الملف السياسي

عبور زمن الانكسارات .. !!

15 أكتوبر 2018
15 أكتوبر 2018

محمد محمود عثمان -

Mohmeedosman @yahoo.com -

حرب العاشر من رمضان 1393 هـ - السادس من أكتوبر 1973 م، ملحمة عسكرية وقف أمامها الخبراء كثيرا كأعظم حرب في تاريخ العرب في العصر الحديث برغم مرور 45 عاما عليها، بعد أن حقق الجيش المصري الأهداف القتالية وخطة الخداع الإستراتيجي

وبعد أن حطمت قوات المدفعية والمقاتلات الجوية المصرية تحصينات خط بارليف القوية، التي كونت سلسلة من النقاط الحصينة والطرق والمنشآت الخلفية، التي صنعت الخط الدفاعي الأصعب في تاريخ الحروب، الذي أنفقت عليه إسرائيل 300 مليون دولار والذي امتدت دفاعاته أكثر من 160 كم على طول الشاطئ الشرقي لقناة السويس، مزودا بخط أنابيب النابالم الحارق وسريع الاشتعال،على امتداد أطول مانع مائي في العالم، وبعمق أكثر من 35 كم شرقاً، ضم الملاجئ المحصنة والموانع القوية وحقول الألغام المضادة للأفراد والدبابات، لذلك اعتقد الإسرائيليون أن العرب أمامهم 50 عاما على الأقل إذا فكروا في عبور القناة أو شن حرب على إسرائيل، تحت شعار مقولة «أن الجيش الإسرائيلي لا يقهر « وفي ظل هذه الصورة شديدة القتامة أمام العرب،جاءت حرب أكتوبر 1973م لتمسح بعضا من أحزان العرب في زمن الانكسار، ولتفتح طاقة أمل ونور أمام المواطن العربي الذي حاصرته الانكسارات وجعلته قابعا تحت مظلة الانهزامات المتوالية منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، بداية من نكبة 1948م مرورا بنكسة 1967م، وصولا إلى أم النكبات بسقوط بغداد في مارس 2003م وما تلا ذلك فيما يحدث في سوريا وليبيا واليمن، وكذلك لترسيخ معاني الانتصارات والبطولات في وجدان النشء الذي تغذى بثقافة الهزيمة لسنوات طويلة، ومن هنا علينا أن نتذكر بفخر الانتصارات التي تحققت نتيجة لحرب أكتوبر 1973 وبعد 45 عاما على تلك الحرب المجيدة لنأخذ منها العبر والدروس التي يجب ان يتعلمها أجيال اليوم والغد بما فيها من دلالات ومؤشرات كانت هي الدليل على النصر او الطريق الذي أوصلنا إليه، حيث جسدت حرب السادس من أكتوبر البطولة والشجاعة والتضحية والصبر والتخطيط والتنظيم والإدارة والإرادة ورباطة الجأش وروعة الأداء ودقة التنفيذ، فعلى المستوى العربي جسدت حرب «العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر» ملحمة غير مسبوقة للتضامن العربي - العربي في العصر الحديث، حيث التف العرب ودول الخليج حول السادات وقدم بعضهم للجيش المصري الدعم العسكري والمعنوي، بالإضافة إلى استخدام سلاح النفط في المعركة ضد الغرب للمرة الأولى، فتجلت بذلك الأخوة العربية، التي نفتقدها كثيرا في مواقف كثيرة متعلقة بحاضر ومستقبل الأمة العربية، وعلى المستوى الداخلي كان شعار الجنود في هذه الحرب «الله أكبر» وهو أول دليل أو مؤشر الى العودة الى الله والى التمسك بالثوابت الدينية والأخلاقية التي كانت بمثابة عودة الروح للجندي المقاتل ليدافع بعقيدة عن عقيدته، ويعبر بها ذكرى أيام صعبة عاشها الجميع في أعقاب نكسة 1967، والمؤشر الآخر هو الإتقان والتمكين والجودة، حيث عاش الجنود في الخنادق والملاجئ والمخابئ يفترشون الرمال لسنوات عجاف في حرب الاستنزاف، تحملوا خلالها لهيب الشمس ولفح البرد ومشقة التدريب المتواصل حتى تفوقوا على أنفسهم، بعد أن حرصت القيادات السياسية والعسكرية على التمسك بها في مجالات التدريب والتعليم،الذي مكن أبطال أكتوبر من التعامل بوعي وعلم مع الأسلحة والأجهزة والمعدات المتطورة والمعدات القديمة، التي استطاع المقاتل تطويرها وتطويعها في يده، بما أكسبه القوة والثقة في النفس وفي السلاح الذي يستعمله، بعد أن جعله مناسبا للبيئة والطبيعة والإمكانات المتاحة، ولم يأت ذلك من فراغ، بل بعد محصلة سنوات من التخطيط والتنظيم والمتابعة الشديدة والمستمرة والصمت والصبر، للارتقاء بمستوى الأداء ومعدلاته، ولا ننكر أن الأسلحة العربية التي استخدمت في حرب 73 كانت من أجيال قديمة ولم تكن في المستوى التكنولوجي والتقني الذي تملكه إسرائيل، والتي تحصل عليها في الوقت الذي تريده بدون أدنى مشقة أو تكاليف أو نفقات أو أعباء مالية، كانت تتحملها أمريكا ودول الغرب نيابة عنها، في سبيل تسليحها، للحفاظ على التوازن الذي يحقق لها التفوق الكيفي في مواجهة التفوق الكمي الذي يتميز به الجانب العربي، في ظل الشروط والضغوط التي كانت تمارس من قبل بائعي السلاح لمنع استخدامه في العمليات الهجومية ضد إسرائيل، أوعدم الوفاء والالتزام بتقديمه في الوقت المطلوب، مما تسبب في كثير من المعوقات امام المقاتل العربي في تلك الحرب، ومن هنا كانت عظمة الجندي العربي عامة والمصري تحديدا الذي سجل ملحمة شرف وبطولة سجلها التاريخ العسكري الحديث في سجل ناصع، وما زالت المعاهد والأكاديميات العسكرية العالمية تتناولها بالدراسة والبحث، من خلال الخبراء والمتخصصين في استراتيجيات الحروب، وهو ما يجب ان نركز عليه في تربية أبنائنا من الجيل الحالي حتى يتعرفوا على العبقرية العربية في هذه الحرب التي حطمت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وما حاول الأعداء وحتى الآن غرسه في نفوس العرب لنشر ثقافة الهزيمة بين الشباب، وفي الشارع العربي على وجه العموم. وعلى الجانب الخارجي فقد استطاع الرئيس «السادات «في إطار خطة الخداع والتمويه الاستراتيجي، بتوفيق من الله وبما لديه من حنكة ودبلوماسية أن يخدع أقوى أجهزة المخابرات العالمية، الأمريكية والإسرائيلية،بداية من طرد الخبراء العسكريين الروس، ذلك القرار الذي اقنع الجميع بأن مصر قد صرفت النظر عن الحرب، وما تبعه من حالات الاستنفار وتعبئة للجيش المصري أكثر من مرة على أوقات متقاربة - كانت تنهك العدو- في تعبئة الاحتياط لديه كل مرة، حتى أيقن أن هذه المناورات والاستنفارات والتعبئة المتكررة من الأعمال الروتينية للاستهلاك المحلي، لمواجهة الرأي العام الداخلي الغاضب، الذي انتابه اليأس من عدم حسم المعركة واستعادة الأرض، بعدما أعلن الرئيس السادات عن سنة الحسم أكثرة من مرة ولم يفي بها، ولكنه صبر وتحمل الكثير الانتقادات القاسية التي وجهت له من الجميع، وعلى الجانب الآخر كانت القوات المسلحة ماضية في استعداداتها وتدريباتها بدون كلل أو ملل، كما كانت مقالات الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل الأسبوعية « بصراحة « بما لها من تأثير وصدى محلي وعالمي، في فترة حرب الاستنزاف، تؤكد بأن الجيش المصري يحتاج إلى معجزة لعبور قناة السويس، حتى ترسخت قناعات لدى البعض باستحالة الثأر من هزيمة 67، ولم يعترض الرئيس السادات على ذلك،بل إنه استثمره بذكاء، وأمر بتسريح بعض الجنود والضباط في يوم الخامس من أكتوبر أي قبل بدء المعركة بيوم واحد أو عدة ساعات، وتم الإعلان عن توجه بعض كبار الضباط للمملكة العربية السعودية لأداء مناسك العمرة، ونشرت صحيفة الأهرام في صدر صفحتها الأولى خبرا عن توجه وزير الدفاع المصري لزيارة أمريكا، وكان بعض الجنود يلعبون كرة القدم غرب قناة السويس على مرمى البصر من الإسرائيليين في الضفة الشرقية لها، كما كان الرئيس السادات يؤكد في كل لقاءاته واجتماعاته مع زعماء العالم وفي جميع اللقاءات الصحفية على أنه يبحث عن السلام، ولا سيما أن كل الدلائل والمؤشرات وموازين القوى المادية كانت في صالح الجانب الإسرائيلي الذي انتصر في حرب 1967 واستثمر ذلك عالميا في الترويج للآلة العسكرية الإسرائيلية وقدرتها على الردع وعلى أن تكون عنصر الاستقرار الذي يضمن مصالح الغرب في هذه المنطقة من العالم الغنية بثرواتها الطبيعية، ونجحت إسرائيل في ذلك بل استطاعت أن تبث في النفوس العربية شعورا ما بعدم قدرتهم على المواجهة والصمود، مما أوجد مناخا نفسيا قاسيا ومحبطا في ذات الوقت حتى اقتنع البعض ومنهم إسرائيل ذاتها بانه لن تقوم للعرب قائمة بعد هزيمة 1967م وعاش الكثير من جيلنا هذه المأساة بكل معانيها وتداعياتها السلبية خاصة في مراحل الإعداد والاستعداد لبناء القوات المسلحة المصرية في أثناء حرب الاستنزاف التي لعبت فيها الحرب النفسية دورا خطيرا في التأثير السلبي على المدنيين والعسكريين، والتي وجهت خلالها القوات المصرية عدة ضربات موجعة خلف خطوط العدو، لتأتي حرب أكتوبر 1973م- العاشر من رمضان- لتحدث زلزالا هز أركان المجتمع الإسرائيلي، ولتؤكد على أصالة وقدرة العرب على اجتياز المحنة والنكسة، ولتقلب المفاهيم والموازين المتعارف عليها، لأنها تمت في توقيتات دقيقة وغريبة وغاية في الذكاء بداية من اختيار يوم عيد الغفران « كيبور» لشن الحرب، وهو يومٌ مقدّس عند اليهود، ومخصصٌ للصلاة والصيام فقط، وكذلك تحديد ساعة الصفر في عز النهار في الساعة الثانية ظهرا بخلاف الأعراف العسكرية التي تقول إن الحرب تبدأ دائما مع أول أو آخر ضوء في اليوم، وقد اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان بالهزيمة، حيث قال: «لقد جاء يوم الغفران (كيبور)، وقوات إسرائيل غير معبأة ولا موزعة كما يجب، فإنها اشتعلت في اليوم الوحيد الذي لم نكن نتوقعها فيه «

حيث امتلكت القوات المصرية زمام المبادأة والمبادرة للمرة الأولى في حروبها مع إسرائيل مما حرم إسرائيل من إمكانية شن هجوم وقائي وحرمانها أيضا من تعبئة الاحتياط مما أربك القيادة الإسرائيلية باعتراف الإسرائيليين انفسهم بعد أن حطمت الطائرات المصرية مراكز القيادة والاتصالات المتقدمة في سيناء بقيادة الرئيس السابق حسني مبارك قائد القوات الجوية وسلاح الطيران في ذلك الوقت .

ولعل واجبنا الآن هو إبراز الجوانب الإيجابية التي حققها العرب من حرب 1973م باعتبارها الحرب التي عبرت بنا من زمن الانكسارات والهزائم الى ملحمة النصر ثم العبور، ومن ذل الهزيمة الى فخر الانتصار، والتي جمعت العرب صفا واحدا.