1018318
1018318
المنوعات

صدور الأعمال الكاملة للشاعر عبدالله الخليلي .. ومحققه سعيد النعماني لـعمان : غايتـي خـدمة تراث أمير البيان بصـورة تجعل فهمه في متناول جميع المستويات المعرفية

21 أكتوبر 2018
21 أكتوبر 2018

أجرى الحوار: محمد بن سليمان الحضرمي -

تحتفي الساحة الثقافية العمانية بميلاد الأعمال الشعرية الكاملة لأمير البيان عبدالله بن علي الخليلي، متضمنة كل دواوينه الشعرية المطبوعة والمخطوطة، بتحقيق الأديب الكاتب والشاعر سعيد بن سالم النعماني، لتقدم ما أبدعه الشيخ الخليلي الذي رحل عن دنيانا يوم 30 من يوليو عام 2000م، تاركا تراثا شعريا غزيرا، تمكن في حياته من طباعة أربعة دواوين فقط وهي: «وحي العبقرية»، و«بين الفقه والأدب»، و«على ركاب الجمهور»، وقصيدة «وحي النهى». وبقي في خزانته نتاج شعري مخطوط زاخر بلغ خمسة دواوين. وبعد رحيله قام أبناؤه بجمع تراثه المطبوع والمخطوط في قرص ممغنط، وعرضوه على عدد من الأدباء والمحققين ليحققوه ولكنهم اعتذروا، فاتجه نظرهم إلى الباحث الأديب سعيد بن سالم النعماني، ليقوم بتحقيق تراث أبيهم الشعري، فقبل العرض وتصدى للمهمة، وأنجز تحقيق الأعمال الشعرية الكاملة للشيخ الخليلي، وأخرجها مطبوعة تحت عنوان:«الموسوعة الشعرية لأمير البيان».

تألَّفَتْ الأعمال من تسعة مجلدات، تتابع تحت هذه العناوين وهي: «الخيال الوافر» ديوان حَـوَى أشعار آباء الشيخ عبدالله الخليلي وطائفة من أشعاره، و«فارس الضاد» ديوان القصائد الذاتية والوجدانية، و«المُجتليات» ديـوان التشطير والتخميس والموشحات والمسبَّعات، و«وحي العبقرية» الجزء الأول، ديوان القصائد الإخوانية، و«وحي العبقرية» الجزء الثاني، ديوان القصائد الوطنية والقومية، و«بين الفقه والأدب» ديوان المطارحات، و«من نافذة الحياة» ديوان القصائد الثلاث: وحي الــنُّــهَى، المقصورة، وحدة الشعب، ويضم أيضا ما فاض من ديوان بين الفقه والأدب من مطارحات فقهية وأدبية، و«على ركاب الجمهور» وهي تجربة الشيخ عبدالله في كتابة الشعر المرسل والشعر القصصي، وأخيرا «الموعظة» وهو ديوان العظات والقصائد الدينية.

«عمان الثقافي» التقى بالباحث ومحقق الأعمال سعيد النعماني، لتسليط الضوء معه على العمل الكبير، والذي يعد إضافة مهمة لمكتبة الشعر العماني والعربي.

■ ■ ما كان حلما بالأمس يتحقق اليوم، حدثنا في البداية عن دوافع اهتمامك بشخصية الشيخ عبدالله الخليلي؟ وكيف كان إقدامك على تحقيق أعماله الشعرية؟

•• الشيخ عبدالله بن علي الخليلي قامة علمية وشعرية كبيرة، وله إنجازه الشعري الشاخص بسعته الموضوعية، والمتفرد بلغة بيانية عالية في فصاحتها وعمقها المعجمي. وهو بجانب ذلك من أسرة ممعنة في العراقة علما واستقامة وإمامة، بمعنى أنه امتداد لقامات سامقة تضربُ أعياصُها في نواة أديم المجد العريق، ومنابت الشرف المكين، كما وَصَفَ في مقصورته تماما:

إن يكن الفخــر بجـــــد وأب

فمحتدي كالشمس منبع الضِّيا

وإن يكن بشرف مكتســـــب

فمسكبي أشرف مما يُقتنى

وصلتي به رحمه الله بدأت منذ يفاعتي، حين كان يسجل بعض قصائده في أشرطة خلال حقبة الستينات من القرن الماضي، وقد تفتحت مداركي على مقصورته. ثم تواصلت بعد أن التحقت بالعمل صحفيا بجريدة عُمان في أكتوبر من عام 1981م، فكانت لي لقاءات معه نشرت بعضها في الملحق الثقافي، وبعضها في ملحق خاص أعددته ونشرته عن حياته وأدبه. فهو شاعر من أكبر شعراء العربية في عصره، والوريث لإمارة الشعر في عمان، بعد نظرائه الكبار كشيخ البيان أبي نذير السالمي وشاعر العرب أبي مسلم الرواحي.

ابتلي -رحمه الله- في أخريات عمره بمرض الشلل الرعاشي، ولما دخل في الغيبوبة داخلني حزن على قرب رحيله. وكان ذهني يعتصره سؤال: كيف أَبُــرّ هذا العالم الفقيه واللغوي الشاعر العظيم؟ فيكفينا ما نعانيه من عدم تدوين المتقدمين لسير أسلافنا، خلاف ما فعله غيرنا مع أسلافهم، وهو أمر نقده بمرارة العلامة الفقيه النسابة المؤرخ الشيخ سالم بن حمود السيابي رحمه الله تعالى في كتابه «عمان عبر التاريخ»، بقوله: «وإن للتاريخ فضلا عظيما لا يُقـَدّرُ قـَدْرُه، وأنا أشهد أن علماءنا أضاعوا قسما مهما من الثقافة التي لها عند غيرنا الأهمية الكبرى».

من هنا انقدحت في ذهني فكرة إعداد ملحق صحفي خاص عن حياته وأدبه، لأنشره يوم وفاته تذكيرا بمجده وتخليدا لذكراه، ووفاء لحق أجيالنا في المعرفة. فاستأذنت الكاتب القدير الشيخ حمود بن سالم السيابي رئيس التحرير، فأيد الفكرة واستأذنت السيد سلطان بن حمد البوسعيدي رئيس مجلس إدارة مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان فوافق وأيد الفكرة، فأعددت الملحق في عشرين صفحة، وكان جاهزا قبل وفاته بستة أشهر، وحين بلغني نعيه، قمت بتوجيهه للمطبعة. وشكل صدوره مفاجأة أسعدت الوسط الثقافي، وعبَّرَ عن ذلك الرائد الثقافي وراعي إخوانه وأبنائه المثقفين الأديب الكبير أحمد بن عبدالله الفلاحي الذي قال لي: هذه بادرة غير مسبوقة في الصحافة العمانية نرجو أن تكون نهجا يواكب الجميع.

فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال فإن أنجال أمير البيان اهتموا بعد رحيل والدهم بتراثه الشعري فبادروا إلى جمع المطبوع منه والمخطوط وحفظوه في قرص ممغنط (CD)، وطلبوا من أكابر العلماء والأدباء القيام بتحقيقه لكن الجميع اعتذروا. هنا حضر اسمي في أذهانهم متذكرين مبادرتي الذاتية في إعداد الملحق الصحفي الخاص عن حياة وأدب أبيهم فعرضوا عليَّ القيام بمهمة تحقيق تراثه الشعري، فوافق عرضهم هوى في نفسي من ناحية حبي لأهل الله وخاصته والشيخ عبدالله أحدهم، فقبلت القيام بالمهمة، والحمد لله الذي أعانني على الإنجاز بعد عمل استغرق أكثر من أربع سنوات.

المنهج الأنسب

ما تستدعيه حاجة العمل

■ ■ ماذا عن جهدك في التحقيق، وهل تطرقت إلى شرح المفردات الغامضة؟

•• هناك مناهج متعددة لتحقيق الأعمال العلمية أدبية كانت أو غير أدبية، مطبوعة أو مخطوطة. والمنهج الأنسب دائما هو الذي تستدعيه حاجة العمل نفسه، والمحك في هذا فطنة الباحث المدرك لتلازم عمليتي البحث والتحقيق، فالباحث محقق، والمحقق باحث، والجهد الذي يبذله الباحث يدخل في نطاقه الفحص والتمحيص والتنقيب والتحقيق والتحليل والنقد. كل هذه العمليات قمت بها. ففي التحقيق أزعم أنني لم أدع عَلَماَ إنسانيا أو زمانيا أو مكانيا إلا وقدمت عنه المعرفة اللازمة، وكذلك المفردات ففي شرحي لها لم آخُذْ في حسباني العالم والناقد والباحث، بل عامة القارئين، فقد كانت غايتي خدمة تراث أمير البيان بصورة تجعل فهمه في متناول جميع المستويات المعرفية.

وفي النقد والتحليل توقفت عند كل ما أوجب المنهج فحصه وتحليله ونقده، ولم أرض بتمرير المعرفة تمريرا بديهيا، وسيجد قارئ الموسوعة أمثلة على هذا كثيرة، ويمكنني الإشارة هنا إلى نماذج من ذلك مثل نسب شاعر العرب أبي مسلم من ناحية لقبه البهلاني ما إذا كان يدل على نسب مختلف عن نسبه الرواحي. ومثل القصيدة التي عُرِفتْ بقصيدة «الاستقالة» من الشعر، حيث أثبت بالتحقيق خلاف ذلك. ومثل موضوعات بعض قصائد القصص التاريخي التي فَــنَّــدْتُها مبينا ما ظهر لي فيها من تلفيق أو أساطير، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته مقدمة التحقيق من تحليل لمضمون شعره.

إعادة بناء الدواوين وتبويبها

■ ■ ما الصعوبات التي واجهتك أثناء عملك في التحقيق؟ وكيف تجاوزتها؟

•• كل المادة الشعرية التي حققتها لم تكن لها أصول مخطوطة البتة. فقد ذهب بها إعصار (جونو) الذي ضرب عمان في يونيو من عام 2007م. لكن كما ذكرت لك آنفا أن عناية الله تبارك وتعالى ألهمت أبناء أمير البيان جمع تراثه قبل حدوث الإعصار بزمن، فنسخوه كاملا المطبوع منه والمخطوط في قرص ممغنط (CD). فهذا القرص هو مصدر المادة الشعرية التي حققتها. لكن ما إن فتحت القرص حتى تكشفت المادة عن أعباء مرهقة للذهن، مشتتة للجهد مثل سَقْطِ أشطر وأبيات، ومثل تَــوَزُّع ورود قصائد ذات موضوع واحد بين أكثر من ديوان، وتكرار ورود بعض القصائد في أكثر من ديوان، فكنت أجد القصيدة بعينها وردت في عدة دواوين. وكانت من الكثرة ما لو جُمِعَتْ كوحدة واحدة لشكلت ديوانا لوحدها. حتى إنَّ عددها في ديوان فارس الضاد بلغ 150 قصيدة. فاستلزم الأمر إعادة النظر في المنهج الذي بُــنِــيَ عليه تبويب الدواوين. وكانت الحاجة داعية إلى إعادة بنائها من الناحيتين الموضوعية والشكلية.

فمن الناحية الموضوعية وَجَدْتُ في ديوان «وحي العبقرية» قصائد نُظِمَتْ تحتَ عنوان: القوميات، وكان عددها (9) تسع قصائد وردت مبعثرة بين مجالات بعضها تحت عنوان: القوميات، وبعضها تحت عنوان: الإخوانيات، وبعضها في التأمليات، مع أنها كلها تندرج موضوعيا في إطار القوميات. كما أنني وجدت عشرين قصيدة قومية مدرجة في ديوان «من نافذة الحياة».

ووجدت كذلك في «وحي العبقرية» قصائد أدرجت تحت موضوع الإخوانيات، ووجدت مثلها في ديوان «فارس الضاد». وكذلك الوضع في قصائد المديح النبوي، فبجانب ما تضمنه مخطوط «أَرَج البردة»، فإنَّ دواوين أخرى تضمنت قصائد في هذا الموضوع. وكذلك قصائد التخميس وردت في ديوان «المجتليات»، وفي ديوان «وحي العبقرية»، وفي ديوان «فارس الضاد». فلم يكن من المقبول أن أترك تبويب القصائد مبعثرا بين الدواوين على هذه الشاكلة. نظرت في ديوان «وحي العبقرية» الذي هو أول عمل شعري طبعه أمير البيان في حياته وأصدره عام 1979م، فوجدته ديوانًا ضخمًا حوى عددًا كبيرًا من القصائد أوردها الشيخ في إطارات وطنية وقومية وإخوانية وغيرها من غير التزام دقيق بهذا التأطير. ونظرت في الدواوين الأخرى فوجدت في المطبوع منها والمخطوط قصائد ترتبط موضوعيًّا بموضوعات قصائد ديوان «وحي العبقرية».

ومن الناحية الشكلية وجدت أحجام الدواوين متفاوتة بصورة غير متوازنة بتاتا، فوحي العبقرية المطبوع مؤلف من 535 صفحة، و«وحي النهى» المطبوع مؤلف من 25 صفحة فقط، وديوان «على ركاب الجمهور» المطبوع من 140 صفحة.

ووجدت هذا التفاوت الحادّ في الدواوين المخطوطة أيضا. فديوان «الموعظة» بلغ عدد صفحاته 77 صفحة، وديوان «المجتليات» 140 صفحة، وديوان «الخيال الوافر» 248 صفحة، وديوان «فارس الضاد» 563 صفحة. بهذا يتبين لك المشقة التي واجهتها وتصديت لها، حيث التزمتُ أن أعيد بناء الدواوين بتبويبها موضوعيا وهو ما وفر مخرجا لتفاوت أحجام الدواوين، وردَّ كل القصائد إلى إطارها الموضوعي الدقيق.

عَمَدْتُ أولاً إلى ديوان «وحي العبقرية» فقسمته إلى جزأين، بحسب موضوعات القصائد. خصَّصْتُ الجزء الأول للقصائد الإخوانية التي لكثرتها ألَّــفَــتْ ديوانا لوحدها. وكذلك حال القصائد الوطنية والقومية التي خصَّصْتُ لها الجزء الثاني، وضَمَمْتُ إلى ما في الجزْأيْن كل القصائد ذات الصلة باختصاصهما الموضوعي والمبثوثة في الدواوين الأخرى مطبوعة ومخطوطة.

ونقلتُ من ديوان «وحي العبقرية» كل القصائد التأملية والحكمية والدينية والغزلية وغيرها إلى الدواوين الأخرى ووضعت كلاًّ منها في إطار موضوعي انتظمت داخله القصائد. وبهذا أصبح كل ديوان من الدواوين مستقلاًّ بإطاره، ومتفردًا بقصائده، ومتوازنًا بحجمه مع أحجام بقية الدواوين. وجعلتُ لكل ديوان تحت عنوانه الأساسي الذي وضعه له أمير البيان، عنوانًا آخر فرعيًّا يدلُّ على اختصاصه الموضوعي، وكل ذلك التزاما بما أوجبه منهج التحقيق، وتسهيلاً للدارسين والباحثين والقارئين.

أما ما يتعلق بالسقط والأخطاء فقد استعنت بالدواوين المطبوعة، رغم أن بها من الأخطاء الطباعية ما بها، واستعنت كذلك بالدواوين المطبوعة للشعراء الذين تبادلوا الأشعار مع أمير البيان كديوان أبي الحكم الشيخ أحمد بن عبدالله الحارثي، الذي حققته حفيدته الدكتورة جوخة الحارثية، وأفردت في خاتمة الديوان ملحقا للقصائد الموجهة إلى جدّها من نظرائه، ولكنها لم تورد للأسف سوى أربع قصائد، كان من ضمنها قصيدة واحدة فقط لأمير البيان. وهذا أمر لا يتناسب مع غزارة ما تبادله الشاعران من أشعار كثيرة، أوردها أمير البيان في موسوعته في ديواني وحي العبقرية، وبين الفقه والأدب. ويغلب على الظن أن الدكتورة جوخة لم تعثر فيما وصل إليها من أوراق جدها سوى تلك القصيدة. هذا بالإضافة إلى ما أورده فضيلة العلامة الشيخ سعيد بن خلف الخروصي في ديوانه: «الدر المنتخب»، وكذلك شقيقه الشيخ سليمان بن خلف في ديوانه: «قلائد الدهر»، وفضيلة القاضي أبي سرور في ديوانه: «ديوان أبي سرور»، والأستاذ حبراس الشعملي السليمي في ديوانه: «فيض الإحساس» الذي أصدرته ابنته الأديبة منى، وأكثر هذه الدواوين تنطبق عليها الملاحظة نفسها، أما القصائد التي لم أجد لها مصدرا فاعتمدت في تصويبها على معرفتي القليلة.

أما ما يتعلق بالمصادر والمراجع فسيجد القارئ في خاتمة كل ديوان مسردا بها. وأما الفهرسة الشاملة فلم أستطع القيام بها بسبب الضغوط التي كانت تتوارد إلى أنجال أمير البيان بشكل دائم من بعض الأشخاص يطلبون تعجيل إصدار الموسوعة حتى بلغ الحال بالبعض منهم أن طالبوا بسحب العمل من يدي. هذه الضغوط جعلتني أعمل في بيئة متوترة فوق ما أقاسيه من عبء سعة العمل المكون من تسعة مجلدات بلغ عدد صفحاتها 3000 آلاف صفحة. لهذا السبب لم أقم بالفهرسة الشاملة ليس عن عدم إدراك وتقدير لأهميتها ولكن لأنها تحتاج مجلدا مستقلا بها وإنجازه يستتبع زيادة في التأخير. يضاف إلى ذلك ما تحتاجه من دقة متناهية في مطابقة أسماء الأعلام مع أرقام صفحات ورودها في الدواوين، وهذا يوجب عليَّ أن أكون قريبا من المطبعة ولم يكن ذلك في إمكاني لأن المطبعة ليست في عمان بل في لبنان. لهذا اكتفيت في الطبعة الأولى بفهرسة القصائد والقوافي.

الخليلي شاعر ذو رأي حر

■ ■ أخيرا ما هو الانطباع النقدي الذي خرجت به بعد تحقيقك لأعمال الشاعر، وأين تضع شعر الخليلي بين مجايليه؟

•• الشيخ عبدالله بن علي الخليلي شاعر من طراز الشعراء الكبار. وبجانب كونه عَلَمَ أدَبٍ وبيان، وعالم لغة، هو كذلك من علماء الفقه والتاريخ. وإنَّ من يقرأ دواوينه يجد عَلاَّميته تتبدَّى في الكثير من قصائده. وهو في شاعريته ما من شعراء يمكن أن يُضَاهَى بهم إلا شعراء العربية الفحول.

وبالرغم من أن ديوانه ينضح في جزء كبير منه بروح الداعية المسلم المتمسك بأهداب الدين، إلاَّ أنه في تمسكه لم يكن على منوال البعض من أضرابه المتقدمين والمعاصرين، الذين لم يبرحوا بعقولهم الحيِّــز الذي التزموه، إلى آفاق الفكر الواسعة، معتقدين أنَّ ما ارتضوه من الانغلاق يمثل التزاما دينيا محمودا حسب تصورهم.

لقد كان أمير البيان بخلافهم، إذْ لم يَــرَ التديُّنَ شرنقة يتقوقع المسلم داخلها مصطنعًا حاجزًا بينه وبين من سواه. فهو يقدم لنا فيما تناوله شعره من الموضوعات مستوىً قويماً من الفهم للدين، استمده من منبعيه القرآن الكريم وسنة وسيرة النبي العربي العظيم، واستند في الفهم عنهما على عقل يسبر عمق المسائل قبل القول فيها برأي، وفهم يلم بتأويلات الآخرين، ويستبين ما تحمله من مضمون.

نجد أمير البيان في ديوانه الشعري ذا رأي حر، محلقاً في سماوات الفكر على أجنحة من التزام إيماني، ورؤى فكرية ثرية تنبعث في نفسه من رؤية الدين الواسعة للكون والحياة، ومَحْمَلٍ لغوي موغل في بحر الفصاحة أفرغ فيه رؤاه بقوالب بيانية بديعة تأخذ بمجامع النفوس، وترسم إطاراً لفكر واضح المعالم محدد السمات، من أبرز مظاهره المواءمة بين مقتضيات النص الديني وبين ما يفرزه دولاب الواقع من متغيرات. وهو على وجاهته العروبية، واستقامته الدينية، قد ولج ميادين أدبية لم يسبقه إليها أحد من روَّاد الأدب العماني ممن هم على طرازه الأدبي ومستواه الاجتماعي.

وهنا أقول: إنَّ ثراء المنجز الأدبي لأمير البيان ما من منجز يوازيه في نظري عند أدباء عمان إلا الشيخ ناصر بن سالم بن عديِّم الرواحي الذي جمع في نتاجه بين علو كعبه في علوم اللغة والشريعة، وتفرد تجربته الشعرية حتى ليبدو في الإبداع الشعري أمة وحده، جنباً إلى جنب مع اشتغاله بالسياسة، وبالكتابة الصحفية. ومع أن أبي مسلم وأمير البيان على نفس المستوى من الفحولة الشعرية الباذخة، ومن ثراء المعجم اللغوي الفصيح لكليهما إلا أنَّ أمير البيان يتفوق على أبي مسلم في نواح أخرى تتمثل فيما تتسم به معالجاته الشعرية من رَوِيَّــــة بينما تتسم معالجات أبي مسلم في بعض المسائل بالحماسة. وكذلك في النظر إلى القضايا التاريخية فنظرة أمير البيان إليها تنبع من موقف وسط، بينما ينبع نظر أبومسلم من زاوية القيم التي تشرَّبتها نفسه، رغم أن كلا الرجلين يصدران عن معين واحد.

يضاف إلى ذلك السعة الموضوعية لشعر أمير البيان، حيث بلغت موسوعته الشعرية تسعة مجلدات مقارنة بشعر أبي مسلم الذي لم تزد موسوعته عن مجلدين. كذلك فإن أبا مسلم انحصر شعره في الأغراض الدينية والاستنهاضية بينما لم يترك أمير البيان غرضا من أغراض الشعر المألوفة وفنونه المعروفة إلا وكتب فيه إلاَّ الهجاء فقد ترفَّعَ عنه وأبتْ نفسُه أن يذكُرَ أحداً إلاَّ بأحسنِ ما سمع وعرف عنه. فنجد في موسوعته: شعر السلوك (التصوف). وشعر المديح النبوي، وشعر المواعظ الدينية. والشعر الوجداني والاجتماعي، وشعر الحكمة والتأمل. وشعر الغزل. والشعر الإخواني، وشعر الرثاء. والشعر الوطني والقومي والافتخاري. والشعر الفقهي (تبادل الأسئلة والأجوبة مع فقهاء عصره). وشعر المطارحات الأدبية مع كبار الشعراء في عمان والدول العربية. وشعر الملاحم التاريخية، والشعر المسرحي، والقصصي. وفي مجال الفنون الشعرية نجد في موسوعته: التخميس، والمسبع، والتشطير، والموشح.