أفكار وآراء

الجغرافيا الجديدة للابتكار

24 أكتوبر 2018
24 أكتوبر 2018

الإيكونومست – ترجمة قاسم مكي -

«مثل فلورنسا في عصر النهضة». هذا هو التشبيه المعتاد لنمط الحياة في وادي السيلِكُون أو العاصمة التقنية لأمريكا. إن تأثير هذه الشريحة الصغيرة من الأرض الممتدة من سان جوزيه إلى سان فرانسيسكو على اقتصاد وبورصات وثقافة العالم يفوق المألوف. فالوادي مقر لثلاث من أغنى خمس شركات في العالم. وتدعي شركات عملاقة مثل آبل وفيسبوك وجووجل ونيتفيكس أنه مسقط رأسها وموطنها. كما تقول بذلك أيضا شركات مثل آير بي اند بي وتيسلا وأوبر. يحتل اقتصاد منطقة خليج سان فرنسيسكو المركز التاسع عشر في الترتيب العالمي متفوقا بذلك على سويسرا وبلدان أخرى غيرها. وادي السيلِكُون ليس مكانا فقط بل فكرة أيضا. فمنذ بدأ بل هيوليت وديفيد باكارد نشاطهما في مرآب سيارات قبل 80 عاما صار اسمه مرادفا للابتكار والقدرة على الإبداع. لقد ظل متموضعا في قلب دورات تدمير وتجديد عديدة (جسدت مفهوم التدمير الخلاق) الذي نَظَّرَ له (الاقتصادي النمساوي) شومبيتر في مجال شرائح السيلِكُون وأجهزة الحاسب الآلي والبرمجيات وخدمات الإنترنت. حقا كانت بعض ابتكاراته فَكِهَة مثل أوعية تحضير الشاي المتصلة بالإنترنت أو برنامج بيع العملات المعدنية لاستخدامها في مغاسل الملابس. ولكن لديه ابتكارات أخرى لا تُبَارَى. فشرائح المعالجات المتناهية الصغر وقواعد البيانات والهواتف الذكية كلها تنسب أصولها إلى وادي السيلِكُون الذي بفضل جمعه بين الخبرة الهندسية وشبكات الأعمال المزدهرة ووفرة رأس المال والجامعات القوية وثقافة ركوب المخاطر يستحيل استنساخه في مكان آخر رغم المحاولات العديدة. ولا يوجد منافس جاد له بوصفه مركز الابتكارات الأبرز في العالم. لكن هنالك مؤشرات على أن نفوذه يصل الآن إلى ذروته (التي لا ذروة له بعدها). وإذا كان ذلك مجرد مظهر لتكاثر الابتكارات في أماكن أخرى فسيكون مدعاة للابتهاج. لكن الحقيقة ليست كذلك. فأولا، تشير الأدلة إلى أن شيئا ما يتغير. في العام الماضي كان عدد الأمريكيين الذين تركوا مقاطعة سان فرانسيسكو أكثر من القادمين إليها. وحسب مسح جرى مؤخرا ذكر 45% ممن استطلعت آراؤهم أنهم يخططون لمغادرة خليج سان فرانسيسكو في السنوات القليلة القادمة. وكانت هذه النسبة 34% في عام 2016. لذلك تتجه شركات ناشئة عديدة إلى أماكن أخرى مؤسسة بذلك اتجاها أطلق عليه وصف «الرحيل بعيدا عن وادي السيلِكُون». من بين هؤلاء الراحلين بيتر تيل الذي ربما هو أشهر رأسمالي مغامر في الوادي.

ففي عام 2013 وضع مستثمرو وادي السيلِكُون نصف أموالهم في شركات ناشئة خارج منطقة خليج سان فرانسيسكو ويقترب حجمها الآن من الثلثين. أسباب هذا التحول عديدة لكن من بين أهمها غلاء الحياة في الوادي. فتكلفة المعيشة هناك من بين الأعلى في العالم. ووفقا لحسابات أحد مؤسسي الشركات تدفع الشركات الناشئة الجديدة للعمل في منطقة الخليج ما يساوي على الأقل أربعة أضعاف ما تدفعه في معظم المدن الأمريكية. كما تقدم التقنيات الجديدة من الحوسبة الكمومية إلى البيولوجيا التخليقية هوامش ربحية أكثر انخفاضا من أرباح خدمات الإنترنت مما يزيد من أهمية اتجاه الشركات الناشئة في هذه الحقول الجديدة للاقتصاد في إنفاق أموالها. كل هذا قبل وضع حساب للجوانب السلبية للحياة في منطقة خليج سان فرانسيسكو من شاكلة ازدحام حركة السير وحقن المخدرات المتناثرة في الأماكن العامة والافتقار الصادم للمساواة. نتيجة لذلك تزداد نسبيا أهمية مدن أخرى. فمؤسسة كوفمان وهي مجموعة غير ربحية تتولى رصد حركة ريادة الأعمال تصنف الآن منطقة ميامي فورت لودرديل في المركز الأول لنشاط الشركات الناشئة في أمريكا وذلك على أساس الكثافة العددية للشركات ورواد الأعمال. وينتقل المستثمر تيل إلى لوس أنجلوس التي تزدهر فيها التقنية. كما تحولت مدينتا فينيكس وبيتسبيرج إلى مركز للسيارات ذاتية القيادة ونيويورك إلى مركز للشركات الناشئة في مجال الإعلام ولندن إلى مركز للتقنية المالية وشينزين إلى مركز لعتاد الحاسب الآلي. لا يمكن لأي من هذه الأماكن منافسة وادي السيلِكُون بمفردها. ولكنها تشير في مجموعها إلى أن العالم يشهد المزيد من التوزيع الجغرافي للابتكار. وإذا أمكن للأفكار العظيمة أن تظهر في المزيد من الأماكن فيجب الترحيب بذلك. هنالك بعض ما يستدعي الاعتقاد بأن ملعب الابتكار يجري توسيعه حقا (لإفساح مجال الابتكار للآخرين). فرأس المال في متناول الشركات الناشئة والواعدة في كل مكان. ويبحث مستثمرو التقنية عن الفرص الجديدة حول العالم وليس فقط في كاليفورنيا. إنَّ الأسباب التي تبرر وجود مركز إشعاع وحيد للتقنية هي اليوم أقل مما في الماضي. فبفضل الأدوات التي انتجتها شركات وادي السيلِكُون نفسه من هواتف ذكية إلى مكالمات الفيديو إلى برمجيات الرسائل أمكن لفرق الابتكار الآن العمل بفعالية من مكاتب وأمكنة مختلفة. وربما سيكون التوزيع الأكثر عدالة أحد نتائج ذلك. وكذلك تنوع الفكر. إن وادي السيلِكُون ينجز أشياء عديدة بطرائق جيدة على نحو لافت. والمشكلة هي أن الملعب الأوسع للابتكار يجري تضييقه. إحدى القضايا في هذا الخصوص تتمثل في هيمنة شركات التقنية العملاقة. فالشركات الناشئة وخصوصا تلك العاملة في قطاع خدمات الإنترنت الاستهلاكية تواجه عنتا متزايدا في اجتذاب رأس المال تحت ظل ألفابيت وآبل ويسبوك وأمثالها. في عام 2017 انخفض عدد جولات التمويل الأولى في أمريكا بحوالي 22% قياسا بعددها عام 2012. وتدفع ألفابيت وفيسبوك لموظفيها رواتب سخية. لذلك تجد الشركات الناشئة صعوبة في اجتذاب المواهب. (الراتب الوَسَطِي بشركة فيسبوك يساوي 240000 ألف دولار في السنة). وحين تكون فرص نجاح الشركة الناشئة أقل يقينا والعائد لا يختلف كثيرا عن عائد الوظيفة المنتظمة في واحدة من الشركات العملاقة سيتأثر الحراك. ولا يحدث هذا في وادي السيلِكُون فقط لكن في الصين أيضا. فشركات على بابا وبايدو وتينسنت مسؤولة عما يقرب من نصف استثمارات رأس المال المغامر المحلي في الصين مما يمنح هذه الشركات العملاقة تأثيرا كبيرا على مستقبل المنافسين المحتملين لها. الطريقة الثانية التي يتم بها تقليص ملعب الابتكار هي السياسات غير الودية في الغرب. إن تزايد مشاعر العداء للأجانب والتشدد في أنظمة منح التأشيرة على نحو ما استحدثه الرئيس دونالد ترامب يؤثران على الاقتصاد برمته. فرواد الأعمال الأجانب يؤسسون حوالى 25% من الشركات الجديدة في أمريكا. وكان وادي السيلِكُون قد ازدهر في البداية إلى حد كبير بسبب سخاء (هبات) الحكومة. لكن إنفاق الدولة على الجامعات الحكومية في كل أرجاء أمريكا وأوروبا تقلص منذ الأزمة المالية في عام 2007-2008. والتمويل المتاح للأبحاث الأساسية غير كاف ويتجه نحو المزيد من الانخفاض. فإنفاق الحكومة الفيدرالية في أمريكا على البحث والتطوير كان يساوي 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015. وهذه النسبة تشكل ثلث حجم إنفاقها في عام 1964.

وإذا كان التدهور النسبي لوادي السيلِكُون إيذانا بظهور شبكة عالمية لمراكز تقنية منافسة ومزدهرة فهذا شيء يجب الاحتفاء به. لكن لسوء الحظ يبدو أن بلوغ الوادي «ذروته» أقرب إلى أن يكون إنذارا بأن الابتكار يتجه إلى أن يكون أصعب منالا في كل مكان.