1019182
1019182
المنوعات

من «مكاشفات» الحجاج إلى ثورات الربيع العربي

24 أكتوبر 2018
24 أكتوبر 2018

قليلة هي النصوص المسرحية اليوم، التي يحرص كتابها أو المعدّون لها، خلق مساحات واسعة للتأويل والتخيّل، لا سيما، النصوص التي تقترب لتناول منظومة السلطة ودكتاتورية الطغاة. وتعود سذاجة التناول لدى بعض نصوص المسرح العربي المعاصر، إلى فقر في الثقافة، واستسهال في المعالجة، وتوقف عند سطح المعجم، ما يُصيب المخيلة بالضحالة، فترسم الشخصيات بأسلوب نمطي فج، وتأتي العبارات مباشرة. وتعدّ مسرحية “مكاشفات” التي أعدّها المسرحي الراحل (قاسم محمد) كما وصفها الشاعر عبد الرزاق الربيعي “شجرة خالدة” من شجرات حديقة عراقية عربية غناء، زرعها مبدعون وأدباء كبارا- من المسرحيات الشعرية المستفزة، لجمالها واعتنائها بتعدد التأويلات، وانزياح ألفاظها عن المباشرة..

وبعد أن قرأت النص تذكرت مقولة مهمة للمرحوم (قاسم محمد) قالها في لقاء، “إن المسرح هو ظاهرة أعلى من الحياة بدرجة”. وتتضمن هذه المقولة، دعوة واضحة إلى خلخلة عناصر الحياة وتراتبية العلاقات والموجودات. وهذا ما يكشف عنه نص (مكاشفات) الذي شاركت به (الفرقة الوطنية للتمثيل) في مهرجان الدن العربي للمسرح (التسامح والسلام) خلال الفترة 7-12 أكتوبر 2018م على مسرح كلية الخليج، تمثيل (د. شذى سالم) بدور عائشة بنت طلحة، و(عزيز خيون) بدور الحجاج بن يوسف الثقفي، و(فاضل عباس آل يحيى) بدور خادم العرض، وسينوغرافيا (علي السوداني) أما سيناريو العرض والإخراج (غانم حميد).

وهناك، مقولة ثانية أراها تتصل بالمقولة السابقة إلى حد كبير للشاعر (لوركا): “إن مسرحا لا يترجم مطامع المجتمع وتاريخه، واللون الأصلي لمظهره الخارجي والباطني، لا يغدو مسرحا حقيقيا، بل لا يمكنه أن يكون سوى قاعة للتسلية، أو مجرد مكان نمارس فيه ذلك الشيء السخيف الذي نسميه ضياع الوقت”. فهل مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع.. إلى التسامح والسلام والحرية والديمقراطية والعدالة والكرامة الإنسانية؟

وللصورة بعدان، ألا يشبه حالنا العربي بدرجة من الدرجات، حال الوضع العراقي في (مكاشفات)؟ يكتب قاسم واصفا الحال على لسان عائشة:

“والدم ؟ والأعناق المقطوعة غدرا؟

والموتى في ليل سجونك صبرا؟

وأكف الناس المصلوبة فوق الجدران؟

والرعب المزروع بأفئدة النسوة والولدان؟

والخوف المتنقل في الطرقات المغلقة؟

وكأن جميع الناس على فوهة بركان

أن حاذر. . حاذر. . حاذر

سيف الحجاج قريب منك.”

إنها، صورة قاتمة يجددها المسرح المتجدد دوما، والنص النابض بالحياة والمحبة والجمال، حتى يرى كلّ إنسان دكتاتوره الخاص.

(2)

ما الذي يقلق المواطن العربي ويشغله اليوم؟ الحرية أم الخبز؟

أيكون الحجاج عاشقا؟ هل يمكن للحاكم الدكتاتور أن يقع في الحب؟

متى كتب قاسم محمد نص المسرحية؟ إذا كان قد كتبها قبل عشرين سنة، فإن خاتمة النص التي بين أيدينا تعود إلى شغل الدراماتورجي أو المخرج (غانم محمد) وهو اشتغال جاء ليناسب الواقع السياسي المعاصر للشعوب العربية.

وهذا يفيد في كشف اختبار التوافق الحاصل بين النص والمخرج. فعلى المخرج المغامر باختياراته المتماسة مع الواقع الاجتماعي، ألاّ يكتفي بمشاكسة النص مشاكسة نائمة فوق السطح، بل يغوص إلى أعماقه وما تحت سطوره من زرع، ليخلق حوارا خصبا وجدليا، ليتم مشاهدته، واستقبال قراءاته المختلفة. وتبلور اشتغال المخرج بإذكاء القراءة بتوظيف اللهجة العراقية الدارجة في عدة مواطن بالنص، الهدف منه، تجسير الفجوة المتسعة بين المسرح الشعري والجمهور.

“عائشة: آني راح أتصل.

الحجاج: اتصلي، بيمن تردين تتصلين اتصلي.

عائشة: بس تعرف آني بيمن راح أتصل؟؟

الحجاج: (يهز خصره) بيمن عيني؟

عائشة: راح أتصل بأبو مقداد”.

(3)

يُحسب للنص مآثر عدة هي:

أولا: استثمار التراث العربي والإسلامي في بعده الإشكالي باختيار شخصية خلافية وصدامية هي شخصية (الحجاج الثقفي) الذي يُنسب إليه القول المأثور:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

إلى آخر القصيدة.. فلا نكتفي في (مكاشفات) بمشاهدة الحجاج متسلطا ومتملكا وقاتلا ومتلذذا بالعنف - وهذا المعروف عنه - بل إن (قاسم محمد) يستبطن داخل الشخصية وأعماقها، فيخلق لنا حجاجا عاشقا!! وبتقديري، ففي ظل ما سطره التاريخ لنا عن شخصية هذا الدكتاتور، لا يمكن تناولها اليوم إلاّ على النحو الذي جاءت به في النص. يقول الحجاج:

“الليل عميق وطويل، وظلام الليل عبد شرس في وجه

القنديل ورحيلك يا سيدتي سفر في التيه ومن غير دليل”

وهذه القصدية، تخلخل بنية الشخصية في ثقافتنا، وتفكك المرجعيات، فالحجاج المعاصر في أزمة، وهذا هو المستحدث. تسأل (عائشة) : “أيكون الإنسان هو الحجاج؟ أيكون العاشق هو الحجاج؟ ويكون الماضون من العشاق نزوات طارئة أو زهر بري في مستنقع هذي الدنيا؟”.

وفي موقف آخر: “هل أبصر فيك كيانًا يُفرحه السلم ويسكره الحب؟ ولك وراء الحجاج المألوف حجاج آخر”!.

وكما يمتلك قاسم محمد كل الحرية في التعبير عن رؤيته للمجتمع وللنص وللعالم وللفن، فيختار زاوية مختلفة للتناول تتناسب وفكره وموقفه النقدي أو الفكري تجاه العالم، فإنّ للجمهور كطرف مشارك في لعبة التلقي، له كل الحرية في قبول عمل المبدع، وله حرية تأويله، منطلقا من مخزونه الثقافي وذاكرته الانفعالية، فالأمر لا يتعلق بشخصية كلاسيكية جدلية فحسب، بل بدكتاتور عاشق.

وعن هذه الحرية الكاملة والمتاحة لجأ المُعّد في اختياره لبناء (مكاشفات) الحجاج مستندا إلى “مكاشفات عائشة بنت طلحة” للمؤلف (خالد محيي الدين البرادعي 1943-2008م)، شاعر من مواليد مدينة بيرود بسوريا، كتب في النثر والنقد والمسرح الشعري، وامتازت أعماله بخصائص مميزة أهمها، أنها “جاءت مزيجا من التدفق العروبي والروح الإسلامية، واستطاع أن يعيد صياغة بعض شرائح ورموز التراث العربي والإسلامي لتحيا بصورة متجددة ومعاصرة”.

والسند الثاني، مسرحية “أنا ابن جلا” للأديب (محمود تيمور 1849-1973م).

ويمكن، عند هذه النقطة، بالاستناد إلى نسخة (مكاشفات) التي قرأناها، أن تحيل نهاية المسرحية بالضرب على طبول الثورة القادمة من (تونس ومصر والعراق) عن الحس القومي بالعروبة وتمسك المستنيرين والمناضلين والأخيار فيها، بخيار الثورات والنزول إلى الشوارع، وهو سلوك يكشف أو يشف عن تمسك الإنسان العربي بوحدته وحلمه ولو كان اللحن حزينا. وهو ما يرشح، كفة القصدية وأهدافها، التي لجأ إليها قاسم محمد عند إعداد النص.

كما، أن نزول الحجاج إلى المظاهرة في آخر المسرحية، ما يشير إلى أن الطغاة لن يتزحزحوا من فوق كراسيهم، إلاّ بمواجهتهم وإرغامهم على التنحي ومغادرة كرسي الحكم.

ثانيا: اشتغال النص على أهمية وجود المتلقي، ودوره في إثراء لعبة التأويل. فالنص ينحاز إلى فعل التلقي على مستوى يوازي أو يقابل انحيازه إلى ضرورة مجابهة سلطة كل دكتاتور.

ولتدليل على أهمية التأويل، ما جاء من حوار على لسان الحجاج في عدة مواقف، بقوله: “الفتنة عمياء يا عائشة وسيف الفارس فيها أعمى”. فإذا وقف المتلقي عند دلالات كلمة “السيف” التي جاء ذكرها بالنص (٤٣) مرة، موزعة بين ٢٠ مرة لكلمة “السيف”، و١٩ مرة لكلمة “سيفهِ”، و٤ مرات لكلمة “سيوف، يكشف لنا عن اختلال معنى “السيف” واستخداماته. فالسيف لا يستعمل في معناه المرجعي كالنخوة والقوة والحماية والذود عن الأعراض والأوطان، بل يتحول إلى أداة للقتل وشهوة للدم، ويصيرمحل كلّ الشكوك في سياق العصر!

ومن أمثلة التأويل، التي تنزاح عن معناها السطحي فاسحة المجال للمتلقي، ما جاء في مشهد دخول شخصية (فاضل) حاملا حقيبة “المطهرجي”! إذّ يتبادل الثلاثة معا لفظة “الطٌهر” بمعاني ذات دلالات متباينة:

الحجاج: أطهرْكْم كُلكم.

عائشة: هذا حالنا من مطهرجي لمطهرجي.

الحجاج: بس كل واحد وأسلوبه.

فالمراد، من التأويل هنا، (بحسب تاج العروس) هو صرف الكلام عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، بحيث تكتسب الكلمة معنًى جديدا، وهي عملية نفسية شاقة، إذّ تعتمد اعتمادا كبيرا على ذهن المتلقي وثقافته، والهدف منها الوصول إلى معاني لتحقيق ما يُطلح عليه بمعنى المعنى.

ومن المفردات الأخرى، التي اشتغل عليها النص، فاسحا المجال لمخزون المتلقي، نذكر مواطن هذه المفردات ومرات تكرارها واختلاف سياقتها باتساع دلالاتها المتناقضة: “المنبر” ٤٥ مرة، “الأمن” ١٣ مرة، “الخوف” ٨ مرات، “القتل والقتلة والقتلى” ٦ مرات.

ثالثا: من مآثر جماليات النص، تكوينه من أربعة مكاشفات. وانتقاله من مكاشفة إلى أخرى لبناء مفهوم “المحاججة”. فكل مكاشفة أُعدت تصاعديا، فتسير على خط الكتابة التقليدية، لكنها على مستوي البنية الكلية للنص، تستثمر بعض المرتكزات البرشتية، ككسر أفق توقع المتلقي للمنظور الذي يرى (الحجاج) نفسه من خلاله إلى قضايا الأمن والسلام والسلامة، حيث جاء ذكرهما لمرة واحدة، في مقابل كلمة الخوف فذكرت ٨ مرات. والمدهش في النص، هي ما كان يسوقه الحجاج بن يوسف الثقفي من تبريرات ومحاججات لتثبيت حكمه وحماية طغيانه، وهو ما يمكن أن يقوله خطاب الإنسان العربي المعاصر موسعا من دائرة انزياح المرجع. يقول الحجاج محاججا عائشة:

“عمرت، حفرت، استخرجت، فرشت، وزرعت، أبعدت كل سراب، ضربت النقود، حميت الحدود، نظمت الجنود، ضبطت الأمن، عرّبت الدواوين”.

ومن أمثلة كسر التقليدية بالنص، استخدام وسائل التواصل الحديثة كالهاتف، والسيكار، وكذلك تغريب مناخ المسرحية مكانا وزمانا بوسائل مختلفة، كالمزج بين أسلوبين، الفصحى واللهجة العراقية، ولهجة ثالثة جاءت على لسان خادم العرض، والمزج بين زمنين معاصر وتاريخي، يهدف هذا كله، إلى تقديم معالجة تنبض بهموم الشارع العربي ومواجعه.

والتكرار، الشائع بالنص لمفردات قد أشرنا إلى بعضها، هو ظاهرة أسلوبية حققت قيمة جمالية بالنصّ، وعبّرت عن معاني عديدة، وآفاق انتظارية للمتلقين. والمعنى العام للتكرار بحسب (الجرجاني والزبيدي)، معناه “الإعادة والترديد”.

نستمع، على لسان (عائشة بنت طلحة)، ما يدل على عناية قاسم محمد بالبعد النفسي للكلام ومدى تأثيره في السامع، وهذا، يعني، أن المقولة المركزية للنص لا تقف عند سطح ألفاظ “السلام”، ولا “الحرية”، ولا “العدالة الاجتماعية”، بل هي دعوة إلى تأكيد فعل المقاومة الحرة الشريفة، والنضال الحر الأبي، ودعوة إلى الجمال، ونبذ الكراهية والعنف والتكفير والإرهاب بجميع أشكالها، المادية والرمزية.

وعند الإشارة إلى البعد النفسي، ينبغي علينا تأمل نغمة الحوار بالمسرحية، فقد مزجت بين ألفاظ دالة على الحياة المعاصرة “الأحزاب” مثلا، وألفاظ تطلع من الثقافة الدينية ولغة الأمة؛ “جو الآذان، والقرآن، والأحاديث النبوية، وجو صلاة التراويح”، بالإضافة إلى ذلك الملمح، فلغة المسرحية، وحواراتها، بها من التحدي والترقب والتصالح والطمأنينة والسكينة والاستسلام، ما يقابل ألفاظ الهجوم والتقريع. فجاءت خصائص حوارات (الحجاج) عالية النبرة والغرور، والزهو والشعور بالعظمة، في مقابل أن عائشة بنت طلحة، حينما تستخدمها نفسيا، تمنحها شعورا مختلفا تماما عن استخدام (الحجاج) لها، وذلك ما يُعرف بمناسبة الأقوال مع مناسبة الأفعال في سياق تحول المواقف وتصاعد الأحداث بالوظيفة الدرامية للموقف. وهذا وعي كبير كان يعيه (قاسم محمد) وهو ينقلنا بالصراع الدرامي من الخارج إلى الداخل، ومن السطح إلى العمق.

(4)

الحجاج : (ينهض بحزم، ويدفع عائشة إلى جانب اليسار حتى تسقط على الأرض ويرتقي المنبر)

وأنا القادر أن أنهي الجولة، أسرار المعركة معي.

عائشة: (وهي على الأرض)

ألأنك مغوار؟ أم لأنك ألمعي؟

الحجاج: لا... أفهم ضعفهم.

(ثم للجمهور) أفهم ضعفكم.

(لعائشة) أفهم حمقهم.

(للجمهور) أفهم حمقكم.

(لعائشة) أفهم أنهم يندفعون بشدة في بدايتهم، لكنهم بشدة أيضًا، يتخلون عن حماستهم.

(للجمهور) خيركم في خلافه يغرق. إنكم ما أن تجتمعوا

حتى تتفرقوا، وكثير منكم يتخلى عن ثورته لينحاز إلي

(ثم بحركة ملاكمة)

وأنا أضرب بمقبلكم مدبركم، وأضرب بمطيعكم عاصيكم..

حسبكم هذا الهذر ، هذر الخير وهذر الشر”

مهما كان لسانك يا (حجاج)، ومهما كان الواقع العربي قاسيا ومظلما، فلا نهاية للطغاة الذين لا تتم محاكمتهم إلاّ بمزيد من التضحيات. الطغاة سيبقون وسيتناسلون بفعل الموالين لهم. وهذا ما يرد على لسان عائشة بنت طلحة، في إثر صرخة (عبدالملك بن مروان) التي أطلق في بداية النصّ: “من للعراق من؟”.

إن البطانة الفاسدة موجودة بوجود الدكتاتور، فإذا هو ذهب وغادر السلطة، لا يزال موجودا في الخطاب الذي يُمجده، ويُعيد إنتاجه في في صيغ مفككة (الأب الحاكم، أو الأب العود). وهذا الخطاب بالمسرحية، يُدين الساكت عن الحق، وبه إدانة صريحة تارة، ومضمرة تارة أخرى موجهة إلى العلماء والمؤتمنين على أقوات الشعوب ومن في حكمهم، وإدانة المرتزقة عبر التاريخ، كالشاعر، والكاذب، والمارق، ومن ندماء وظرفاء أحنى الخوف رقابهم ونسوا لغة الأمة، والحاملُ في كل مناسبة وجهين”.

وبتوقيع مُعّد مسرحية (مكاشفات)، المسرحي الراحل قاسم محمد، أو “شيطان المسرح”؛ كما أطلقه عليه (غائب طعمة فرمان)، إن النضال لتحرير الشعوب من الطغاة مستمر.

مراجعنا:

- مسرحية مكاشفات.

- نقلا عن جريدة الرياض 17 ديسمبر 2008م العدد 14786” http:/‏‏‏/‏‏‏www.alriyadh.com/‏‏‏395550