إشراقات

صانعة المجد والحضارة

25 أكتوبر 2018
25 أكتوبر 2018

د.صالح بن سعيد الحوسني -

«إذا قلبنا صفحات تاريخنا المجيد رغم ما أصابه من التلف والضياع والإهمال سنجد أن المرأة كان لها الدور الكبير في صناعة المجد والحضارة وضرب أروع المثل في العمل والاجتهاد والخلق القويم رغم شظف العيش وخشونة الحياة فقد توشحت المرأة العمانية بالهمة العالية، والعزيمة الماضية وتدرعت بالصبر وتسربلت بالخلق الحميد لتقف خلف الرجل تحثه وتخفف عنه وتشاطره تقلبات وظروف الحياة؛ وليس هذا فحسب بل كان للمرأة مشاركة فاعلة في الجوانب العلمية والاجتماعية والسياسية فظهرت منهن الفقيهة العالمة والأديبة الكاتبة والداعية المصلحة»

المرأة هي مربية الأجيال، وقد قيل قديما بأن وراء كل رجل عظيم امرأة، وهو أمر يسري على الأفراد وأيضا على المجتمعات، فمن أمعن النظر في صلاح أي مجتمع وتبوؤه أعلى المراتب والدرجات وجد أن دور المرأة حاضر وبقوة في ذلك؛ فالمرأة هي السند والدعامة للرجل فهي الأم المربية التي حملت الرجل جنينا في بطنها يقاسمها طعامها وشرابها، تكلفت في الحمل شهورا من المعاناة والتعب والإرهاق حتى إذا ما حانت ساعة ميلاد طفلها كادت أن تخرج روحها بخروج جنينها لتبدأ رحلة شاقة من الرعاية والعناية بشتى صورها وألوانها فهي تجوع ليشبع ولدها، وتظمأ ليروى طفلها، وتتألم ليفرح ولدها.. وكم ليلة باتت ساهرة تعتني بطفلها تقوم بشأنه، وما يحتاجه من شتى صور الرعاية والعناية حتى يتدرج من مرحلة إلى أخرى، وهي تلاحقه بتوجيهها وإرشاداتها القويمة ودعائها المتلاحق راجية أن يكون ذلك الابن قرة عين لها نافعا صالحا يحقق الخير ويلتزم به.

ولم يكد هذا الابن الذي تتوالى عليه نسمات الأم الحانية يصل إلى مبلغ الرجال حتى يقترن بتلك المرأة التي اختارها لتكون رفيقة لدربه ومشواره فتستقر نفسه بزوجة صالحة تقية تكون بينهما المودة والرحمة والألفة والمحبة تعينه على أعباء الحياة وتقف معه في المصائب والأحزان، تشجعه على الخير وتمنعه من الشر، وترسم له خارطة الحياة السعيدة في حديثها وأنسها وهمتها ونشاطها، فتنبعث نفسه متوشحة بلباس العزيمة والإرادة الماضية مقبلا على معالي الأمور متحفزا لبذل المزيد من الجهد والعمل وهكذا هي حياة الرجل تدور عجلتها بين أمه التي حملت به وربته حتى صار شابا لينتقل بعدها إلى دثار زوجة صالحة تشد من أزره وتعينه حتى يواريه الثرى.

وماذا عسى أن يكتب الكاتبون أو يتحدث المتحدثون عن دور المرأة في حياة الأفراد والشعوب إلا أن يقولوا أن المرأة هي كل المجتمع لأنها تشكل نصف المجتمع وتلد وتربي النصف الآخر؛ وصدق القائل إذ يقول:

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق

الأم روض إن تعده الحيا بالري أورق أيما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الأولى شغلت مآثرهم مدى الآفاق

ويكفيها فخرا أن المولى سبحانه وتعالى قد ضرب المثل لأهل الإيمان بامرأتين هما زوجة فرعون ومريم ابنة عمران عليهما السلام لتظل المرأة بوصلة للمهتدين ومنارة شامخة تهدي المتحيرين.

وإذا قلبنا صفحات تاريخنا المجيد رغم ما أصابه من التلف والضياع والإهمال إلا أن المرأة كان لها الدور الكبير في صناعة المجد والحضارة وضرب أروع المثل في العمل والاجتهاد والخلق القويم رغم شظف العيش وخشونة الحياة فقد توشحت المرأة العمانية بالهمة العالية، والعزيمة الماضية وتدرعت بالصبر وتسربلت بالخلق الحميد لتقف خلف الرجل تحثه وتخفف عنه وتشاطره تقلبات وظروف الحياة؛ فقد كانت المرأة العمانية مشاركة لزوجها في الزراعة، وما تحتاجه من سقي وغرس ومتابعة، وكان يومها في حركة دائبة وجد لا يعرف الخمول والكسل؛ وكم كانت تنقل المياه على رأسها إلى بيت زوجها، بجانب رعايتها لأطفالها وتعليمهم، وكذا الحال في اهتمامها بما عندها من حيوانات وأنعام.. ومع كل هذا العناء والتعب فقد عُرف عنها الصبر والقناعة والرضا بما قسمه الله من أرزاق، وقد يضطر زوجها للسفر عنها طلبا للرزق فكانت نعم الزوجة الأمينة التي تحفظ زوجها في نفسها وماله وولده حتى يعود بعد فترات كثيرا ما تطول بسبب صعوبة الحياة وكثرة التغرب بحثا عن الرزق ولقمة العيش، وكم قامت بدور الأب مع دورها في التربية والتنشئة والتعليم لأولادها، حتى تخرجت أجيال صالحة كان مضرب المثل في أفعالهم وأخلاقهم وأقوالهم.

وليس هذا فحسب بل كان للمرأة مشاركة فاعلة في الجوانب العلمية والاجتماعية والسياسية فظهرت منهن الفقيهة العالمة والأديبة الكاتبة والداعية المصلحة فمن أولئك الفقيهات المفتيات العالمة الكفيفة عائشة بنت راشد الريامية التي عاشت في القرن الثاني عشر الهجري، وكانت مضرب المثل في الورع والزهد والتقوى، بجانب حرصها على طلب العلم والرحلة إليه وهو ما دعاها للسفر من بهلا إلى الرستاق والتي كانت إحدى حواضر العلم في عهد الأئمة اليعاربة، وأخذت العلم عن عدد من العلماء وفاقت في ذلك الكثير من علماء عصرها بل وأصبحت مرجع الرجال والنساء في الفتوى، وقد تركت ثروة كبيرة من الفتاوى جمعت في مجلدين باسم جوابات الشيخة عائشة، وكانت مغرمة باقتناء الكتب والإعانة على نسخها، ومن أولئك النساء اللاتي حفظ التأريخ مآثرهن سالمة بنت علي بن حميد الحجرية والتي كانت من العالمات الجليلات وكانت لها مكتبة تضم الكثير من فنون العلم.

وقد كان للمرأة العمانية عناية كبيرة بالتعليم والتدريس والنصح والإرشاد وخاصة لبنات جنسهن؛ ومن أولئكم شيخة بنت علي بن عامر الحجرية والتي عاشت في القرن الرابع عشر الهجري وكانت عابدة ناسكة تعلم العجائز القرآن الكريم، ويقصدها الفتيات للتفقه في أمور دينهن، ومنهن أيضا شيخة بنت هلال بن زاهر الهنائية من الرستاق، وقد كانت تجلس بين العشاءين تعلم النساء أمور دينهن وتتعهدهن بالنصح والتوجيه والعناية، وكانت تؤم النساء في صلاة القيام في رمضان، ومن أولئك اللاتي اشتغلن بتعليم القرآن للناشئة وللنساء سالمة بنت سويف المصلحية من ولاية بدية فقد كانت عابدة قانتة وتحفظ قدرا كبيرا من القرآن الكريم.

ولم يكن اهتمام العمانيات مقتصرا على حفظ القرآن وتعليمه وجوانب الفقه فقط بل كان لهن مشاركة فاعلة في جوانب الأدب والشعر فقد أسهمت البيئة العمانية في صقل تلك المواهب ففاضت القرائح بطريف الأدب وجميل الشعر وممن برع في الشعر والأدب الأديبة الصالحة عائشة بنت عيسى بن صالح الحارثية وقد نشأت في بيت علم وفضل وبدأت في نظم الشعر منذ صغرها وله قصائد عديدة في السلوك والقيم والأخلاق، ومن تلك النساء نضيرة بنت العبد الريامية، وهي من ولاية منح في داخلية عمان، وقد بلغت منزلة كبيرة في العلم والفقه، وكانت تنظم الشعر ولها أراجيز فقهية، وقد أثر عنها أنها مدحت الإمام الخليلي في قصيدة غراء يتداول الناس شيئا منها.

وأما في جوانب العمل التطوعي والأوقاف الخيرية فقد كانت إسهامات المرأة العمانية واضحة وكثيرة بل هي تفوق الحصر فإنشاء المدارس وعمارة المساجد ووقف المزارع والبيوت ونحوها جوانب كان للمرأة العمانية الدور الأبرز والواضح ومن ذلك على سبيل المثال السيدة ثريا بنت محمد بن عزان البوسعيدية التي أوقفت مجموعة من البساتين لعمارة المساجد، وقد كانت تتصف بالكرم والسخاء وقد عينت الشيخ سليمان بن زهران الريامي وكيلا لها عن التدريس في المسجد الذي أوقفت له أحد البساتين الكبيرة ولذلك لتوزيع النفقة على الدارسين وطلاب العلم، وقد انتفع خلق كثير من ذلك، ومن أولئك أيضا عائشة بنت الشيح محمد بن يوسف العبرية التي عاشت في القرن الثاني عشر الهجري، وهي امرأة سخية كريمة بجانب ما شهر عنها من زهد وعبادة وتبتل وقد بذلت أموالها في سبيل الله، ومن آثارها التي ما زالت موجودة في بلدة الحمراء بناء مسجد الصاروج، وقد أوقفت له الكثير من الأوقاف.

وكان للمرأة العمانية مشاركة فاعلة في الجوانب السياسية وصنع القرار فكثيرا ما تتدخل بالصلح ورأب الصدع وجمع الكلمة والوقوف في وجه الظالم وإعانة الضعيف وغيرها من الأعمال التي تنم عن حب للخير وسعي للمعروف كما هو الشأن في مواقف الشيخة عائشة بنت راشد الريامية والتي كان لها دور كبير في قضية عزل الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي بعد الصراع مع أخيه سيف بن سلطان، وغيرها من الأمثلة والتي وثقت بعضا منها كتب التاريخ.

وفي هذا العصر وما يقع من التقارب الشديد بين الأمم والشعوب وتداخل الأفكار وسرعة انتقالها يستدعي ضرورة القيام بمهمة العناية بجانب التنشئة السليمة للمرأة خوفا عليها من الدخيل المستهجن ولتظل تلك الصورة الناصعة والسامية للمرأة العمانية في مكانها اللائق بها وذلك بتعميق جوانب الإيمان في القلوب والحرص على تلقي قدر كاف من القرآن الكريم والاهتمام بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أمهات المؤمنين لتتخذها الناس قدوة لها وأهمية اطلاع الأجيال الحاضرة من النساء عن سيرة المرأة العمانية الزاكية مع ضرورة الاهتمام بمناهج التعليم وترسيخ جوانب القيم والأخلاق في البيت والشارع والمدرسة وأماكن العمل وعدم التساهل في الإخلال بجوانب الحشمة والستر والصيانة مع مراعاة الحذر من الاختلاط والسفور وإثارة الغرائز بإظهار الزينة والاهتمام البالغ بالتربية الأسرية وتجنيب النساء والبنات حياة الترهل والكسل والخمول التي هي من مفاتيح الشرور والضرر البالغ وهذا كله لأجل أن يتواصل هذا الجيل الحاضر بجيل تلك النساء الطاهرات الكريمات اللاتي صنعن فصولا كبيرة من هذه الحضارة العظيمة لهذا البلد الكريم.