الملف السياسي

درس التاريخ والعودة العقلانية للتضامن العربي

15 أكتوبر 2018
15 أكتوبر 2018

طارق الحريرى -

تجلى التضامن العربي في صورته العظمى غير المسبوقة وغير المتكررة خلال حرب أكتوبر 1973، ودون مبالغة يمكن القول إن مناصرة مصر وسوريا في هذه الحرب من أشقائهما في الدول العربية على اختلافها كانت ذات تأثير على مجرى الأحداث لا يقل فعالية عما يجري في ميادين القتال.

فالمساندة التي تبدت في كل أشكال المعاونة الممكنة من كل دولة كانت بالغة التأثير على مجريات الحرب والسياسة في أطاريهما الإقليمي والدولي وللمفكر الاستراتيجي «جمال حمدان» تعبير بليغ يعكس قيمة وأهمية هذه الفترة الفارقة في تاريخ العرب الحديث، فيقول في كتابه الشهير «حرب أكتوبر في الاستراتيجية العالمية» عبارة بالغة الدلالة جاء فيها « لأول مرة خرج عرب 6 أكتوبر وهم صُنّاع التاريخ، بعد أن ظلوا طويلاً لعبة التاريخ، وتحولت المنطقة من منخفض سياسي إلى منطقة ضغط سياسي مرتفع؛ مؤثرٍ وفعّال».

يقتضي التأصيل التاريخي لهذه المرحلة التنويه إلى أن البداية الحقيقية للتضامن العربي لم تقتصر على توقيت بدء حرب أكتوبر ولكنه بدأ في أعقاب هزيمة الخامس من يونيو 1967 فقد فجر الوضع المأساوي للنكبة الثانية بعد نكبة 1948 بركان النخوة والأخوة العربية، صحيح أن هزيمة يونيو هذه كانت ذات وجهين لعملة واحدة تمثل أولهما - السلبي - في نقطة الصعود لمنحنى الأيدلوجيات المضادة للقومية العربية وعلى رأسها الإسلام السياسي لكن في المقابل كان الوجه الثاني- الإيجابي- للعملة متمثلا في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في الخرطوم في 29 أغسطس 1967 وهو المؤتمر الذي عرف بقمة اللاءات الثلاث (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني) وكان أهم ما أنجزه هذا المؤتمر هو إزالة الخلافات البغيضة بين ما كان يعرف بالدول التقدمية والدول العربية الأخرى، وتم التصالح وتنقية الأجواء تماما وقامت دول النفط الغنية في هذا الوقت، المملكة العربية السعودية والكويت والمملكة الليبية، بتقديم دعم مالي سنوي للدول المتضررة من العدوان من أجل دعم المجهود الحربي.

حينما اندلعت حرب السادس من أكتوبر اشتعلت جذوة التضامن العربي في أقوى صورها فقد استعاد الكبرياء العربي المجروح بعد هزيمة يونيو الزهو والكرامة ولم يتوان أي قطر عربي عن تقديم المساهمة حتى ولو كانت رمزية فقد ساهم العراق على الجبهة المصرية بسرب طائرات «هوكر هانتر» وصل إلى القاهرة قبل الحرب بسبعة أشهر وأثبت طياروه براعة في المعارك إضافة إلى مشاركته بأربعة أسراب جوية وفرقة مدرعة وفرقة مشاة على الجبهة السورية، كان لها أبلغ الأثر في رد القوات الإسرائيلية من على أعتاب العاصمة السورية، وقام الرئيس الجزائري هواري بومدين بدفع 200 مليون دولار للاتحاد السوفيتي مقابل أسلحة لمصر وسوريا، وشاركت الجزائر في الجبهة المصرية بالفوج الثامن مشاة ميكانيكي ولواء مدرع، كما أرسلت 22 طائرة حربية من أنواع سوخوي وميج، وكان للقوات البرية الجزائرية دور هام في مشاركة القوات المصرية في حصار الثغرة، التي كانت على وشك التصفية عسكريا . وكانت ليبيا قد رتبت سفر طيارين مصريين بجوازات سفر ليبية لاستلام صفقة طائرات ميراج فرنسية تعاقدت عليها ودفعت ثمنها، وأرسلت المغرب فوج مشاة إلى الجبهة السورية في الجولان ولواء مشاة إلى مصر وصل يوم 24 أكتوبر، حيث تولى الاشتراك في الدفاع عن الساحل الغربي لخليج السويس، وساهمت تونس بفوج مشاة استقر في بور سعيد، بعد إيقاف إطلاق النار، وكانت السودان قد أرسلت أول كتيبة عربية شاركت في العمليات الحربية، وبالمثل فعلت الكويت.

كان من أهم أوجه التضامن العربي دخول البترول كسلاح استراتيجي عندما قرر وزراء النفط العرب في اجتماعهم في الكويت في 17 أكتوبر 1973 بإيعاز من القيادة السياسية لبلدانهم البدء في خفض فوري للإنتاج بنسبة 5% شهريا وقطع إمدادات البترول عن الولايات المتحدة والدول المعادية التي تساند إسرائيل . هنا أظهر العرب أنهم استطاعوا توحيد صفوفهم وتكامل جهودهم على مختلف الأصعدة واتضح أن استخدامهم لسلاح النفط كان نموذجيا وفعالا، لذلك أتت مسألة الحظر النفطي على رأس قائمة الموضوعات التي طرحها كيسنجر ونيكسون مع بداية الاتصالات الأمريكية العربية في أكتوبر 73 وما بعده حيث كان التأثير عميقا ونافذا. ومن اللافت لعمق التضامن العربي، قيام جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- بإصدار مرسوم سلطاني في 13 أكتوبر يقضي بالتبرع بربع رواتب الموظفين العمانيين لدعم الجيشين المصري والسوري، وقضى المرسوم أيضا بإرسال بعثتين طبيتين لمعالجة مصابي الحرب على الجبهتين السورية والمصرية، وقد اتخذ هذا القرار في وقت كانت فيه سلطنة عمان تمر بعملية إعادة بناء جذرية، للقفز بالسلطنة من غياهب الماضي إلى آفاق وحضارة العصر.

لم يكن الخيال يحلم بأن يصل التضامن العربي إلى هذه الدرجة من التعاون والتآخي والتآزر في اكتوبر73، لكن هذا الخيال نفسه لم يكن يتصور أن انتكاسات عنيفة سوف تلحق الأذى بهذا التضامن الذي تحقق له قدر من الزخم والتفاعل الخلاق غير المسبوق، وأن هذه اللحظة الفارقة كان يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو بناء صيغة عملية وواقعية تتجاوز الخيال الرومانسي والاندفاع العاطفي، لكن أحداث كان يمكن احتواؤها مثل خروج أنور السادات عن الصف العربي- حسبما ظن البعض- واتجاهه للسلام منفردا مع إسرائيل تحول إلى صراع بين مصر وما سمي جبهة الصمود والتصدي التي نجحت في طرد مصر من جامعة الدول العربية ونقل مقرها إلى تونس، وسرعان ما تفككت هذه الجبهة عندما شن العراق الحرب ضد إيران، ولم يبق منها إلا انشقاق وحدة الصف العربي، جرت بعدها أحداث ومماحكات كثيرة بين دول عربية وأخرى، إلى أن وقعت الطامة الكبرى عند قيام صدام حسين باحتلال دولة الكويت الشقيقة في عام 1990، فازداد الانقسام العربي انقساما، ما جعل العرب في حالة تشرذم تراجعت معها الأفكار والدعاوى التي كانت تتحدث عن أمة واحدة من الخليج إلى المحيط. يشي رصد مشاريع الوحدة الاندماجية أوالاتحاد أو المواثيق الوحدوية، بأن العقل العربي للإدارات التي تقدم على هذه الخطوات، تغيب عنها حقائق التاريخ ودروسه بعد كل التجارب في هذا المجال، حيث لم تصمد للأسف تجربة واحدة رغم تعدد المحاولات وتعدد صيغها وأشكالها ومن هذه المحاولات على سبيل التذكرة وليس الإجمال الاتحاد العربي الهاشمي بين مملكتي الأردن والعراق، وانتهى بانقلاب الجيش العراقي، والوحدة الإندماجية بين مصر وسوريا وانتهت بانفصال سوريا، واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا، وميثاق طرابلس الوحدوي، وأخيرا مجلس التعاون العربي.

هنا يبرز التساؤل بعد هذه المراجعة هل يمكن أن يستعيد العرب تجربة التضامن الفريدة التي عاشوها مع حرب أكتوبر 73 ؟ نظرة حولنا تقول نعم، فالأوروبيون أنشأوا الاتحاد الأوروبي، الذي لا تملك بلدانه مثل العرب مقومات أقلها اللغة الواحدة، ونجحوا في ذلك بعد حروب استغرقت قرون بين بلدانه، وانتهت بحربين عظميين مدمرتين، وهنا بيت القصيد وهو أن التضامن المستمر يجب أن يبنى على العقلانية، وبتدرج واقعي خطوة بعد خطوة، دون اندفاعات عاطفية، أو ربط مسعى التضامن بالمصالح الضيقة، واستلهام درس التاريخ في أسباب فشل وانهيار التجارب، في صياغة أشكال تصمد حتى على الأقل لفكرة الاتحاد وليس الوحدة الإندماجية، والوعي من خلال درس التاريخ أيضا بالنجاحات التي تتحقق في أوقات يصبح فيها التضامن بين بلدان العرب طاقة للنور تضيء الدرب للعقل والإرادة.