أفكار وآراء

دهاء التاريخ في إدلب يغير جوانب المعادلة

06 أكتوبر 2018
06 أكتوبر 2018

طارق الحريري- باحث في شؤون السلاح والاستراتيجية -

في الماراثون السياسي والعسكري بين القوى الفاعلة في ملف واقعة إدلب بدا الانكشاف واضحا لتعقيدات الداخل والخارج فيما يخص الوضع السوري المضطرب في أبعاده المحلية والإقليمية والدولية، مما يشي بمخاطر لا تزال تهدد آفاق الحل وفرص الانفراج. فداخليا تلعب القوى الخارجية دورا ما زال مؤثرا رغم الانتصارات التي حققها الجيش الحكومي السوري واستعادته لأراض شاسعة ومواقع استراتيجية مهمة وحاكمة، ويساعد على اختلال الوضع السوري التباينات المذهبية والعرقية والأيدلوجية التي تلقي بظلال كثيفة على المشهد السياسي الداخلي، كما أن جماعات مسلحة لا تزال تسيطر، بدعم خارجي مباشر أو غير مباشر، على مناطق وبؤر شمال وشرق سوريا وجيوب هامشية في الجنوب. وإقليميا يتزايد تشبث الأطراف التي انغمست في سوريا باستمرار وجودها في المعترك السوري، سواء كان هذا الوجود بغطاء من الدولة السورية أو بدونه. أما دوليا فقد أظهرت هستيريا التصريحات من الدول الكبرى ذات الاهتمام بالشأن السوري عمق أهدافها ومصالحها العارمة، عندما كانت العمليات العسكرية للجيش الحكومي السوري على وشك الاندلاع لاستعادة المدينة.يصعب وضع تصور مستقبلي قريب في الوقت الراهن لما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا، ورغم إن إيقاع الأحداث يتسارع ويتغير في إدلب، القضية الأكثر اشتعالا الآن من بين ملفات متعددة، إلا أن للتاريخ دهاء دائما ما يعصف بالحسابات والمؤمرات والخطط والأدوار، يتضح هذا في اتفاق «سوتشي» الأخير قبل أيام بين كل من بوتين وأردوغان على إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين قوات الحكومة السورية والمعارضة في محاولة لتسوية الوضع سلميا في محافظة إدلب، التي تخضع لسيطرة المعارضة والإرهاب بشكل رئيسي على أن ينفذ الاتفاق غير المعلن في تفاصيله كافة قبل منتصف شهر ديسمبر في محاولة لإخراج العناصر الأجنبية وإعادة تأهيل العناصر المسلحة السورية. ومن اللافت أن إسراع إيران وحزب الله بتأييد الاتفاق الروسي التركي يساهم في تكريس الدور الإيراني على طاولة الحل السياسي في المراحل المقبلة، لأنه في حال نجاح اتفاق «سوتشي» الأخير تكون طهران قد حجزت مقعدها باعتبارها تخلت عن موقفها بتصفية المسلحين في إدلب، وفي حال فشل مسعى الاتفاق يصبح خيار الحل العسكري مقبولا إزاء تعنت المسلحين أو بعض منهم، وهذا يصب في مصلحة الحكم السوري وبالتالي ظهيره الإيراني.

وللتأكيد على دهاء التاريخ فقد تسببت حادثة إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية «إيل20» نتيجة خديعة إسرائيلية مبيتة في تفكيك تفاهمات روسية إسرائيلية حول السماح لتل أبيب بتنفيذ ضربات جوية ضد سوريا، مما سوف يحد - نتيجة الوضع الذي استجد بعد سقوط طائرة الاستطلاع - من العربدة الإسرائيلية في المجال الجوي السوري ويجزم بهذا الاحتمال التصريحات العنيفة من وزير الدفاع الروسي، التي تلقى باللائمة على تل أبيب وتتوعدها بالمحاسبة. ومن المعروف أن «بوتين» ليس رئيسا انفعاليا وهو يتأنى في الرد كي يحصل على الثمن الذي يريده، وهو أغلى بكثير من الاعتذار. وبالنسبة إلى رده على اتصال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووصفه لما حدث بأنه اعتداء على سيادة الدولة السورية، فهذا يشير إلى تكهنات قوية باحتمال أن تقوم موسكو بتسليح سوريا بأنظمة دفاع جوي متقدمة تمكنها من إحكام سيطرتها على مجالها الجوى.

لا شك أن وضع السكان المدنيين في إدلب يسبب وضعا إشكاليا يصعب من اتخاذ قرار استعادة المدينة من المسلحين عسكريا، ويضع عوائق في تنفيذ الضربات بالأسلحة الأرضية من مدفعيات وراجمات صواريخ، وأيضا القصف الجوي الذي تشارك فيه روسيا على نطاق واسع. ومن المعروف أن طائرة الاستطلاع الروسية «إيل20» التي أسقطت متصلة بهيئة الأركان مباشرة في موسكو وكانت تقوم بمهام دقيقة لرصد الطائرات المسيرة من إدلب وتقوم الطائرة أيضا بتوجيه وتدقيق الصواريخ المصوبة على مواقع المسلحين بعد تحديد الأهداف والتحركات لتقليل دائرة الخسائر بين المدنيين لإسقاط حجج الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حول خسائر المدنيين لكن اتفاق «سوتشي» الأخير أسقط في يد الغرب وأضاع عليه ذرائع استغلال الوضع الإنساني لأنه في حالة تعنت المسلحين يصبح الحل العسكري ضرورة مبررة، تقلل من أدوات الغرب لتعطيل استعادة المدينة، وفى حالة نجاح الحل السياسي يكون الغرب قد فقد نقاطا من سلة نفوذه في ترتيبات الحل النهائي.

اختلفت الأوضاع السياسية والعسكرية بشأن الأزمة السورية، بعد أن بدأ الجيش السوري بحشد قواته حول محافظة إدلب في سعيه المتواصل من أجل بسط نفوذ الدولة ولاستعادة المدينة، التي تحولت إلى بؤرة تجميع للإرهابين وعناصر المعارضة المسلحة. وتصاعدت الأحداث بوتيرة حادة وبدأت مواقف قاطعة تطرأ على العلاقات بين أكبر قوتين عسكريتين إقليميا في دائرة الأزمة السورية وهما تركيا ولها قوات داخل سوريا وإسرائيل التي دأبت على القيام بهجمات جوية بلغ عددها 210 غارات خلال قرابة عام ونصف العام، كما أنها كانت تقدم الدعم المادي واللوجيستي للجماعات المسلحة على اختلاف أطيافها في انتهاك صارخ لسيادة الدولة السورية، كما أن العلاقات بين أنقرة وتل أبيب غير مستقرة في الفترة الأخيرة، إلا إنها أن تكن مأزومة، لكن ما بعد إدلب حدث تحول سريع جاء كمحصلة لاتفاق سوتشي الأخير وسقوط طائرة الاستطلاع الروسية، عبر عنه مستشار الرئيس التركي المقرب «ياسين أقطاي» المعروف عنه ندرة التصريحات وأنها دائما ما تعكس موقف الحكومة إذ قال: «إن إسرائيل بهجومها على سوريا أرادت تخريب الجو الإيجابي لاتفاق إدلب بين بوتين وأردوغان» ونوه إلى أن هذا الاتفاق تاريخي، يقرب سوريا من السلام. لكن اللافت والمثير للانتباه هو استطراده قائلا: «إضعاف سوريا وزعزعة استقرارها هو من أولويات إسرائيل بغض النظر عمن يحكمها سواء أكان الأسد أو غيره ومن الواضح أنها تريد استمرار الحرب والقتل في سوريا بهدف استنزاف القوة والطاقة السورية كي لا تبقى في جوارها دولة قوية» وهنا علينا ألا ننسى أن الأتراك يعتبرون أن مساندة إسرائيل للأكراد في سوريا والعراق من أجل إقامة دولتهم المستقلة تهديد استراتيجي للأمن القومى التركي.

روسيا صاحبة الموقف الحاكم في إدلب وهي واقعيا صاحبة الدور الأقوى في المسألة السورية كاملة وهى غير مستعدة للتخلي عن هذا الدور مهما كانت طبيعة المساومات والضغوط، لأنها لا يمكن أن تفرط في قاعدتها البحرية في بانياس مستقبلا حتى لا يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة مغلقة على حلف الناتو وفى هذا تهديد استراتيجي لمصالحها في هذه المنطقة من العالم، وحتى لا تفقد موطئ قدم للمياه الدافئة في مجالها الاستراتيجي الجنوبي. وقد تعاملت روسيا مع الأزمة في إدلب بمهارة، فهي ساهمت عسكريا ودبلوماسيا وإعلاميا بالتصعيد في مواجهة القوى المناوئة لهجوم الجيش السوري على إدلب، واستمر هذا التصعيد بعد المؤتمر الثلاثي في طهران في السابع من سبتمبر الحالي، لكنها بالاتفاق الأخير مع تركيا أدارت الدفة في اتجاه يغير من تموضع الأزمة بدرجة تجعلها الرابح الأكبر لما تعقد العزم عليه في حالة نجاح أو فشل هذا الاتفاق.

رغم إن التناقضات والأطماع والتضارب في المصالح بين الأطراف المشتبكة في ملف الأزمة السورية تسببت في تعقد الوصول إلى حل نهائي قريب إلا أن نتائج أزمة إدلب تحديدا تشي بأن مفتاح الحل سوف يأتي من هذه المدينة بعد ما تقدم في هذا المقال وأظهر دهاء التاريخ الذي يبدل ويغير في علاقات المصالح، ولأن ما تفاعل حول إدلب بات يصب في صالح الدولة السورية.