداد من شاركوا فيها، وقيام حماس بتسيير دوريات على السياج الحدودي لمنع المتظاهرين من التقدم. وكذلك تأكيدها بأنها ستحاسب من حاولوا إفساد التهدئة هذه المرة.

الوقود بدأ يعود من إسرائيل إلى القطاع، وربما يتم فتح المعابر التجارية، وقد تسمح إسرائيل بدخول مواد البناء والأدوية ليكون ذلك مؤشرا على إمكانية نجاح التهدئة، وربما تنجح الوساطات الإقليمية في تثبيت التهدئة سياسيا. وعليه تحظى إسرائيل بمنحة أمنية للجنوب، بينما تحظى حماس بكسر محدود للحصار هو في كل حال أفضل من الحصار الكامل. ولكن الشكوك تظل قائمة بكل تأكيد، فما أكثرها تجارب التهدئة السابقة التي منيت بالفشل مع أو انتهاك من جانب هذا الطرف أو ذاك، وربما يتغير الموقف الأمريكي بعد اتضاح نتائج الانتخابات النصفية، والأسوأ هو أن حالة الخلاف بين السلطة وحماس كفيلة بقلب الأوضاع والعودة إلى المربع الأول.