أفكار وآراء

أجواء رمادية

10 أكتوبر 2018
10 أكتوبر 2018

مصباح قطب -

قرأت في غضون الأيام الماضية عددا من المقالات لكتاب اقتصاديين كبار ، وكلها تحذر من أزمة اقتصادية ومالية مقبلة في 2020م أو دون ذلك ، وأنها ستكون أصعب من أزمة 2008 ، لأن القيود على صانع القرار وعلى البنوك المركزية ووزارات المالية  ستكون أكثر تعقيدا بكثير، وهامش المناورة والحركة سيكون أقل بكثير. لم يكتف بعضهم بذلك بل تطرق إلى احتمالات اندلاع حرب أو حروب يتسبب فيها الحكام الشعبويون الصاعدون في عدة دول أوربية ، أي أولئك الذين يقومون بتبسيط المشاكل بطريقة مخلة، ومغازلة أوجاع الجماهير المتأذية من العولمة ومن الأوضاع الاقتصادية الراهنة أو المحتلمة ، ويستخدمون لغة واحدة في مسعاهم لجذب أصوات الناخبين قوامها إثارة الخوف والتأكيد على أنهم ضد النخب الفاسدة وأنهم - أي الشعبويين - سينهجون سياسات تخدم الجميع ، وينتهي بهم المطاف - كما تقول المقالات التي طالعتها - إلى الارتطام بالحائط والانخراط في الفساد والعجز عن إحداث أي تقدم حقيقي في الاقتصاد أو رفاهية الشعب/‏‏ الشعوب ، ومن ثم لا يجدون مخرجا غير إزاحة الأزمة إلى طرف أو عامل خارجي .. إلى الغير سواء كان بلدا بعيدا أو مجاورا ، أو كان جماعة عرقية أو دينية ، وفي النهاية ينفخون الكير لإشعال حرب أو إثارة الأحقاد والكراهية ضد كل من هو أجنبي أو مختلف عنهم أو معهم . بالطبع ليس كل من يتوقعون حدوث أزمة اقتصادية يقولون بأن الحرب ستشتعل لكنّ الساسة والاقتصاديين الذين يخشون أن تكون الحروب هي الحل الوحيد أمام حكام من النوع الذي ذكرناه ليسوا قلة . يبرهن الخائفون من أزمة اقتصادية على رأيهم بالإشارة بصفة خاصة إلى مشكلة ديون الحكومات والشركات المكتومة لكن البادية للجميع . إنها الديون التي تمت في عهد الأموال الرخيصة حين كانت البنوك المركزية الكبيرة تتسابق إلى ضخ السيولة إلى الأسواق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من آثار أزمة 2008 ومحاولة إعادة عجلة الاقتصاد إلى الدوران. إنها بعينها السياسة التي تمت تسميتها بتخفيف السياسة النقدية أي جعل سعر الفائدة قريبا من الصفر ، وكما يقول المثل الشعبي المصري : « اللي ببلاش كثر منه » ، وذلك ما حدث فعلا مع دول وشركات لا حصر لها في بلاد العالم وفى مقدمتها الصين ذاتها ، ثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة الأمريكية حيث حدث توسع غير محسوب في الاستدانات . كتلة كبيرة من تلك الديون باتت مستحقة السداد الآن . في نفس الوقت فإن البنوك المركزية - وفي مقدمتها الفيدرالي الأمريكي - التي أغرقت الأسواق بالنقد الرخيص، عادت الآن إلى معكوس تلك السياسة أي تشديد السياسة النقدية ما زاد من  الفائدة ورفع سعر الدولار إلى مستويات قياسية. معنى ذلك أن من سيسدد دينه عليه أن يدفع دولارات تكلفتها أعلى وليس ذلك فحسب بل والعرض منها قليل . استجد على الساحة النقدية ايضا مستجد لم يكن في حساب الذين اقترضوا وأفرطوا ألا وهو حرب العملة ( سنأتي لاحقا إلى الحرب التجارية ) ، فالحديث الدائر في دول عديدة حو التعامل بالعملات المحلية أو صيغ للمقاصة والتسوية لا تشمل الدولار او توسيع الصفقات باليوان الصيني ومثل ذلك ، كله يخيف الولايات المتحدة بكل تأكيد ومن ثم فقد باتت السياسة النقدية أحد الأسلحة التي يتم توظيفها في هذا المجال لكي تتم عرقلة عملية إضعاف الدولار أو استبداله أو حتى القضاء عليه إن أمكن . وفي هكذا مناخ أصبح التنبؤ بالغ الصعوبة حتى أن أي دولة تريد طرح سندات بالدولار الآن لا تستطيع ان تحدد بدقة الوقت المناسب لذلك ولا سعر العائد المحتمل أن تحصل به على ما تريد .

يقول المتشائمون أيضا أن الأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة ستأتي وسط ارتفاع صاخب لصوت القومية مقرونا بحرب تجارية صاخبة أيضا . في حين يقال في « أم » العولمة الحديثة إذا جاز التعبير أي الولايات المتحدة « أمريكا أولا » فلنا ان نتصور ما الذي سيجري في كل بلد آخر في العالم، والمشكلة هنا أنه في تلك الأجواء يصعب جدا الاتفاق على أعمال مالية أو نقدية أو تجارية منسقة لإنقاذ الاقتصاد العالمي خلافا لما كان عليه الحال في 2008 ، أيضا فإن الضوابط التي تم تأسيسها عقب الأزمة الماضية لمنع الانفلات البنكي والمضاربات العقارية والسيطرة على بيوت المال غير المصرفية وغير الخاضعة للرقابة، تكاد الآن ان تكون ماضيا ولى فقد قام ترامب وأعوانه بأبطال الكثير منها فضلا عن أن وول ستريت واصلت الضغط منذ اللحظة الأولى لتفريغها من مضمونها أو إلغائها إن أمكن وقد عدنا الآن إلى دورة جديدة من دورات التساهل المخيف ولا أحد يعنى بمواصلة حوكمة القطاع المالي في وسط الموجة الشعبوية الزاعقة ، ما ينذر بعواقب لا يعرف إلا الله مداها. كل ذلك مع خلافات غير مسبوقة حول أسعار النفط وكمياته المضخوخة وغياب أي مرجعية يمكن العودة إليها للإمساك بالزمام بما يحقق التوازن المنشود. والمعروف أن ارتفاع أسعار النفط غير الطبيعي يترابط دائما مع قرب وقوع انفجارات مالية  لأنه يرهق موازنات دول وشركات عديدة  كما يغري بإطلاق العنان للمضاربة على اتساع ساحة الاقتصاد كله .أخيرا فإنه من الغريب أن لا أحد يتحدث بما يجب عن الفقاعة العقارية الكامنة الحالية والتي لا تخطئها العين وتمتد مساحتها من الصين شرقا إلى الولايات المتحدة غربا ومن دول في الشمال إلى أخرى في الجنوب مقرونة بارتفاعات غير عادية فأسعار الأسهم بالبورصة الأمريكية ويبدو أن هم الحرب التجارية وأسعار النفط والحروب والمحن في منطقة الشرق الأوسط والتوتر في بحر الصين والأزمات في منطقة البلقان وبعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق قد أنسى كثيرين ما يدور على ساحتي العقارات والأسهم . في المقابل هناك من يرى أن الحديث عن أزمة كبرى مقبلة فيه مبالغة وأنه ثبت أن الدول يمكن أن تواصل وسط ظروف صعبة وبطريقة أفضل كثيرا من التوقعات ومثال ذلك كما يرون أن الاقتصاد البريطاني مازال يسير بشكل معقول رغم أن الكل تنبأ بصدمة كبيرة بعد « بريكست» ، كما أن تركيا المنكوبة بارتفاع حاد في التضخم وهبوط شديد في العملة مازالت تقف إلى حد ما على قدميها وهكذا. ويرى هذا الاتجاه أيضا إنه لأمر طبيعي أن تحدث حركة تصحيحية في الاقتصاد العالمي طبقا لقانون الدورات الاقتصادية بعد سنوات امتدت من 2009 إلى الآن أي أن حدوث أزمة أخرى بعد عشر سنوات من السير أمر طبيعي وعليه يرون أن الأزمة ستكون من النوع الذي يمكن السيطرة عليه باستخدام مقادير مناسبة من الضبط المالي وعوائد التطور التكنولوجي والخدمات الجديدة والطاقة المتجددة والابتكار وفتح المجال أوسع أمام النساء في بلاد عديدة والنمو القوي في الشركات الرائدة الصغيرة الخ . هل الصور قاتمة أم رمادية فقط ... مظلمة أم مجرد مضببة؟  الأمر متروك للزمن.