أفكار وآراء

ما بين «الوفرة» و«الندرة».. ثمة علاقة ضبابية

14 أكتوبر 2018
14 أكتوبر 2018

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تتسع حلقة المعرفة كلما أوغلنا أكثر في فهم مجموعة الأسباب والمسببات التي تحيط بحياتنا اليومية وتدفع بها نحو الأمام، إما إيجابا بكثير من التحقق فيما يخدم المشروع الإنساني الموكولة إليه عمارة الأرض، وإما سلبا بحلول مزيد من المآسي الإنسانية.وهي المآسي المفتة في عضد هذه المشروع، وهي المأسوف على وجودها أو تكرارها، في ظل رصيد معرفي متراكم من المعرفة لمختلف شؤون الحياة اليومية وعلى امتداد الحياة البشرية، وهو المعزز لفهم أكثر لما يصلح الوجود، والذي ينقلنا الى مستويات مشجعة أكثر للعطاء، ومقلصة أكثر لمجموعة من التجاذبات التي نقيمها على أن لها دورا ما في تحديد هذا العطاء، أو في استحضار الآخرين؛ على سبيل المثال؛ وننزلهم منزلة المنافس، او منازلة المزاحم على أرزاقنا، وعلى حيواتنا المختلفة، وهي الصورة التي يرتكز عليها مفهوما « الوفرة والندرة» وهما المفهومان اللذان شغلا كثيرين من المهتمين بعلم الاجتماع على وجه الخصوص، ولذلك تصدر هذان المفهومان العناوين العريضة لدى مدربي الذات، او مدربي الموارد البشرية، ومع ذلك لا يزال المفهومان يلقيان بظلالهما على حياة الناس، فمنهم من يعيهما وعيا حقيقيا، ولذلك يعيش آمنا مطمئنا، ومنهم من لم يستوعب حقيقتهما، ولذلك لا يزال يناضل في أن يبقى مستلا سيفه وسط الميدان يعيش تحديا مع الآخر، وينظر الى الآخر على أنه المنافس الحقيقي، فينزله منزلة العداء، دون أن يعيد أدراجه قليلا الى الحكمة في الخلق وفي الوجود، فعلى تساع رقعة الحياة، ووجود هذا الكم الهائل من البشر على سطح هذه الأرض، إلا أن الجميع يحصل على قوت يومه، صحيح أن مستويات هذا القوت متفاوتة بين البشر، وذلك لحكمة يعلمها رب هؤلاء البشر، ولكن هذا التفاوت لا يجب أن يكون مبررا للعداء، وللإقصاء، وللبقاء وحيدا في الميدان، أي كان نوع هذا الميدان.

تلعب البيئات التشاركية دورا أكبر في إظهار صورة «الوفرة والندرة» والمقصود بالبيئات التشاركية هنا: بيئات العمل، بيئات الأسواق، بيئات الأسرة ، بيئات المجتمع، بيئات الأنشطة الرياضية، البيئات التعليمية، بمعنى آخر كل البيئات التي تضم مجموعة من الناس بينهما عامل مشترك يسوقونه، أو يتقاضون من خلاله عائدا ماديا أو معنويا، حيث ينقسم هنا الأفراد في هذه البيئات كلها الى فريقين : فريق ينظر بعقلية الندرة، فيرى أن الفريق الآخر منافس له ، وفي ظل هذه المنافسة فهو يقاسمه حقه ، ولا يدع له فرصة الاستحقاق الكامل لأخذ هذا الحق وبالتالي يجب إقصاؤه ، وهؤلاء كلهم ينضمون تحت قائمة الحساد ، وأصحاب النفوس المريضة ، والحاقدون، والمنافسون بطرق ملتوية ، وغير المؤمنين بالرضا والقدر، وغير المؤمنين بالرؤية الواضحة لرب العباد الذي يعطي كل صاحب حق حقه، فإن حرم شخصا من شيء ما ، عوضه في شيء آخر، وأما الفريق الثاني، وهو الناظر بعين «الوفرة» يظل أكثر اطمئنانا لأن يعي «أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» وأن الرزق الذي حصل عليه فلان من الناس، فذلك رزق قد كتبه الله له، وبالتالي ليست هناك ثمة ضرورة لأن يرزح تحت وطأة الندم ، أو زوال النعمة عن غيره ، فهو متيقن من أن الله سوف يعوضه رزقا آخر في شأن آخر من شؤون الحياة ، وبالتالي يحفزه ذلك على الأخذ بالأسباب ، أكثر من ان يضيع وقته في التفكير في كيفية الآخر الذي اكتسب رزقه ، وهما يتقاسمان نفس الظروف ، ونفس الوسط في البيئة التي يعملان فيها مثلا .

لذلك تأتي مزاحمتنا لآخرين لتقليص حقوقهم في الحياة وفق رؤيتنا، تظل نظرة قاصرة ، ولعل دواعيها تعود الى خلل نفسي أكثر منه مادي ، لأن الواقع يظهر في كثير من الأمثلة أن تجد فردا في المجتمع وقد زرقه الله الكثير من الخير في كثير صور هذه الخير، ومع ذلك يزاحم الآخرين في رزقهم، ويظن ؛ بعقلية «الندرة» أن في ذلك الشيء البسيط الذي يملكه الآخر هو الامتداد الطبيعي لمملكته المادية، وبالتالي يسعى لأن يحصل عليه بأي ثمن ، حتى ولو كلفه ذلك دفع أثمان باهظة ، كالقتل مثلا، أو انتهاك الحرمات في بعض الحالات الغريبة .

من يعطي نفسه قليلا من التفكير، وفق عقلية «الوفرة» يجد أن الحياة تتسع لكل طموحاتنا ، وطموحات الآخرين من حولنا ، وأنه كلما اكتشفنا طريقا مشرعا لتوظيف طاقاتنا ، كانت في المقابل هناك طريقا أخرى مشرعة لتوظيف الآخرين لطاقاتهم ، وأنه ليست هناك طريقا واحدا لا تتسع للكل، وأنه ليست هناك مساحة واحدة محدودة لا تتسع للكل، وأنه ليس هناك عطاء واحد يتقاسمه الجميع في هذه الحياة ، وأن الحياة مشرعة أبوابها لكل الطاقات صغيرها وكبيرها، عميقها وبسيطها، حداثتها وطول خبرتها ، وبالتالي فليست ثمة ضرورة لأن نكابر على الوقوف عند محطة واحدة ، لنرى فيها آخر ما يمكن الوصول إليه جميعنا بلا استثناء، لأن في ذلك مهلكة صامتة توهن العزم ، وتوقف الطاقات ، ولا تفتح أفقا متخيلا ؛ على الأقل ؛ يتسع لكل طاقات البشر، وطموحاتهم، وتحقيق آمالهم.

عندما تجمعنا الصدفة على احد الشواطئ نرى عددا غير قليل من الصيادين وهم يبحرون عمقا على امتداد سطح هذه المياه الممتدة الى ما لا نهاية، ومع العودة نرى الجميع وقد امتلأت قواربهم بالأسماك على اختلاف أنواعها وأحجامها، فهل تصدمنا هذه الحقيقة بأن الرزق بين العباد غير محصور على احد دون آخر، وذات الصورة تتكرر عندما ننزل أحد الأسواق وما أكثرها حيث نرى كل تاجر في زاوية، وقد يتماثل كثير من التجار في بيع مواد متشابهة، في الوقت نفسه نرى هذا الكم الهائل من المتسوقين وقد توزعوا على امتداد هذه المتاجر كلها، وهم يتبضعون من كل هذه المتاجر المشرعة أبوابها لاستقبال الآخر، وقد يتبادل المتسوقون زيارة المتاجر على امتداد السوق الواحد، حيث يدخل الباحث عن بضاعة ما، أكثر من متجر، ويخرج الجميع بعد ذلك وقد ظفروا بما يبحثون عنه، دون أن يكون ذلك على حساب تاجر دون آخر، إنه التوزيع الإلهي للرزق، وليس للبشر قدرة في ذلك، وليس من حمل نفسه مشقة الحقد والحسد من هؤلاء التجار – وهو الملزم نفسه بتفكير بعقلية «الندرة» - أن ينال أكثر من غيره في الرزق على امتداد متاجر السوق الواحد.

الذي يحز في النفس أكثر، أنه على امتداد عمر البشرية، مرورا بمختلف التجارب التي تمر، وصولا الى النتائج المتحصلة كلها؛ والصادمة بعضها لعدم توقعها ، إلا أن البشرية لا تزال تستمرئ العمل المشين ضد بعضها بعضا، يحدث ذلك لأن مفهوم «الوفرة والندرة» المختلف عليه بين بني البشرية ، لم يتضح بعد بصورة جلية ، وإلا لزال خوفنا من الآخر الذي يقاسمنا حلو الحياة ومرها فـ «لكل مجتهد نصيب» وما دام النصيب موجود للجميع وفق هذا الاجتهاد، فذلك يذهب الى حقن النفس بالكثر من الاطمئنان وتجفيف أكثر لمنابع القلق والخوف واليأس ، ولن يبقى هناك ثمة ما يدعو الى القلق إذا أمنت النفس أن ما يصيبها لم يكن ليخطئها ، وما أخطأها لم يكن ليصيبها ، فتنسل كل دواعي هذه التجاذبات النفسية السلبية خجلا ولن تعود النفس تحتضنها بعد ذلك، ولكن لعلها الفطرة البشرية المجبولة على كثير من هذه التناقضات هو ما يبرر استمرارها في ذات الطريق ، على الرغم من ذخيرة المحصلة البشرية طوال عمر البشرية كلها، ولكن لعل لكثير من المحفزات ؛ واغلبها معنوية مرتبطة بخالق هذه الكون وبما فيه (أجر، مغفرة، رحمة، حسنات، بركات في الرزق والمال والولد، جنات نعيم بعد ذلك)؛ أن تنظم شيئا من هذه العلاقة المستنفرة بين طرفي معادلة مفهوم «الوفرة والندرة» وهذه الصور كلها لا يستحضرها الواحد منا إلا عند تحقق قناعة أصيلة لا تقبل الاجتهاد، وهذه القناعات غالبا لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يتحقق عنده رصيدا كميا من سنوات العمر، ورصيدا نوعيا من المعرفة والوقوف على كثير من حقائق هذا الوجود الذي يدير دفته خالق هذه الكون رب العزة والجلال، وبخلاف ذلك سيبقى مفهوم «الوفرة والندرة» خاضعا للمقياس البشري الضيق والمحدود.