أفكار وآراء

الأوزان النسبية .. المتفق والمختلف حولها

21 أكتوبر 2018
21 أكتوبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تخضع الأوزان النسبية إلى كثير من المحددات المهمة في أي مجال يحتمل الخطأ والصواب، والاجتهاد وعدم الاجتهاد، وسواء أكان الوزن النسبي هذا تحت مظلة خاصة بالفرد نفسه،

تخضع الأوزان النسبية إلى كثير من المحددات المهمة في أي مجال يحتمل الخطأ والصواب، والاجتهاد وعدم الاجتهاد، وسواء أكان الوزن النسبي هذا تحت مظلة خاصة بالفرد نفسه، أو تحت مظلة أكبر تتجاوز الفرد والمجتمع لتصل إلى المجتمع الدولي الكبير، فالتعامل مع كل القضايا المطروحة للنقاش وغير المطروحة، لا بد أن تمر إلى محطة «تطهير» إن تجوز التسمية وهي التقدير النسبي لها، لأن المفاهيم تختلف بين شخص وآخر، وبين تجمع بشري وآخر لعوامل عدة: ثقافية، مجتمعية، جغرافية، أنظمة سياسية، ظروف طارئة، وبالتالي ما يتفق عليه في ظرف ما، وفي نظام سياسي ما، وفي محطة جغرافية ما، لا يلبث أن يتغير هذا التقييم، أو هذا الوزن النسبي في ظرف مختلف، وفي جغرافية مختلفة، وفي مجتمع مختلف، وفي نظام سياسي مختلف، وحتى إن تهيأت أسباب المصلحة العامة أو الخاصة في ظرف ما بين طرفين، وتم الاتفاق على وزن نسبي معين لذات الشيء المحدد بينهما، لا يلبث أن يتغير تقييم هذا الوزن بعد فترة؛ خاصة؛ بعد تبدل الظروف والأشخاص، وهذا مما يجعل النظر إلى تقييم «الأوزان النسبية» لمختلف الأشياء ليس تقييما مطلقا، ولكنه يبقى في كل مرة خاضع للمفهم المعرفي، ومتى تحققت المعرفة في أمر ما، كلما قادت الأطراف المختلفون على مسألة ما إلى بر الأمان، ولو إلى حين، لأن الأحكام المطلقة في تقييم الأشياء غير مقبولة إطلاقا.

ومن هنا يأتي الاعتماد على العهود والمواثيق المكتوبة والشهود، وغيرها مما لا تقبل النقاش مع تقادم الزمن، ضرورته للحفاظ على كثير من الحقوق التي تخص الأطراف المختلفة، وإن كان الواقع يناقض هذه الرؤية أيضا في بعض المواقف، حيث يعاد مناقشة الكثير مما اتفق عليه، ومما كتبت فيه المواثيق، وضمنته الهيئات والمنظمات الدولية، على مسرح النقاشات من جديد، وكأن مجموعة الجهود التي بذلت في ذلك من قبل مجرد حبر على الورق، وهذه من الإشكاليات الموضوعية التي تعاني منها؛ ليس فقط الأوزان النسبية المتفق عليها؛ ولكن حتى المفاهيم التي تخرج عن تقييم الأوزان النسبية كتلك النتائج التي تمخضت عن مناقشات الاختلافات والتباينات لهذه الأوزان لمختلف جوانب الحياة، فالأقليات- على سبيل المثال- الاختلاف في تعريفها وفي حقوقها، وفي النظر إلى استحقاقاتها هي مسألة نسبية، فما يراه نظام سياسي ما أن هذه المجموعة من الناس أقلية، يراه نظام سياسي آخر غير ذلك تماما، وهو ذات الفهم الذي يذهب إليه (ويل كيمليكا) في كتابه- أوديسا التعددية الثقافية- سبر السياسات الدولية الجديدة في التنوع. (مترجم) حين يقول: «إن تاريخ جهود الأمم المتحدة في مجال حقوق الأقليات، بكثير من الطرق، يختلف أتم الاختلاف عن جهود المنظمات الأوروبية، ومع ذلك فقد ذهبت إلى أننا نجد الاستراتيجية الفاشلة نفسها، والإشكالات نفسها التي لم تحل، الرسائل المختلطة نفسها، ونرى استراتيجية ساذجة وربما خطر لدعم أفضل الممارسات، كما نرى استراتيجية معايير قانونية تسعى إلى مزج حقوق الأقلية العامة مع حقوق الأقلية الموجهة، لكنها تفعل ذلك على أساس من الفئات غير المستقرة، نرى استراتيجية حلها النزاع الحالات محدودة تكافئ المقاتلين، وإذا وضعنا في اعتبارنا ذلك كله فإن هذه الاستراتيجيات المتنوعة ترسل رسائل مختلفة، وكثيرا ما تكون متناقضة، حول أنواع التعبئة السياسية العرقية التي يعتبرها المجتمع الدولي مشروعة».

وهذا الأمر ينطبق أيضا على مفهوم الإرهاب، فتكتل سياسي معين يرى أن مطالبة شعب من الشعوب بحقوقه يرى في الوقت نفسه أن اتخاذه لمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة هو نوع من الدفاع عن النفس، متوافقا مع المطالبة بهذه الحقوق، بينما يرى تكتلا سياسيا آخر أن ذلك يصنف ضمن دائرة الإرهاب، وينسحب ذات الفهم في تقييم الوزن النسبي للمفاهيم عند النظر إلى مسألة الفقر والغني، فالفقر عند شعوب ما هو عدم قدرة الفرد على شراء مستلزماته الأساسية للحياة اليومية، بينما في فهم آخر عدم حصول الفرد على مبلغ معين من النقود، وربما هذا المبلغ يزيد عن حاجته لشراء المستلزمات الأساسية لحياته اليومية، وانعكاسا لهذا الاختلاف في التقييم، فقد يفضي ذلك إلى دخول الأطراف في نزاعات ترقى إلى المستوى الدولي، حيث تجيش وتدخلها أطراف مختلفة مؤثر عليها لتشابك المصالح؛ كما هو معروف؛ بينما يقتضي الفهم في هذه المسألة؛ على سبيل المثال أيضا؛ أن تكون هناك مساحة مشرعة لصاحب القرار في ذلك المكون الجغرافي، ولا يجب أن تقاس المسألة على عموميات الواقع في كل الدول، وحسب المصدر السابق؛ يقول كميلكا: «لقد اعترف منذ وقت طويل بأن بعض الحقوق الاجتماعية المدرجة في الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يمكن أن تنفذ في الحال في بعض الدول الأكثر فقرا (مثل الحصول على تعليم جامعي مجاني) إذن، فمن الطبيعي أن نفرق بين تلك الحقوق الاجتماعية التي يجب تطبيقها فوار بشكل عالمي وتلك التي نسعى إلى تحقيقها مع مرور الوقت بتوافر الظروف التي تسهل تحقيقها، وعلى الرغم من أن الدول في البلاد الفقيرة لا يتوقع منها أن تحقق أعلى المعايير فورا، فإنه يتوقع منها أ، توضح ما الذي تفعله لتوفير الظروف التي تمكن هذه المعايير من التحقق بشكل متقدم».

كما تذهب الصورة ذاتها عند الحديث عن احتكار السلعة؛ مثالا؛ فهناك أنظمة اقتصادية لا تنظر إلى تمايز أسعار السلع في سوق ما، على أنه احتكار طرف لسلعة دون أخرى، وإنما تقيم المسألة على أنها تخضع لمسألة العرض والطلب في الأسواق المفتوحة، وبالتالي تعفي المحتكر للسلعة من مظنة الإساءة للمشتري، بينما في فهم آخر لأنظمة اقتصادية أخرى ترى؛ كما يقول (آدم سميث؛ صاحب كتاب (ثروة الأمم): ان «سعر السلعة المحتكرة هو أعلى سعر يمكن الحصول عليه في كل حين، بالمقابل السعر الطبيعي، أو سعر المنافسة الحرة، هو أدنى سعر يمكن القبول به، ليس في كل حين، بل على مدى زمني طويل، فالأول هو في كل حين السعر الأعلى الذي يمكن انتزاعه من المشتري أو السعر الذي يفترض ان المشتري يوافق على إعطائه، أما الثاني فهو السعر الأدنى الذي يقبل البائع أن يبيعه به عادة ويستطيع في الوقت نفسه أن يواصل عمله».

كما ينظر كذلك – اتساقا مع فهم الأوزان النسبية – إلى مفهوم الانحياز وعدم الانحياز، وهذه الصورة تقاس أيضا على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، وليست خاصة فقط بالفهم السياسي لدول عدم الانحياز، مع اليقين أن الاطمئنان على أن الحياة لا تقبل مفهوم «عدم الانحياز» بشكل مطلق ، خاصة على المستوى الإنساني، لأن الإنسان مهما وصل به الطهر والنقاء، لا بد أن تتنازعه مجموعة من التجاذبات الذاتية فتركنه إلى الانحياز نحو مصالحه الذاتية، حيث تطفئ فيه غريزة الاعتداء على حقوق الآخر، وقس على ذلك أمثلة كثيرة في الحياة.

إن البشرية، منذ نشأتها الأولى، تعيش حالة من الاختلاف، وهي حالة، أفضت بها ولا تزال، إلى إنجاز كم نوعي في مختلف الحياة، ويبدو أنه لولا هذا الاختلاف في جوانبه المتعددة، لما استطاعت البشرية ذاتها أن تحقق في سبيل تقدمها هذا الإنجاز الماثل اليوم، بلا منازع، وأن تبحث عن حلول لكثير من مشاكلها.

إلا أن الصورة في جوانبها المتعددة أيضا ليست فضاء رحبا، أو تعيش احتفالية دائمة، وإنما تذهب بها حالة «المخاض» هذه إلى طرق زوايا عديدة، وسلك طرق متشعبة، مما يوجد نوعا من التململ والترهل في بعض الجوانب، وقد تسقط هذه المسيرة في مطبات غير محسوبة الخطى، ومن هنا اقتضت الصورة أن تنشأ منظمات، ومعاهد، ومختبرات لكي تخضع كافة الموازين القابلة للنقاش للتجريد، لتحظى؛ إلى حد ما بالقبول النسبي أيضا؛ وهذا ما يثبت قدم مسيرتها نحو الأمام، ولعل في الاختلافات النسبية؛ موضوع هذا النقاش اليوم؛ ما يشجع على المراجعات المعرفية والبحث عن حلول، لأن الأوزان المادية متفق عليها بصورة مطلقة، لأنها مرئية وملموسة، وبالتالي لا تقبل الاجتهاد.