إشراقات

تحديات المسيرة التعليمية

04 أكتوبر 2018
04 أكتوبر 2018

د. سعيد بن سليمان الوائلي /كلية العلوم الشرعية - مسقط -

لا يخفى على أحد ما للجانب التعليمي من أهمية في الحياة الإنسانية، بمجالاتها المتعددة الفردية والاجتماعية، وقد أتت النصوص الشرعية من الكتاب العزيز والسنة المطهرة مؤكدة هذه الأهمية البالغة، وحاثة على السعي للتفاعل مع المسيرة التعليمية، تعلما وتعليما؛ لتتحقق الأهداف المرجوة منها.

ولكل طريق مسلوك عقبات مهما تذلل للسالكين، ومُهد للمرتادين، وكذلك كانت طريق العلم والتعليم، فيها ما فيها من تحديات وصعوبات تواجه من يسلكها ويتعامل معها، سوف أعرض بصورة عامّة جملة منها. وقبل كل شيء، ينبغي أن نشير إلى الإطار العام للمسيرة التعليمية حتى نتصور أبعادها، فندرك بعد ذلك حجم الأخطار والمصاعب، وكثرة التحديات الحاصلة في طريق من يتعامل معها، فضلا عمن أراد التفاعل معها بكل إيجابية.

فالإطار العامّ للقضية أنّ نجعلها عملية متعلقة بكل ما يضاف إلى العلم والمعرفة، أو إلى جانب التحصيل فيما يكّون شخصية الإنسان الفكرية الثقافية، وما يترتب عليه من مقتضى العمل والتطبيق بعلم.

وأول مشكلة تواجهنا في هذا الطريق: عدم الرغبة في العلم، وتتفاقم المشكلة تعقيدا لدرجة أن تصل عقبة من عقبات التحدي إن توفقت مع عدم رغبة في التعليم من قبل الأساتذة والمعلمين. ولحل هذه المشكلة لا بد من إدراك قيمة العلم وأهميته في الحياة، وتناول ذلك بصورة تتجدد فيها الرغبة في طلب العلم، حيث تزرع معاني أن العلم هو المعرفة المحمودة وأنه نقيض الجهل المذموم. وأنه يجب على المرء أن يجتهد في طلب العلم الشرعي وهو علم ما أنزل الله على رسوله من البيانات والهدى، والعلم الدنيوي وهو علم الصناعات وما يتعلق بها (طب، زراعة، هندسة، تقنية…)، إذا أمكن له ذلك، مع العلم أن طلبهما معا مستحسن. لكننا سنخص بالذكر في هذا الباب العلم الشرعي، جاء في الحديث: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». و«طلب العلم فريضة على كل مسلم».

ويغذى باعتبار أن طلب العلم واجب على كل فردٍ حسب موقعه وقدراته، وتتعدد مجالات طلب العلم ولكن أهمها هي العلوم الشرعية التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة، فمعرفة الأحكام المتعلقة بالعبادات من العلوم التي يجب على كل مسلمٍ تعلّمها لأنها تقود إلى تأدية الفرائض والعبادات بالشكل الصحيح. ومن نصوص الشريعة ما يخص بالذكر الذين يعلمون، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، ومن الأحاديث: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»، وحديث: «من تعلم العلم لله عز وجل وعمل به حشر يوم القيامة آمنا ورزق الورود على الحوض»... وغيرها.

وإن مما يتصل بأخلاق الفرد في الجانب العلمي قيامه بالعملية التعليمية، حيث يكون معلما لغيره، بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها.. فإن لم يقم بذلك ستتوقف المسيرة العلمية ولم يحصل ما ينبغي أن يكون فيها.

ولو أدرك القائمون على العملية التعليمية قدر العلم وقيمته سيقضى على المشكلة من جذورها.. هذه من أهم الأمور في القضاء على هذه المشكلة.

ومن التحديات عدم الأمانة العلمية، مع أنّ الأمانة العلمية جزء من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعيتها الكبرى ومسؤولية الإنسان عنها، من مثل قوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).

ومن مجالاتها: عدم الخوض في شيء إلا بعلم ومعرفة. وعدم إصدار الأحكام العامة. والرجوع عن الاجتهادات الخاطئة. وتبين الأخطاء التي وقع فيها. ونسبة الأفكار إلى أصحابها، فضلا عن النصوص المقتبسة. (إذا لم يحل إلى موضع النص أو الفكرة ستضاف إليه، لا يحيل إلى مراجع لم يطلع عليها، لا ينسب قولا إلى غير قائله). وعدم الاعتداء على تأليف الآخرين بدون إذن. ونقل المخطوط كما هو عند تحقيقه. والتجرد عن الهوى في النقد والتأليف.

ولا شك أن هذه المشكلة يتم القضاء عليها بالاتصاف بالأمانة وتحقيقها في كل مجالاتها، وإدراك خطر من يخالفها، وعقوبة من يتصف بضدها.. والعاقبة الوخيمة لمن يخالفها.

ومن التحديات المتصلة بالمسيرة العلمية: عدم العمل بالعلم، مع أن على طالب العلم مسؤولية عظيمة، وهي متفاوتة بحسب ما عنده من العلم، وبحسب حاجة الناس إليه.. وبحسب طاقته وقدرته. أما من جهة نفسه: فعليه أن يعتني بفهم العلم وتحصيله، وأن يخلص لله ويتقيه، ويعمل بما علم، فالعلم أمانة أودعها الله إياه، ولابد من أدائها كما أمره ربه، ولا يهدف بعلمه وعمله إلى مال، أو عَرَض من الدنيا، ولا يطلب الرياء والسمعة، فطالب العلم له ثلاثة مواقف: موقف مع ربه بالصدق والإخلاص.. وموقف مع نفسه بالعلم والعمل.. وموقف مع غيره بالتعليم والدعوة وحسن الخلق.

قال تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

وآفة العمل عدم مطابقته لمراد الله الذي يحبه ويرضاه. إما بسبب فساد العلم.. وإما بسبب فساد الإرادة. ففساده من جهة العلم أن يخالف المعتقد المشروع. وأما فساده من جهة القصد، فأن يخالف المقصد الشرعي، بسوء نية. قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، وقد جاء في الحديث: « وَيْلٌ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِمَنْ يَعْلَمُ وَلَمْ يَعْمَلْ مَرَّتَيْنِ»، وحديث: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع» ذكر منها: «وماذا عمل فيما علم». وحديث: «من تعلم العلم لله عز وجل وعمل به...».

ومن التحديات والصعوبات التي تواجه المسيرة التعليمية: عدم توفر الوسائل والأساليب المعينة في إيصال المعلومة، وعدم القدرة على التعامل مع المستويات الفكرية المتعددة لضعف التكوين أو عدم تمكن الطاقات والقدرات على القيام بما يجب القيام به.. وهذه المشاكل والصعوبات وإن كانت وقتية أو شخصية أو بيئية، إلا أنها تعترض المسيرة العلمية فتحول دون سيرها وتقدمها، والقضاء على هذه الصعوبات حسب توفر الأمور المادية التي تمكن من القضاء عليها.. مع أن الرغبة الملحة على العلم والتعليم يمكن أن تحقق سيرها بصورة حسنة ومقبولة، فيستخدم فيها ما توفر، ويستعان بما أمكن.. كما كان السلف الصالح في تعلمهم وتعليمهم حتى حازوا على قدم السبق والشهادة لهم في العلوم الدينية والدنيوية.

ومن التحديات والصعوبات التي ينبغي أن نشير إليها والتي تواجه المسيرة التعليمية: عدم الاحترام.. حيث إن من الجوانب العلمية أن يكون الإنسان محترما لغيره، ومن احترام الغير احترام رأيه، ومما يجعل هذه الصفة لها مكانها في هذا الموضع، وجود التبادل الثقافي وحوار النقاش واختلاف الآراء.

واختلاف الآراء والتوجهات والأفكار أمر مسلم به في الواقع، بل وضع له الضوابط والآداب والقواعد حتى لا يقع الشجار والنزاع والصدام بين الناس.. من أجل ذلك لابد من احترام كل طرف لوجهة نظر الآخر حتى لو كانت مخالفة لرأيه.. كما أن الحوار يعني التسامح واحترام حرية الآخرين. فكما يعطي الإنسان الحق لنفسه في أن يكون له رأي وفكر ووجهة نظر مستقلة عليه أن يعطي الحق ذاته لمن يختلف معه في الفكر والرأي. قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .. بجانب الأحاديث التي تبين ترابط المسلمين وحق المسلم على المسلم.

وما يحدث أحيانا من عدم احترام الطالب لأستاذه، وعدم تقبل الأستاذ لطلبته يحول دون سير العملية التعليمية والوصول بها إلى أهدافها.

هذه بعض التحديات والصعوبات التي رأيت أن يقف عندها، ولا شك أن هناك غيرها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف الملابسة للعلم والتعليم.

وفي الختام أذكر جملة من العوامل المساعدة التي تعين على القضاء على المشكلات وحل الصعوبات، وهي أمور عامة لا تختص بالعملية التعليمية، لكن لها أثرها وتأثيرها البالغ فيها، ومن أبرزها:

مجاهدة النفس ومحاسبتها حيث تُعرِّف الإنسان على مواطن الخلل لديه، وتساعدُه على تجاوز أخطائه وعثراته، والارتقاء بذاته ومجتمعه في المجال العلني نحو الأفضل.

كذلك مجال التربية والتنشئة: فتنشئة الأبناءِ على الأخلاق الفاضلة تعتبرُ من الأمور التي ترتقي بالآباء والمربين والمعلمين والمؤدبين، من قبل من تمارس معهم العملية التربوية، كما أنّها من الأمور التي تحتاج إلى صبرٍ حتى يرى المُرَبّون نتاجَ غرسهم، وهي في الوقت ذاته كفيلة وحدها بإحداث نهضةٍ حقيقيّة على مستوى الدول، والمجتمعات، إن تمَّت بذكاء، وعلى نُطُقٍ واسعة.

والدعوة إلى التأمل والتفكر في الأمور وعاقبتها، حيث يحدث ذلك أثرا واضحا في الحياة العلمية والعملية، فلا يوجدُ ما هو أوضح من الآثار الحسنة والآثار السيئة لما يراد غرسه في حياة الإنسان، خاصَّة على الصعيد النفسيّ. كذلك البيئة الصالحة والجليس الصالح وذلك بمشاهدة أصحاب الفعال الجميلة ومصاحبة أهل الخير، لما يكون له من أثر في بناء الذات وبناء المجتمع بكل ما فيه خير، وتظهر آثار ذلك على العملية التعليمية بصورة لا تخفى على أحد. ومن تلك العوامل: القدوة الحسنة التي تجعل من الإنسان شيئا آخر بحسب المثال الذي يقتدي به ويتأسى بحاله، من أجل ذلك أمرنا أن نتخذ أكمل الخَلْق إيماناً وأخلاقاً وعلما وعملا، قدوة لنا في كل شؤون حياتنا، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) .

هذا ما يسر الله ذكره، وتمامه بحمد الله وفضله.