إشراقات

عوامل النجاح

04 أكتوبر 2018
04 أكتوبر 2018

د. محمد عبدالرحيم الزيني /أستاذ الفلسفة كلية العلوم الشرعية -

«إنجاح العملية التربوية والتعليمية في مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى تضافر مؤسسات المجتمع كافة، وأهمها تفعيل دور المسجد في نشر الوعي الديني وسماحة تعاليم الإسلام وبث الأفكار العقلانية، ومحاربة الآراء المتطرفة، أضف إلى ذلك تكثيف مقرر التربية الإسلامية لإشاعة الحس الديني في نفوس أفراد المجتمع وترسيخ المفاهيم الإسلامية، فلا شك أن للوازع الديني أهمية كبرى في تعديل سلوك الأفراد وتقويمه».

لا جدال أن الإسلام اهتم اهتماما واسعا بإرساء نظام تربوي وتعليمي سدته القيم الأخلاقية ولحمته الأخوة الإنسانية يسير المسلمون على هديه منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسى أسسه في المدينة، واقتدى به الخلفاء الراشدون، وأصبح سمة من سمات الحضارة الإسلامية التي نشرت أنوارها على العالم وظلت إشراقاتها تضيء العصور المظلمة في أوربة. وهذه القضية تعد من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل أو برهان.

فمن المعلوم أن أول آية في القرآن جاءت بطلب جازم للمسلم تطالبه بالقراءة «اقرأ»، ليست بالمعنى القراءة والاطلاع وحسب، بل بمعنى التأمل والتدبر في كتابه المسطور والكون المنظور، والمجاهدة في قراءة عناصره واكتشاف قوانينه والسيطرة عليها للارتقاء بحياته وتحقيق كماله ورفاهيته وسعادته في الدنيا والآخرة.

كذلك كانت أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته مهمازا لتحريك همة المسلمين لتحصيل العلم بمفهومه الشامل العلوم الدينية والعلوم الطبيعية وكل علم ينهض بحياة المسلم ويساعده على امتلاك مقدراتها في أجواء الفضاء وجنبات الأرض (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة). وكان المسجد قلعة علمية يلقى فيه الدروس الدينية وتحفيظ القرآن وتفسيره، واجتماعية (كان ينام فيه أهل الصفة) واقتصادية «توزيع الغنائم والزكاة» وعسكرية (انطلاق الجيوش منه)، وهكذا حافظ المسلمون على دور المسجد التربوي والتعليمي واهتموا بتشييد المساجد من الناحية المعمارية والدينية لأنها كانت جامعات. يقول الإمام الغزالي (ت 505 هـ): «أصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم فهو أفضل الأعمال».

كذلك رحل المسلمون في طلب العلم والسعي إلى تحصيل أكبر قدر من المعارف المتاحة لهم آنذاك في التفسير والفقه وأصوله ومصطلح الحديث، فتحملوا الجهد والتعب المشاق وقدموا إلى العواصم التي كانت تمثل قلاعا للعلم مثل دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، وكان العلماء يذهبون من المشرق إلى المغرب، وكذلك كان يرحل علماء الأندلس إلى المشرق للاطلاع على المعارف التي سبق إليها المشارقة والاستزادة من علومهم، فحينما قرأ الصاحب بن عباد (ت 385 هـ) كتاب «العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 هـ) قال كلمته المشهورة: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وهي تعبير صادق عن التبادل الثقافي والتلاقح الفكري بين دول العالم الإسلامي وسعة المعرفة وشغف العلماء في قراءة إنتاج غيرهم.

وقرأنا عن نبوغ العلماء في كافة مناحي المعرفة بعد أن خاضوا في بحار العلوم وعرفنا من علماء اللغة العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ) وابن دريد (ت 321 هـ )، ومن المؤرخين الطبري (310 هـ) والمسعودي (346 هـ) وابن الأثير (630 هـ)، ومن الذين اشتغلوا بالكيمياء الكندي الفيلسوف (ت 252 هـ) وجابر بن حيان (216 هـ) وإخوان الصفا (ق 4 هـ )، ومن الأطباء أبي بكر الرازي (311 هـ) وابن سينا (ت 328 هـ) والزهراوي (400 هـ) والخوارزمي (232 هـ) الرياضي.

وكذلك في مجال التربية الإسلامية والاهتمام بتربية الطفل وتهذيبه منذ نعومة أظفاره ومتابعة مراحل نموه الجسمي والنفسي والعقلي والاجتماعي؛ سواء في مرحلة الطفولة المبكرة أم الطفولة المتأخرة وكذلك مرحلة المراهقة، هذه المراحل كانت محط اهتمام علماء المسلمين القدامى ومنهم ابن سحنون (202 هـ) في كتابه «آداب المعلمين» (والقابسي (ت 403 هـ) «رسالة في الكلام عن تعليم الصبيان» والإمام الغزالي في «إحياء علو الدين» وابن القيم (751 هـ) في كتابه «تحفة المودود في أحكام المولود» وابن خلدون (ت 806 هـ) في المقدمة. وكانت الكتاتيب والمساجد هي المدارس العلمية التي يتلقى فيها التلاميذ علومهم وكان أغلبها حفظ القرآن وتعلم الحساب وبعض مبادئ الفقه.

ثم ظهرت المدارس على يد نظام الملك السلجوقي (ت 485 هـ) وبدأت تعم العالم الإسلامي قاطبة، وكانت الدول القائمة تتنافس في مجال إنشاء المدارس والحرص على تزويد الطلاب بكل احتياجاتهم بما فيها التغذية والإقامة، حتى مطلع العصر الحديث وبناء المعاهد والجامعات التي قامت بدور كبير في إحداث نهضة تربوية تعليمية وبناء العقول الحرة ونشر الفكر المستنير ونشر المعارف المتعددة وحفظ هوية الشخصية الإسلامية. ولا شك أن العملية التعليمية والتربوية تعتمد على مربع أضلاعه هي: المعلم، والتلميذ، والمناهج الدراسية، والإدارة القائمة على العملية التربوية:

ـ يقوم المعلم بالعبء الأكبر في العملية التعليمية والتربوية والعمود الفقري لها، فهو في البدء صاحب رسالة ومصلح اجتماعي ومرشد ديني ومربي فاضل، وهو يمثل القدوة للطلاب في جميع مراحل العملية التعليمية وهو الذي يغرس في نفوسهم حب العلم والإقبال عليه والسعي إلى اكتشاف كنوز المعرفة الإنسانية سواء ما جادت به قرائح علماء العرب وعقولهم أو علماء الغرب فالعلم ليس له وطن فهو تراث إنساني. وهو الذي ينمي تفكيرهم العلمي ويهذب نفوسهم ويغرس فيها القيم الإنسانية، مثل عشق الانتماء للوطن والاعتزاز به والفخر بتاريخه والتضحية من أجله، والمجاهدة في بذر بذور كرائم الأخلاق السامية والمثل العليا وعلى الجملة تحقيق الكمال الإنساني. لذلك يجب أن يتم اختيار المعلمين من أحسن العناصر كفاءة جسميا من ناحية خلوه من العيوب الجسمية والاضطرابات النفسية، وعلى درجة عالية من الحس الديني والتحصيل العلمي وسعة الاطلاع وعشق المعرفة، ولين الجانب واتزان النفس وسماحتها، وقبل كل ذلك الرغبة الجارفة والدافع إلى تبوأ هذه المكانة والعمل بمهنة الرسل؛ لأنه صحاب رسالة علمية وفكرية ومنوط به بناء الشخصية الإنسانية من كافة جوانبها. وليست مهنة للارتزاق أو «وظيفة»، ويفضل إجراء اختبارات تحريرية ومقابلات شخصية لاختيار أفضل عناصر المعلمين، وهذا أمر معمول به في كثير من الدول.

الطالب: وهو محور العملية التعليمية والتربوية وهو رجل المستقبل والعالم الواعد والفقيه الأريب والطبيب المتمكن والمهندس المخترع، والشاعر المجيد والأديب الألمعي والقصاص الماهر. والذي يعمل الجميع على تربيته تربية إسلامية سليمة شيئا فشيئا، والذي يتضافر الجميع على مساعدته وبناء جسمه بناء سليما وتربيته تربية نفسية يحافظ فيها على انفعالاته والتحكم في انفعال الغضب ويعتدل في عواطفه الجياشة، وعلى الجملة تكوين شخصية قوية متعاونة متميزة. وكذلك تزويده بمهارات التفكير السليم واستقلال الفكر واحترام آراء الآخرين، وغرس أسس التفكير العلمي؛ والبعد عن التعصب والموضوعية في أحكامه وتحليل القضايا المركبة إلى عناصرها الجزئية، والتحرر من الجمود على آراء الآباء والأجداد والتمسك بالآراء المنحرفة والمتطرفة. وقبل ذلك وبعده تنمية الوازع الديني والحس الخلقي، وانعكاس المهارات التي تعلمها في حياته اليومية، وتطبيقها في الواقع المعيش من خلال تعامله مع أفراد المجتمع.

في ضوء ما سبق علينا أن نذلل العقبات التي تعترض تحقيق الأهداف النبيلة التي يسعى إليها رجال التربية وأهمها؛ تكدس الفصول بالطلاب، وقلة الوسائل التعليمية، وعدم مراعاة مواهب الطالب وقدراته العلمية وميوله النفسية، ونقص الدافعية في التوسع في المعرفة والاستزادة من المكتبة، والانكفاء على المقرر المدرسي أو الجامعي دون أن يفتح نوافذ المعرفة التي تطل على العالم لكي ينهل من كافة ينابيع المعرفة العالمية.

- لا شك أن على جميع المشرفين على العملية التعليمية «الإدارة والمعلم» مسؤولية جسيمة في تذليل العقبات، وتخفيف أعداد الطلاب لكي يتاح للمعلم أكبر فرصة للتواصل بالطلاب وكشف مواهبهم والعمل على ارتقائها وتنميتها ومساعدتهم في التزود من صنوف المعرفة على حسب ميول الطلاب، وكذلك معرفة الفروق الفردية بين الطلاب ومعرفة مواضع النقص سواء في المجال العلمي أو النفسي، وبذل الجهد مع الطلاب متوسطي الذكاء وتشجيعهم وبث روح الطموح في نفوسهم والأخذ بيدهم إلى بر الأمان، وكم من علماء تعثروا في أيام الدراسة ثم أصبحوا من العباقرة، ولعل أبرز مثال على ذلك الشيخ محمد عبده الذي لم يستطع أن يتكيف مع أسلوب التعليم في الأزهر آنذاك فترك الدراسة لولا أن الله تداركه بالشيخ درويش الذي ذلل له العقبات وحبب إليه علم النحو ،فعاد إلى الدراسة وأصبح علما من علماء الإسلام وزعيم من زعماء الإصلاح الديني.

ويجب أن يتعاون الجميع، المعلم مع الأخصائي الاجتماعي الذي عليه مهمة معالجة مشكلات الطلاب الاجتماعية والنفسية لاسيما وهم يمرون بمرحلة المراهقة وهي مرحلة حرجة نظرا للتغيرات الجسمية والفسيولوجية والنفسية، والحيرة التي يعانيها من بعض المشكلات الوجودية التي تؤرق عقله وتحتاج إلى توجيه ديني وقلب حنون وسند علمي حتى ننقذه من الحيرة التي يعاني منها والأرق الذي يجتاحه.

كما أن المناهج المدرسية والجامعية هي مهمة للغاية في التكوين العلمي للطلاب والإعداد الفكري، وهي الزاد الوافر الذي يتزودون به ويفتح لهم آفاق المعرفة الرحبة في المستقبل الواعد. ولا جدال أن الطالب يعاني معاناة شديدة أحيانا من كثرة المقررات أو تداخل قضاياها، وعدم وضوح لغة الكاتب وغموض أسلوبه وسوء العرض وافتقاد المنهجية، ونقص المعرفة عند الطلاب في عدم تقدير بعض المقررات لأنها جديدة عليهم ولم يتعرفوا عليها في سنوات دراستهم السابقة.

ولحل هذه الإشكالية يقع العبء على واضعي المناهج إذ يجب عليهم معالجة القصور فيها، وأن تتناسب مع مستواهم العقلي وبيئتهم الاجتماعية والمحيط الاجتماعي، كذلك يجب أن تتحدى ذكائهم وتعلي من سقف طموحهم وتحفز قدراتهم العقلية ومواهبهم الشخصية، ومن الضروري أن تعالج المشكلات الآنية المحيطة بالمجتمع، وأن تتميز بالواقعية وعدم التهويم في عالم المثل بحيث يعيش الطالب مأزق نفسي، بين الواقع المؤلم ومثالية المبادئ فيعاني من انفصام في الشخصية.

وكذلك إدارة المدرسة أو نخبة المشرفين على العملية التعليمية، وهؤلاء عليهم مهمة جسيمة، منها ضرورة التواصل مع أسرة الطالب لمعرفة وضعيته الأسرية، ومع وجود سجلات سنوية تسجل المستوى العلمي وملاحظة التقدم أو التدني في مستواه، حل مشكلاته الشخصية أو الاجتماعية وتقديم الحلول الناجعة له، مواصلة تشجيع الطلاب على ارتياد المكتبة والقراءة الحرة لكافة فنون المعرفة ومتابعة التيارات الفكرية، وعقد مسابقات لتحفيز همتهم، ووضع أسماء المتفوقين في لوحة الشرف، ولا مانع من وجود جوائز عينية وشهادات أدبية.

لا جرم أن نقول إن إنجاح العملية التربوية والتعليمية في مجتمعاتنا العربية تحتاج إلى تضافر مؤسسات المجتمع كافة، وأهمها تفعيل دور المسجد في نشر الوعي الديني وسماحة تعاليم الإسلام وبث الأفكار العقلانية، ومحاربة الآراء المتطرفة، وكذلك من المهم بمكان أن تتحدث وسائل الإعلام المسموعة والمرئية باللغة العربية لتصحيح نطقها وإشاعتها في المجتمع والارتقاء بها وتقديم القضايا الحيوية والموضوعات الهادفة إلى الجمهور المسلم، أضف إلى ذلك تكثيف مقرر التربية الإسلامية لإشاعة الحس الديني في نفوس أفراد المجتمع وترسيخ المفاهيم الإسلامية، فلا شك أن للوازع الديني أهمية كبرى في تعديل سلوك الأفراد وتقويمه. والله المستعان.