أفكار وآراء

نفط «المائة دولار» .. حقيقة أم وهم؟

20 أكتوبر 2018
20 أكتوبر 2018

هاني عسل -

«انسوا تماما أن ترتفع أسعار البترول العالمية إلى مائة دولار للبرميل»!

كان هذا هو عنوان التقرير الذي نشره موقع «أويل برايس» المتخصص في شؤون النفط والطاقة، والذي نصح فيه كاتبه أرثر بيرمان الرأي العام العالمي بعدم القلق من حدوث طفرة سعرية جديدة في أسعار الخام الأسود، بعد النداء التحذيري الذي وجهه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا بشأن أسعار الخام، ويمكن اعتبار هذا العنوان ملخصا للأزمة التي أثارتها تصريحات ترامب، والتي تزامنت مع ارتفاع أسعار الخام إلى فوق معدل الثمانين دولارا للبرميل، وهو ما دفع محللين وخبراء إلى الإدلاء ببعض التوقعات المتسرعة التي تشير إلى أن الارتفاع السعري وتصريحات ترامب سيسببان مزيدا من الارتفاع في سعر النفط خلال الفترة المقبلة لتلامس المائة دولار للبرميل.

القصة بدأت عندما حث الرئيس الأمريكي المثير للجدل منظمة الدول المصدرة للبترول «أوبك» قبل اجتماعها الأخير في الجزائر بمشاركة روسيا على تخفيض أسعار البترول فورا، وغرد في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» داعيا دول اوبك الى انه «يجب ان تخفضوا أسعار النفط الآن.» وردا على تحذيرات ترامب، استبعدت مصادر داخل أوبك أن تتوصل المنظمة في اجتماع الجزائر إلى اتفاق بشأن أي زيادة رسمية في الإنتاج بهدف خفض الأسعار كما تريد واشنطن، وهو ما تم بالفعل في الاجتماع الذي عقد مؤخرا . لكن هذا لم ينف وجود ضغوط شديدة على كبار الدول المنتجة لمنع حدوث ارتفاعات كبيرة في الأسعار قبل دخول العقوبات الأمريكية الجديدة على إيران حيز التنفيذ، والذي يعني ضرورة دخول الدول المنتجة إلى السوق لتعويض النفط الإيراني.وكانت أسعار البترول قد شهدت ارتفاعات ملحوظة منذ أن قررت 14 من دول أوبك، ومعها منتجون آخرون على رأسهم روسيا، الحد من الإنتاج العام الماضي، ونذكر أن هذه الدول نفسها كانت قد وافقت منذ نوفمبر العام الماضي على تمديد هذه التخفيضات في الإنتاج حتى نهاية عام 2018. وأشارت وكالة «رويترز» للأنباء في تقرير لها في هذا الإطار إلى أن بعضا من المستثمرين توقعوا ارتفاع الأسعار، حيث زاد الإقبال على الخيارات التي تعطي لأصحابها حق شراء خام برنت مقابل 90 دولارا للبرميل حتى نهاية أكتوبر الحالي. كما دللت على هذه التوقعات بتأكيدها على أن المملكة العربية السعودية ظلت تلمح إلى أنها لا تملك الكثير من الطاقة الاحتياطية الفورية، أو ليست لديها الرغبة الفعلية في استخدامها بشكل استباقي، حتى وإن استجابت لدعوة ترامب بزيادة الإنتاج لخفض السعر. ويقول خبير بترولي في سنغافورة إنه في ظل التوقعات بخروج نحو 1.5 مليون برميل يوميا من النفط الإيراني من السوق العالمية بداية من الرابع من نوفمبر المقبل، فإن الأسعار قد «تقفز»، وسيكون سعر 100 دولار للبرميل المتوقع هدفا منطقيا . وبالفعل، وحتى قبل أيام قليلة، كانت أسعار البترول تلامس الـ85 دولارا للبرميل، متأثرة بما أوضح تفاصيله مسح أجرته رويترز عندما أكد أن زيادة إنتاج البترول خلال شهر سبتمبر الماضي كانت محدودة بالفعل، بفضل المخاوف السياسية التي عرقلت زيادة إنتاج النفط الليبي والنيجيري، كما أن التدهور في إنتاج فنزويلا متوقع بين الحين والآخر بسبب نقص التمويل للقطاع في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها، وهو ما أدى بدوره إلى خفض أنشطة المصافي النفطية وصادرات الخام بشكل عام.

غير أن كل ما سبق، وكل هذه الأرقام والمعطيات بددتها الضغوط الأمريكية المتواصلة على دول ابك ، فأعطت آمالا كبيرة لقطاع أكبر من المستثمرين والخبراء إلى الإعراب عن تفاؤلهم في إمكانية نجاح سياسات ترامب الضاغطة على الدول المنتجة في إقناعها بزيادة الإنتاج وبالتالي خفض السعر. وظهر إصرار ترامب واضحا على هذه السياسة ليس من خلال التحذير الوارد على تغريدته فحسب، وإنما من خلال اتصاله الهاتفي بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لمناقشة جهود الحفاظ على الإمدادات لضمان استقرار سوق النفط ونمو الاقتصاد العالمي، وأيضا من خلال الانتقاد الحاد الذي وجهه ترامب إلى أوبك بسبب ارتفاع الأسعار خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي قال فيها صراحة إن أعضاء أوبك «كالمعتاد يستغلون بقية العالم، وهذا لا يعجبني».

ومن الواضح أن قدرة السعودية على ضخ إنتاج إضافي من النفط إلى الأسواق حتى وإن بدت ضئيلة، فإنها ستكون ممكنة بحكم الأمر الواقع الذي فرضته الاعتبارات السياسية والمواءمات الدولية، وبخاصة في الوقت الذي تزداد فيه قوة العلاقات الأمريكية السعودية، ووجود تفاهمات عديدة بين الرياض وواشنطن في المرحلة المقبلة في أكثر من ملف، وعلى رأسها إمكانية استئناف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والوضع الداخلي في سوريا، والضغوط على إيران، وتفهم دور وأداء قوات التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن، فضلا عن الموقف الأمريكي من الأزمة القطرية. ولعل هذا هو ما دفع الأنباء لأن تحمل إلينا لاحقا تسريبات من داخل أوبك تفيد بأن السعودية ودول منتجة أخرى ناقشوا بالفعل إمكانية زيادة الإنتاج بنحو 500 ألف برميل يوميا، رغم مقاومة أعضاء آخرين في المنظمة لهذا التوجه.

ولم يكن غريبا أيضا أن تعلن السلطات المسؤولة عن الطاقة في السعودية صراحة عن استعداد الرياض لضخ مزيد من الإمدادات في أي وقت لتعويض نقص إنتاج البترول عالميا، وأعقبتها روسيا نفسها - الخصم اللدود لأمريكا - والتي أكدت على لسان رئيسها فلاديمير بوتين شخصيا أن سعر 65 إلى 75 دولارا هو سعر مناسب للنفط بالنسبة لموسكو. ومما عزز هذه التوجهات ما ذكرته إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في تقريرها الشهري الصادر الجمعة الماضية من أن إنتاج البترول الخام في الولايات المتحدة زاد بمقدار 269 ألف برميل يوميا في يوليو الماضي ليصل إلى 10.964 مليون برميل يوميا، بفضل قفزات الإنتاج في تكساس ونورث داكوتا، كما أظهر التقرير أن إنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة سجل أعلى مستوى على الإطلاق عند 92.7 مليار قدم مكعب يوميا في يوليو الماضي، بفضل زيادة إنتاج الغاز في تكساس، أكبر ولاية تنتج الغاز في الولايات المتحدة، والأمر نفسه ينطبق على إنتاج بنسلفينيا، التي تأتي في المركز الثاني أمريكيا، مما يعني أن الضغوط الأمريكية تسير على مستويين متوازيين، سياسيا، وتجاريا، ولكن الاعتبارات السياسية صارت الآن بالفعل المتحكم الأول في أسعار النفط ، فالأسعار ارتفعت بشدة مع اقتراب العقوبات الأمريكية على إيران، وبدء تخارج شركات غربية كبرى بالفعل من السوق الإيرانية، ثم انخفضت الأسعار سريعا جدا بعد «تغريدة» الرئيس الأمريكي التي أوحت لجميع المراقبين بأن تحذيرات ترامب ستتحول إلى زيادة إنتاج حقيقية، لإنقاذ الموقف.

وكان من الواضح أن ترامب لم يطلق تحذيره هذا إلا بعد اطمئنانه إلى أن التغيرات الإنتاجية الإيجابية التي تشهدها صناعة البترول في بلاده ستكون نقطة قوة له في حالة خوضه مواجهة مع الأطراف «العنيدة» في أوبك، خاصة وأنه خاض مواجهات مماثلة، بل أصعب منها، وخرج منها منتصرا، مثل تعامله مع قضايا إيران وكوريا الشمالية والحرب التجارية مع أوروبا والصين. وهنا، نعود من جديد إلى ما بدأنا به، وهو تقرير آرثر بيرمان في «أويل برايس»، الذي جاء فيه على لسان كاتبه «على ترامب أن يستريح، فأساسيات الإمدادات في السوق الأمريكية تشير إلى أن الارتفاعات الكبيرة الأخيرة في الأسعار ستكون وقتية، وأن إمدادات الخام ستعود قريبا لتسجل فائضا». ولهذا، ما زال سعر مائة دولار للبرميل يمثل «وهما» كبيرا، على الأقل في الفترة الحالية. ومن حق الدول المنتجة المتضررة من خفض الأسعار أن تلعن السياسة والضغوط والمواءمات، بينما من حق المشترين أن يتوجهوا لها بجزيل الشكر!