إشراقات

تزكية النفس

11 أكتوبر 2018
11 أكتوبر 2018

هلال بن حسن اللواتي -

«من أهم جوانب الخلل الإداري الواقع اليوم في أغلب أنظمة الدول هو اعتماد المستوى الأكاديمي للمواطن، والدرجات العالية وقت تخرجه فقط، إلا أن أي منها لا يفكر في أخلاقه ومستوى تزكية نفسه أيضاً، فإن المستوى الأكاديمي مطلوب جداً، ولا يمكن وضع شخص ضعيف في مواقع المسؤولية، إلا أن هناك أمرا مهما أيضا ولا يقل أهمية من المستوى الأكاديمي بل هو أهم ومقدم رتبة عليه وهو المستوى الأخلاقي، ومستوى تزكية النفس».

لو نظرنا إلى الكتاب العزيز وما فيه من مسائل وجودية واختزالية لتاريخ البشرية وبامتياز فريد من نوعه في عالم نقل الأحداث الفردية والاجتماعية فإننا نلاحظ القرآن الكريم قد حدد مواضع الفساد في خمس عناصر أساسية: العنصر الأول: المال، والعنصر الثاني: الجنس، والعنصر الثالث: المنصب، والعنصر الرابع: سطوة السلاح والقوة، والعنصر الخامس: العلم، والعنصر السادس: سلطة العشيرة، ويرجع هذه العناصر الستة إلى مرجع واحد فقط وهو «النفس».

يعرف الفساد بأنه إساءة استعمال الشيء، ومن خلال هذه العناصر يبحث الإنسان عن الشهرة والمكانة في الوسط الاجتماعي، ويبحث عن الاحترام والتقدير والقيام له والتبجيل والسبق بالسلام والتحية، نلاحظ هنا أيضا أن مرجع هذه المطالب هو «النفس» مرة أخرى، وعندما يستعمل هذا الإنسان تلكم العناصر بشكل فاسد في المجتمع فيتكبر ويتسلط ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويسير في الوسط الاجتماعي بنحو يريد تحويل المنكر معروفا والمعروف منكرا فتلاحظ هذا أيضا مرجعه إلى «النفس».، وعندما يستغل الإنسان تلكم العناصر بنحو فاسد فيسلب الحقوق وينهب الأموال ويعتدي على الأعراض ويجعل الموظف خادما له، والمُراجع ذليلاً لإدارته، ومقيداً لأهوائه، وبعدم مباليته للأنظمة وللوائح والقوانين بحكم كونه في محل الائتمان عليها وغير محتمل ورود خيانة الأمانة في حقه فهذا أيضاً ينشئ من «النفس».

إن مظاهر الفساد كثيرة ومتعددة ومتنوعة وكلها تنشأ من هذه النفس الأمارة بالسوء، ولهذا كان الحكماء سابقاً وكان الأنبياء والرسل يؤكدون على حقيقة مهمة جداً، ومما يؤسف له غير مأخوذة في وقتنا الراهن، وهذه الحقيقة هي «تزكية النفس» قبل استلام أية وظيفة وبالأخص إذا كانت الوظيفة محلاً مسؤولاً، سواء أكانت المسؤولية في إدارة فرد أو أفراد أو كانت تتعلق بالمراجعين، أو كانت تتعلق بالأموال العامة أو الخاصة.

إن تزكية النفس لا تعني الدخول في دورات التنمية البشرية، أو في دورات تعلم المهارات، فهذه الدورات والمحاضرات لا تدفع الإنسان عن فساد نفسه، بل ولربما تقوده إلى الفساد المنتظم، وهو أخطر من غيره، فإن الفساد المنظم والمقنن يجعل المرء يستعمل القانون والإدارة وأنظمتها ولوائحها بطريقة تخدم أهدافه وأطماعه الشخصية.

إن من أهم جوانب الخلل الإداري الواقع اليوم في أغلب أنظمة الدول هو اعتماد المستوى الأكاديمي للمواطن، والدرجات العالية وقت تخرجه فقط، إلا أن أي منها لا يفكر في أخلاقه ومستوى تزكية نفسه أيضاً، فإن المستوى الأكاديمي مطلوب جداً، ولا يمكن وضع شخص ضعيف في مواقع المسؤولية، إلا أن هناك أمراً مهماً أيضاً ولا يقل أهمية من المستوى الأكاديمي بل هو أهم ومقدم رتبة عليه وهو المستوى الأخلاقي، ومستوى تزكية النفس.

فتزكية النفس تجعل الإنسان يترفع عن كل دنئ، فيقدم القيم الأخلاقية والفضائل على رذيلة السرقة أو استغلال المنصب أو سلطة العشيرة أو اللقب أو المنصب أو المال أو القوة أو الوجاهة، فالنفس ترى أن الاتصاف بالفضيلة أهم مما ذكر، وأن تكون صادقة مع نفسها، وأن تكون نزيهة مع نفسها، وأن تكون متواضعة في نفسها أهم من كل ما ذكر.

ومما يؤسف أن الإنسان لا يتعظ بالماضين، ولا يريد أن يقرأ من تقدم عليه ممن كانوا أكثر منه أموالاً من قبل قارون، فأظن اليوم لا أحد يصل إلى مستوى عشر ثروة قارون، ومع ذلك لا يتعظ صاحب البيسات والدُرهيمات وإن بلغت عنده المليارات بتلك الشخصية المسماة قارون!، كما لا يريد صاحب المنصب والوجاهة والألقاب أن يتعظ بشخصيات كفرعون وقريش، ولا يريد أن يتعظ صاحب العقارات والتجارات العالمية والهندسة المتطورة في العالم أن يتعظ بقوم عاد وذات العماد، ولا يريد صاحب السلطة والقوة أن يتعظ بهامان ولا نمرود.

عندما ننظر إلى سيرة الأنبياء عليهم السلام فسنجد أهم عنصر اعتمده هؤلاء الأطهار في تربية الأمم والشعوب، وفي تزكية النفوس، وفي تربيتها أحسن تربية، فإنه إذا ما استلمت زمام الأمم وأصبح الناس تحت إدارتها كان سيرها جميلاً وممدوحا، وما هذا العنصر كان سوى «التوحيد» ونقصد منه «التوحيد العملي» الذي يملك هذا العنصر تقويم كل إنسان إذا ما اتقن مبناه، وأتقن منظومته، وليس المقصود من التوحيد العملي التوحيد النظري الذي يقبل الاجتماع مع النفس الأمارة ومع نفس الفاسد، كلا، فإن القرآن الكريم كل همه هو إيصال الإنسان إلى مستوى التحقق بالتوحيد، ومعناه أن تحقق العدالة العظمى في نفس الإنسان، وأن يصبح على صراط الاستقامة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فيجانب الإفراط والتفريط في كل شأن من شؤون حياته، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالتلبس بلباس التوحيد العملي، ويظهر من خلال النصوص الشريفة أن هناك علاقة وجودية رياضية بين الإنسان وسلوكه وبين سائر الكائنات، وأن المحرك الجوهري لكل من الإنسان والكائنات ليس إلا «التوحيد» والارتباط بالخالق والصانع الذي خلق وصنع كل شيء، وهذه العلقة التكوينية الوجودية هي التي تبين خراطة طريق السعادة والصلاح والسعادة والحضارة الإنسانية على كل المستويات والجهات.

إن التزكية التوحيدية لا تختص بالشخص الذي استلم زمام المسؤولية، كلا إنها تشمل كل فرد من أفراد المجتمع، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين: «كلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فكل إنسان يحتل موقع المسؤولية بنحو من الأنحاء، وبشكل من الأشكال الاجتماعية، فهذا يعني أن تزكية النفس متوجهة إلى فرد من أفراد المجتمع، ومن هنا تأتي مسؤولية الجهات الإعلامية والتربوية في المجتمع، لتنظر إلى برامجها ولتنظر هل فيها ما فيه تربية المواطن تربية فضائلية، بحيث تؤهله لأن يكون مسؤولاً صالحاً، ولا يعرف في قاموس مسؤوليته وإدارته الفساد!.

يتصور البعض أن التزكية تكون بمجرد تعلم المعلومات ومفردات معينة من الأخلاق والتنمية البشرية، كلا، بل إنها تنشأ من «إدارة النفس» بالشكل الصحيح، إنها تبدأ من إدارة ما في النفس من القوى، فإذا استطاع الإنسان وضعها على صراط الاستقامة فإنه حتماً سوف يتمكن من إدارة ما حوله على صراط الاستقامة، وكل إخفاق نشاهده في العالم الخارجي سواء في البيت أو في الشارع أو في الدائرة العامة أو الخاصة، أو في المدرسة، أو في المحلات التجارية أو في أي مكان كان فإنه دليل وكاشف على فشل الإدارة على مستوى النفس، وهذه هي التزكية الحقيقية التي تبني الإنسان الفاضل وتبعده عن الفساد والإفساد، ويصلح بذلك الأفراد والمجتمعات، وينعم الجميع في سلامة وأمن اجتماعي واقتصادي وتربوي وإداري وغيرها من أنواع الأمن المتصورة في حياة الإنسان.

ويرد الكلام بعد هذا على من لم يتلق التزكية بالشكل المطلوب لموقعه، كما أن تقوية الرادع القانونية القضائي أيضاً أمر مهم جداً، فلا ينبغي أن تكون هناك حصانة الموقع والمسؤولية لأي أحد، فهذا ما يدفع الأمم والشعوب تعرف أن هناك قضاء وعقوبة لمن يتجاوز على الناس وعلى الأبرياء وعلى أعراضهم وعلى أموالهم أو على حقوقهم.

ويفترض في المقابل أيضاً أن لا يخشى من يُعتدى عليه في ماله أو تستغل المناصب لأجل الاعتداء على عرضه أحداً، فعليه الالتجاء إلى ذوي الشأن والشكاية عليه، فإن سكوت المعتدى عليه يمنح المعتدي بالتمادي أكثر وأكثر على حقوق الناس وعلى أعراض الآخرين.

وفي كل ما ذكر ينبغي على الجهات المسؤولة توعية المواطن وتوعية كل إنسان بضرورة الإبلاغ عن فساد إلى الجهات المختصة، ولا شك أن تتحلى تلكم الجهات المختصة بالنزاهة العظمى، وبعدم التراجع عن الموقف القانوني والأخلاقي، فإن شعور الإنسان بالقوة والثقة والاطمئنان لعدم التخوين وقت الشكاية ولا التراجع خشية أو خوفاً أو طمعاً أو تزلفاً يدفعه إلى إيقاف كل فاسد، وجعله عبرة لمن يعتبر، وفي الوقت نفسه يردع كل من قد يفكر في الفساد عن التفكير في الفساد فضلاً عن ارتكابه، فهناك نفوس مما يؤسف له لا يردعها الأخلاق والقيم الصالحة، بل يردعها العقاب والقضاء، فكما أن الإصلاح يكون بالأخلاق الحسنة والتعاليم الجميلة، والفضائل والقيم الصالحة، فكذلك يكون بإرادة العقوبة وسلطة القضاء.

أجل إن المجتمعات تتعامل مع النفس البشرية التي قد يصلح بعضها بالقيم والجمال وقد يصلح البعض الآخر بالعقوبة، وهنا يرجع الأمر إلى تشخيص المختصين في ذلك.

نعود مجدداً ونكرر .. إن على الدول أن تخصص برامج في تزكية النفس، وأن بدأ هذا المشروع من أوائل مراحل التربية الأسرية، وأن تتكاتف جهود جميع المواطنين في صناعة التزكية، وترسيخها في كل مواطن، وفي كل مقيم، فإذا ترسخت القيم والفضائل في النفوس فعندها لو فتحت أبواب شبكات التواصل الاجتماعي على مصراعيها فلن تضر المزكي، لأنه يكون قد وصل إلى مستوى التحصين الحقيقي.